الخميس ١٥ شباط (فبراير) ٢٠٠٧
بقلم يسري عبد الله

ليلي أنطون بين اللعب العقلي وتعدد الرواة!

’إن الرواية هي المكان الذي تستطيع فيه المخيلة أن تتفجر كما لو كان الأمر في حلم’، وفي روايته (ليلي أنطون) تبدو المخيلة الروائية لنائل الطوخي متماسة مع مقولة (ميلان كونديرا) السابقة، طارحة عالما روائيا مثيرا، يعتمد الإدهاش تقنية أصيلة يرتكز عليها النص.

بدءا من المفتتح نصبح بإزاء لعبة عقلية يبدو فيها (الراوي العليم) ممتلكا حضورا خاصة ومهيمنا علي آليات السرد الروائي، مقررا الحكي عن الشخصية المركزية في الرواية (ليلي أنطون)، مشككا في وجودها المادي، وملقيا بتبعة الحكي عنها إلي شخصيتيه المصنوعتين (سعاد) و(أمنية)، لتحكي كل منهما عن (ليلي أنطون) وفق رؤيتها الخاصة.
يسلم (السارد الرئيسي) إذن مقاليد الحكي إلي (رويين داخليين) سعاد وأمينة راصدا عبرهما مصائر شخوصه (ليلي أنطون، الأزواج الخمسة، لبيب عازر، ليليان.

تتخذ الرواية من الاستبطان لجوهر الذات والأشياء سبيلا لها، ومن ثم فهي تشبه اللعبة العقلية التي يمارسها الروائي المولع هنا بمطارحة الأفكار، وتدويرها علي أكثر من وجه، وبذا تبدو ثنائيات (الذات/ الموضوع)، (الماهية/الوجود) تعبيرا عن ذهنية النص واحتفائه باللعب العقلي.

إن الاستبار الحقيقي لجوهر هذه الرواية يستلزم ¬في /رأيي¬ ضرورة النظر إلي (المظان/المصادر) الأصلية التي تتماس مع هذا النسق الكتابي، حيث يتواشج المنحي الروائي هنا مع ماطرحته حركة الأفانجارد أو الادب الطليعي في أوربا Avantgard والتي رأت أن العذاب الإنساني عذاب سرمدي لافكاك منه، وأنه يولد مع المرء (مثلما وجد مع اللحظة الأولي لولادة ليلي أنطون علي الورق) ، ومن ثم يتزامن (بناء الرواية) مع (انتهاك) الشخصية المركزية (ليلي أنطون)، كذلك نجد الشخوص في الرواية مصنوعين علي عيني الكاتب، فهم أبناء للاستبطان والتأمل الذاتي، لذا فهم يعانون القلق والاضطراب والقهر والعدمية التي تنبيء عن الغربة المطلقة للإنسان، وهذا ما يبدو بارزا في شخصية (لبيب عازر) الموزعة بين عالمين متناقضين، يبرزهما الاختلاف المستمر في تعاطيه لاسمه (عازر) حينا، و(آزر) حينا آخر، لنصبح بإزاء تآكل يجتاح الشخصية بفعل تمزقها الداخلي بين انتماءين ليس بهيمن حسم أيهما الحقيقة وأيهما المسخ؟!
يجسبغ (نائل الطوخي) توصيفات حسية علي أشيائه المعنوية، بما يمنحها حضورا خاصا يتماس مع اتكاء النص علي فكرة (اللعبة العقلية) المشار إليها، حيث تصبح للحنين والكبرياء والغضب مدلولات مادية ملموسة تتبدي بكثافة داخل الرواية: ’في البدء نما الغضب في باطنها، صارت ذرة غضب تنقل لهيبها إلي ذرة أخري، مضي الغضب يطقطق بداخلها، تدريجيا اكتسح كل شيء).

وتبدو تقنية صيغ المعنوي يطابع مادي هنا محاولة للقبض علي الأشياء، لاعبر أنسنتها، بل من خلال منحها دلالات ملموسة تكشف عن تأمل مغاير للأشياء.

إن (الرغبة) في الرواية كفيلة بتخلق الشخوص واندثارهم في الآن نفسه، ومن ثم تصبح شخصية (ليلي أنطون) قامعة لمن حولها، وسادية لأبعد الحدود، ويصبح عالمها مستعصيا علي الإدراك رغم المحاولات المتكررة للاقتراب منه (سواء من السارد الرئيسي أو من الرواة الداخلين)، لينتهي النص في النهاية بمحاولة (ليليان) إعادة الكرة من جديد بالكتابة عن (ليلي) بعد أن تخلصت بالقتل (أمنية) الراوي الداخلي المتبقي بعد انقضاء حكاية (سعاد) وانتهائها عن (ليلي أنطون).
إن مطارحة الأفكار ودورانها جعلت الراوي يمنح متلقيه تنبهِا داخل الرواية بضرورة الرجوع إلي إحدي الفقرات في الفصل الأول، وإذا اعتبرنا هذا الأمر بمثابة اللعب السردي مع الملتقي ، فإنه من زاوية أخري يعد تعبيرا دالا عن ذهنية النص وانحيازه للعب العقلي.

ويشيع داخل النص قدر من الحسية العارمة والمتوحشة التي تتواءم مع الشخوص المعذبين داخل الرواية، ليصبح هذا المنحي الإيروتيكي كاشفا عن اضطراب العلاقات بين الشخوص، وممثلا لاختلالها الدائم.
إن الإغراق في اللعبة العقلية يجفقد النص متعته، وأظن أن التكثيف، واللغة المختزلة التي كتبت بها الرواية أسهما في مغالبة هذا الأمر إلي حد كبير ، فجاءت الرواية خالية من أي ترهلات في بنيتها الفنية، معبرة عن إحكام نصي بالغ الخصوصية.

وتجدر بي الإشارة إلي أن (ليلي أنطون) تعبير عن منحي كتابي قائم في المشهد الروائي المصري، يتسم بالذهنية، التي يمكن تعاطيها علي أنها تعبير عن تعددية المشهد وثرائه لا انغلاقه، مع وجوب الإشارة إلي عدم تدشينها باعتبارها معبرة عن كتابة تملك آليات المجاوزة للسائد، إذ يظل دوما لكل منحي كتابي مواضعاته وتقاليده المعرفية والجمالية ، والتي تمنحه قدرا من الخصوصية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى