الجمعة ٤ نيسان (أبريل) ٢٠٠٨
في أثر الفراشة

محمود درويش يكتب عن بعوض عمان

بقلم: د. أفنان القاسم

أما آن لهذا الشاعر أن يكتب الرواية؟

تجيب الجوائز، ونحن، لمن يعطينا حكامكم؟ ليعطكِ حكامنا لغيره، فلا نخسره مرتين. هم أخذوا لهم الشاعر الذي فيه، فليتركوا لنا الروائي الذي فينا.

يعد قراءتي على انترنت (موقع وطن/أميركا) لمقتطفات من ديوانه الأخير "أثر الفراشة"، أدركت تماما أن الحدث في الواقع أقوى من القصيدة في الشعر، وأن القصيدة هنا نتفة من حدث يبقى ناقصا، يطالب بالمزيد من شاعر مقيد بسلاسل التقنية. النفَس الملحمي، الذي للشاعر باع طويل فيه، يختنق بعد عدة أبيات لا تتجاوز أحيانا عدد أصابع اليد إلا بقليل، والفكرة تُقضم لديه قضما، ولا تأخذ مداها في فكرِه. هذا الفكر، وذاك النفَس، إذا ما أضفنا إليهما الحوار كأداة قديمة ـ جديدة، تكون قد توفرت لديه العناصر الثلاثة من أجل كتابة الرواية. لِمَ كل هذا التردد إذن، وزمن ما ـ بعد الحداثة يلهث على أعتاب الحدث، فلا عودة القصيدة إليه تفي بالمطلوب منها، ولا القصة القصيرة تعانق الذات فيه، وتبقى الأولى كالثانية تعوم على سطحه؟

ربما يكمن الجواب في قصيدة "طباق" التي يهديها محمود درويش إلى إدوارد سعيد عندما يقول "المفكر يكبح سرد الروائي/والفيلسوف يشرّح ورد المعنى" في حديثه عن صديقه، وهذا صحيح نوعا ما، ففي كل روائي مفكر، وليس بالضرورة في كل مفكر روائي. ونحن، في الحالة التي ندرسها، هل نقول في كل روائي شاعر، وليس في كل شاعر روائي؟ من الملاحظ أن في كل قصيدة مشروع معنى يسعى الشاعر إلى بنائه، والشاعر الذي فيه روائي لهو قادر على الذهاب بعيدا بهذا المشروع إلى ما وراء القصيدة، فهل خلا محمود درويش من الروائي الذي فيه؟ لا أعتقد ذلك، هذا يعني أنه قادر على الرواية التي أطالبه بكتابتها، وهو حتما سيستجيب لمطلبي هذا مثلما استجاب لمطلبي ذاك يوم كان في السلطة، يرى ما يرى، ويسمع ما يسمع، ويظل أخرس، لا يفوه بكلمة واحدة في نقدها، فخرج عن صمته، وكتب قصيدته الشهيرة عن أبي عبد الله الصغير.

ماذا عن "أثر الفراشة"؟

"بينا كانت تمسك بالغيم توقفت اليد البيضاء فجأة فوق شوارع خارجية وهي تقوم بحركات كبيرة تعبة تذهب بالروح إلى مِنطقة من الأوباء والأعلام".

هنا نحن نقرأ لأول مرة في العالم العربي أول مقطع من أول قصيدة سريالية نثرية نقلها آراغون بداية القرن الماضي.

"على شاطئ البحر بنت. وللبنت أهل وللأهل بيت. وللبيت نافذتان وباب... وفي البحر بارجة تتسلى بصيد المشاة على شاطئ البحر: أربعة، خمسة، سبعة يسقطون على الرمل، والبنت تنجو قليلا لأن يدا من ضباب يدا ما إلهية أسعفتها، فنادت: أبي يا أبي!"

وهنا نحن نقرأ بداية "البنت/الصرخة" قصيدة كتبها محمود درويش أول هذا القرن، والذي يعيد فيها عن غير قصد منه إلى حقل استعاراته، مائة سنة فيما بعد، صورة اليد الضبابية. هي صدفة وليست صدفة، لأن التمثل يؤدي إلى التماثل. ويبدو التماثل أكثر بين الروح التي تذهب بها اليد الضبابية والبنت التي تسعفها اليد نفسها، وإن ألقت الأولى والثانية في فضاءٍ معادٍ حيث القتل والأوباء. هو فضاء واحد في القصيدتين، لأن التمثل، من ناحية ثانية، لا يؤدي فقط إلى التماثل، ولكن أيصا إلى التطابق.

"نثر وشعر يستخدمان الكلمات نفسها، التراكيب النحوية نفسها، الأشكال نفسها، والأصوات أو الأجراس نفسها، ولكن تم تناسقها بشكل مختلف، وتمت إثارتها بشكل مختلف". كتاب "اللغة الشعرية من الألسنية إلى منطق القصيدة" لدانيال بريوليه منشورات ناتان باريس 1984.

نحن نقرأ هنا ما يقوله فاليري في وصف النثر والشعر تحت شرط التماثل والإختلاف، ويمهد في الوقت ذاته إلى القصيدة النثرية كمزيج من هذا وذاك، رُوْح "أثر الفراشة" الذي يذيله الشاعر بكلمة "يوميات" هو كذلك، مزيج من هذا وذاك، فيتماثل ـ إن أحسنا القول ـ التماثل والإختلاف بعد أن تمثل القائل بقول فاليري.

أيمكن أن نعزو ذلك إلى صفة القصيدة النثرية أم إلى صفة الكلام؟ للغة العربية خصائصها كما للغة الفرنسية، ومن هذه الناحية لا تماثل بينهما إلا فيما تلقيه صدف التمثل، أما فيما يخص خصائص القصيدة النثرية أيا كانت اللغة التي تكتب فيها، تبقى الخصائص هي الخصائص، فالتقنية واحدة، بمعنى أن التماثل واحد، والإختلاف فيها هو تماثل في آخر المطاف.

استنتاج
:

من الناحية التقنية، لا جديد في هذه القصائد، بالمقارنة مع أخرى، حتى مع تلك التي كتبت بلغة أخرى في أوائل القرن الماضي.

تبقى الناحية الكلامية، وما يهمنا وظائف الكلام، فهل من جديد في هذه اليوميات؟

لجاكوبسون وظائف الكلام ستة: تعبيرية، مرجعية، شعرية، قولية، محاولاتية، وتقعيدية لغوية. سأركز على اثنتين، المرجعية والتعبيرية، وسأترك بقية الوظائف لدراسة أخرى.

لماذا الوظيفة المرجعية؟ لأن القصائد/اليوميات مرجعها السياق، وبكلام آخر عالم الأشخاص والأشياء التي تلخص عالم الشاعر، ما يُرجع إليه أو ما تَرجع إليه الإشارة اللغوية. في البنت/الصرخة المرجع هو البنت التي قتل الجنود الإسرائيليون أفراد أسرتها وهم يتشمسون على الشاطئ، في ذباب أخضر المرجع هو الطائرات الهوائية الإسرائيلية ذات المرمى التي تَغير فتقتل من تقتل وتوابيت القتلى، في كقصيدة نثرية المرجع هو الشاعر المريض الذي خفت حماسته وراح يمشي بلا هدف، في ليتني حجر المرجع هو الشاعر الذي لا يحن إلى أي شيء، في أبعد من التماهي المرجع هو الشاعر الجالس أمام التلفزيون، في العدوّ المرجع هو القتلى/الشهداء، في نيرون المرجع هو نيرون، في الغابة المرجع هو صوت الشاعر، في البيت قتيلا المرجع هو البيت الذي نسفه جنود الإحتلال... إلى آخره.

استنتاج
:

من الملاحظ أن مراجع الشاعر كلها واقعية حقيقية، وهذه هي صفة اليوميات، وهي تتراوح بين أن تكون يومياته أو يوميات الناس، لنقل بين أنا وهم، حتى عندما يلجأ إلى الترميز في قصيدة نيرون، القارئ يفهم دون عناء أن المعني هو بوش أو أي حاكم آخر مستبد. هل يعني ذلك أن المرسل إليه، أي القارئ، قد تم إقناعه، وبكلام آخر قد انفعل مع القصيدة دون اللجوء إلى مخاطبته بضمير أنت؟ أهمية أنت وأنتم كبيرة في الشعر الغنائي، وهما ركن أساسي في الكلام الشعري، يقوم عليهما التوصيل ومحاولات الشاعر للوصول إلى القارئ.

هنا آتي إلى الوظيفة الثانية، الوظيفة التعبيرية، الإنفعالية، والتي هي ذات اتجاهين، من الشاعر إلى القصيدة، ومن القصيدة إلى القارئ، في حالة قصيدة محمود درويش سوف نغفل التوصيل على أساس فعل المخاطب، فهي عنه لا له، وإن جرى ذلك ضمنيا. وسننظر إلى التعبيرية في هذا الديوان من ناحيتها الأهم، ألا وهي ناحية ارتباط الإشارة بالموضوع، أي "تشعير" القصيدة "كنشاط منتج للخيال والذاكرة أو كما يقال كانفعال بها.

الموضوع واحد في كل القصائد، الموت، تحت كامل مترادفاته، القتل الحقيقي أو المعنوي أهمها. لكن الإشارة إليه متعددة، تأخذ منحى متعرجا دائما، وتنتهي بخاطرة هي أقرب إلى الحكمة. في البنت/الصرخة مصرع الأب يمضي بالصمت "لم يجبها أبوها المسجى على ظله"، وينتهي بالصراخ "تصرخ في ليل برية" "هي الصرخة الأبدية"، إشارة إلى عدم اكتمال الصراخ، وبالتالي عدم اكتمال الموت، واستمرار الفاجع. الشيء نفسه في ذباب أخضر، "القتلى هم الذين يتجددون. يولدون كل يوم"، إشارة إلى دوام الفاجع، وشموليته "عائلة واحدة لا تترك وراءها أيتاما وثكالى"، وهو هنا أقوى من كل شيء. وفي ليتني حجر يتحول الفاجع لهوله إلى نوع من التشيؤ، "مثل منحوتة"، متقمصها الشاعر في رجائه "من عبث اللاضروري" إلى حد أنه يطلب التحول إلى حجر ليستعيد إنسانيته "كي أحن إلى إي شيء". لكن أمر الإشارة هنا يبقى في إطار الزينة اللفظية لسببين، الأول: عبث اللاضروري أينه من غير صورة الحجر الأحن من قلب، ثانيا: الفاجع أقرب إلى الفذلكة اللفظية عندما يوجد في صورة العبث لا في تفاصيل هذا العبث صورة وفكرة وإنشاء. لهذا تجيء الخاطرة/الحكمة التي يختم بها الشاعر القصيدة، التي هي القصيدة، مجانية "يا ليتني حجر كي أحن إلى أي شيء"، تأتي من انفعال محدود، وتؤدي إلى فعل محدود.

المجانية لدى محمود درويش صفة "للكوجيتو": "لا شيء يثبت أني موجود حين أفكر مع ديكارت"، مجانية العبث ومجانية الإشارة، هو يقول "المجاز"، في قصيدة أبعد من التماهي، ويتكلم عن "بطولة المجاز" كما لو كان يكتب عن بيروت عام 82، "فلا أمس يمضي، ولا الغد يأتي" بالنسبة إليه، لم تغير عشرات السنين ولا انتصارات المقاومة اللبنانية شيئا من نظرته إلى الأشياء "أعلم أن الوحش أقوى مني في صراع الطائرة مع الطائر"، وهو لا يعلم، لم يعد يعلم، يحتار عند مقاربته للواقع، وعند التعبير عنه، حتى إن حوار المسافر والمسافر في "نسر على ارتفاع منخفض" يذكرنا ب"جندي يحلم بالزنابق البيضاء" مما يدل على ثبات الشكل الحواري لديه لثبات التشكل. ومثل أدونيس الذي يتبجح حين يعيد "ليست هناك حرب عادلة" وقصده الكشف عن الإنساني ومطاردة الكوني والوجودي (كذا)، يقول "وعاد الجيش المهزوم أو الظافر، لا فرق"، فالحرب له في نهاية المطاف وفي إشارتها العبثية/العابثة غير عادلة (كذا)، والأنكى من كل هذا أنه يساوي بين قتلانا وقتلاهم "أما القتلى من الجانبين، فلا يدركون إلا متأخرين، أن لهم عدوا مشتركا هو الموت"، فيقع تحت طائل "الحكمة" التي طبعت قصائده، ليستحكم عليه الكلام. أهي حكمة العبث أم عبث الحكمة؟ إنه عبث الحكمة التي جردتنا من عبث الحياة عندما ساوت قتلانا بقتلى أعدائنا. ويضطره عبث الحكمة إلى التلاعب اللفظي في نفس القصيدة "انتصرنا لأننا لم نمت، وانتصر الأعداء لأنهم لم يموتوا"، يريد أن يفند هذا، فيسقط في التفسير الإفتراضي الذي يضيّع ويشتت، ويجعل من المفاهيم أحكاما، كما بقول رولان بارت، تلتغي معها قداستها (البطولة، الإنتصار، الشهادة...)، ولكن الخطورة كل الخطورة تكمن في انعدام الفواصل بين المعاني (للبطولة عدة معانٍ) في صالح المعنى السلبي الذي يرمي الشاعر إلى الكشف عنه ليؤكده دون غيره، ويغدو كل شيء لا نفع له (لِمَ البطولة إذن؟) حتى إن إدراك أمر جسيم كالموت يصبح متأخرا، بعد أن يجري الموت ويحل العدم.
أما في قصيدة "مكر المجاز" الإنتصار واحد كالهزيمة (كذا)، وقد انتهى عهد المجاز، ألا يفهم الشاعر أن الفعل في الواقع اليوم أقوى من المجاز، جوع غزة ليس مجازا، ودم العراق ليس مجازا، وعمالة الدالاي لاما للمخابرات الأمريكية ليست مجازا، كل هذا يعني "بطولة" شيء ما، والبطولة تتحقق كل يوم في صمود المقاومة في العراق ولبنان وغزة، وهي كالهزيمة ليست مجازا، فإسرائيل كأمريكا والأنظمة العربية يمكن هزيمتها. البطولة المجاز إذن ليست موجودة إلا في ذهن الشاعر الذي "لا حاضره يتقدم أو يتراجع"، والبطولة الحقيقية ليست مجرد "واجب شخصي"، كما يقول في قصيدة تحمل نفس العنوان، لها "تاريخ انتهاء صلاحية كمعلبات السردين"، وليست "كلمة لا نستخدمها إلا على المقابر" كما يقول في قصيدة عدو مشترك. في واقع الشاعر الساكن كل ما هو إيجابي مجاز أو فعل منتهٍ أو إنساني ميت، أما البعوض، وقد أخذ رمز كل ما هو سلبي، الرمز جِد ضعيف، فحقيقي: "البعوضة، ولا أعرف اسم مذكرها، ليست إستعارة ولا كناية ولا تورية" (من قصيدة البعوضة)، فنهل الفاجع لديه من قرص البعوض والصراع معه؟

حقا إنها يوميات شاعر "أحكمته التجارب"، تجربة البعوض أهمها، وأثرها أو إشارتها من قرصها، فكان من الأجدر تسمية ديوانه "أثر البعوضة"!

استنتاج
:

محمود درويش في هذه القصائد لا يراوح فقط في مكانه بل يرتد أيضا إلى الوراء ليكتب قصيدة سبعينية أو ثمانينية عقيمة. المتخيل لديه يحتاج دوما إلى "نميمة" لغوية، وإلا ما اكتملت القصيدة، وما انتهى المعنى ب"حكمة".

بقلم: د. أفنان القاسم

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى