الثلاثاء ١٥ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٨
مرايا الغياب.. حضور الغياب
بقلم عادل الأسطة

محمود شقير في يوميات الحزن والسياسة

"مرايا الغياب: يوميات الحزن والسياسة" (2007) آخر إصدارات الكاتب القاص محمود شقير الذي أصدر من قبل ستة وعشرين كتابا، ما بين مجموعة قصصية وقصص للأطفال وروايات للفتيان ومسرحيات ورحلات. ويختلف هذا الكتاب في أنه استحضار لعلاقات مؤلفه لشخصيات عرفها: لأخته أمينة التي توفيت في سن مبكرة، ولسليمان النجاب القائد في الحزب الشيوعي الفلسطيني، ولبشير البرغوثي أمين عام الحزب لفترة طويلة، ولمؤنس الرزاز الأديب الأردني عضو حزب البعث العربي لفترة.

وهذا الكتاب، إلى جانب كتابين آخرين هما: "ظل آخر للمدينة" (1998) و"مدن فاتنة وهواء طائش" (2005)، يصلحون لأن يدرسوا على أنها كتب سيرة ذاتية للكاتب، وسيرة للأماكن التي عاش فيها في الفترة التي أقام فيها في المكان/ الأماكن، ذلك أن الكاتب يكتب عن تجربته في المكان وما ألم بالأخير حين كان يقيم فيه.

"مرايا الغياب: يوميات الحزن والسياسة" يصلح أيضا لأن يكون، في جانب منه، سيرة للحزب الشيوعي الذي انتمى إليه شقير، وما زال يكن له الاحترام والتقدير، بخاصة أن شقير يأتي في الكتاب، كما لاحظنا، على اثنين من أبرز رموز الحزب، ويبين صلته بهما، هو الذي انتمى مبكرا إلى الحزب، وظل، لمدة أربعين عاما ويزيد، على صلة به، وما زال.

وشقير الذي يبرز صورة إيجابية للحزب ورموزه، يقوم أحيانا بمراجعة لبعض المواقف التي كان يعتقد، في زمن مضى، أنها على قدر كبير من الصواب، ليكتشف أنها ليست كذلك. كان شقير ورفاقه، وهم داخل الحزب، لا يبصرون ما كان يراه في بعض من كانوا خارج الأحزاب الشيوعية، هؤلاء الذين كانوا ينقدون الأحزاب الشيوعية التي تدور في فلك موسكو ولا تحيد عن خط حزبها. وسيقارن شقير بين الأحزاب الشيوعية في أوروبا وبين حزبه، ليكتشف، الآن، زمن الكتابة، انها كانت أكثر صوابا مما كانت عليه الأحزاب في العالم العربي، ممن لم يقو أعضاؤها على نقد سياسة موسكو والحزب الحاكم فيها، وما يتصف به من بيروقراطية.

طبعا سيبرز شقير صورة إيجابية لسليمان النجاب ولبشير البرغوثي، وسيأتي على أهم ما امتازت به شخصية كل واحد منهما، وسيكتب عما عرفه، عن قرب، ولفترة طويلة، عن سليمان وبشير.

وسيكون هذا الكتاب مهما لمن يدرس شقير كاتبا وسياسيا. ففيه يأتي الكاتب على فترات انقطاعه عن الكتابة لانشغاله بالسياسة. ولطالما توقف شقير عن كتابة القصة القصيرة، لفترة طويلة من الوقت، لانشغاله بالنشاط السياسي (ص164 على سبيل المثال)، وكنت أنا، وأنا أدرس القصة القصيرة في الضفة والقطاع ما بين 67 و1981، أتيت على هذا الجانب، فلم ينتج شقير ما بين 67 و1975 سوى قصص قصيرة قليلة جدا، لأنه بعد الهزيمة، هزيمة حزيران، توقف عن كتابة القصة لانشغاله بمقاومة الاحتلال.

في "مرايا الغياب" نحن أمام أديب يكتب، لا أمام سياسي يكتب. من هنا نجد المؤلف يلتفت إلى الكتابة من حيث هي نص أدبي. ثمة اهتمام باللغة وآخر بالشكل، فليس هم شقير إيصال المعلومة وحسب، إنه معني بإيصالها بأسلوب أدبي أيضا.

وسنجد أنفسنا، ونحن نقرأ الكتاب، أمام زمنين: الزمن المسترجع- أي زمن حدوث الأحداث، والزمن الكتابي- أي ما كان عليه شقير من آراء وأفكار وتصورات وهو يكتب. وأحيانا يكون الزمنان بعيدين، كما في الفصل الأول، حين كتب عن أخته أمينة وعلاقته بها، وأحيانا يكونان متقاربين، كما كتب عن علاقته ببشير في الطليعة. ماتت أخته أمينة قبل حرب حزيران، اما سليمان وبشير ومؤنس الرزاز فقد ماتوا في بدايات الألفية الثالثة تقريبا، وظل على صلة بهم. كان محمود، حين ماتت أخته، في شبابه، وحين كتب عنها غدا في الستين من العمر، وما بين الزمنين ألمت به تطورات كثيرة، ومر بتجارب كثيرة، ومن هنا نجده يعيد النظر فيما اتخذه من مواقف، ولو كان على ما غدا عليه، ولو امتد العمر بأخته أكثر لفعل وفعل وفعل. أمنيات محمود شقير هذه مردها إلى وعيه الفكري والسياسي وتجاربه المتنوعة.

وفي كثير من صفحات "مرايا الغياب" نجد أنفسنا أمام كاتب إنسان. صحيح أن شقير إنسان سياسي، وكان للسياسة حضور كبير في حياته، إلا أنه في نظرته لكثير من الأمور كان ينطلق من منطلقات إنسانية، وفي مواطن عديدة أشار إلى أن رؤيته كانت على قدر كبير من الرومانسية، وهذا ما لم يكن مثلا عليه السياسيون المحترفون، ممن يكونون أدباء، إذ كانوا سياسيين في تعاملهم مع كثير من القضايا، يغلبون مصلحة الحزب على غيرها. طبعا هذا لا يعني إنهم، بخاصة الذين كتب عنهم، كانوا مجردين من المشاعر الإنسانية، فلقد كانوا يضحكون ويمزحون ويسخرون ويحزنون أيضا.

وربما يبدو "مرايا الغياب"، في جانب منه، مهما لمعرفة النصوص الأدبية التي قرأها شقير، وتأثر بها، شخصا وكاتبا. وسيذكر أسماء كتاب وروايات، بخاصة من الأدب السوفيتي، تركت أثرها فيه وفي كتاباته، واتخذ مواقف في حياته وهو يستحضرها. إن الصورة التي شكلها لـ(لينين) كانت مستمدة في جانب منها من الأدب الروسي، وإن صورة الحزبي وكيف ينبغي أن يتصرف كانت مستمدة من روايات قرأها، مثل رواية "الأم" لـ(مكسيم جوركي)، وحين كان يرى صورة مغايرة في الواقع كان يفاجأ، لأن ما قرأه غير ما يراه.

وسيلحظ القارئ أن شقير، في فترة متأخرة، وتحديدا بعد انهيار الإتحاد السوفيتي، أخذ يعيد النظر في موقفه من الآداب التي كان معجبا بها، إذ لم تعد ترضي تطلعاته الجديدة، وقد أتى شقير على هذا في مقالات عديدة كتبها، وفي مقابلات عديدة أجريت معه، فلم يعد فهمه للواقعية الاشتراكية كما كان في بدايات حياته. كان فهمه فهما ساذجا مسطحا، كما يقول.

وسيتذكر قارئ "مرايا الغياب" وهو يقرأ ما كتبه الكاتب عن سليمان النجاب نماذج أدبية قيلت في الشخص نفسه، ترسم له صورة مشابهة أحيانا. سيتذكر المرء قصيدة محمود درويش في سليمان النجاب، قصيدته التي نشرها في ديوانه "لا تعتذر عما فعلت" (2003). كان سليمان ذواقة للأدب والشعر، يبدي رأيه فيما يكتبه الكتاب، وينقل رأيه إليهم.

وحين يكتب شقير عن أديب غاب، مثل مؤنس الرزاز، يكتب عن علاقته به، ولا يكتفي بذلك. إنه يكتب رأيه الذي شكله من قراءته الأولى، ورأيه الذي شكله من قراءته الثانية التي أنجزها بعد موت مؤنس. وسيربط شقير الذي عرف مؤنسا عن قرب، سيربط بين صاحب الروايات وأبطالها. كأنما كان مؤنس يعبر، على لسان بعض شخصيات رواياته، عما يعتمل في ذهنه هو. وسيبدو شقير هنا ناقدا أدبيا لروايات الرزاز (ص162). بل إننا نلحظ ما هو أبعد من ذلك، إذ سيأتي شقير على رأي مؤنس في قصص شقير، وسيفيد منه، وسيبدي لنا رأيه في بعض قصصه التي كتبها وهو واقع تحت تأثير أيديولوجيا الحزب، ولن تعود تلك القصص تعجبه. إن "مرايا الغياب" لا يكتب عن الغياب فقط، إنه يكتب عن شقير، وهكذا سيفيد منه دارس أدب شقير دراسة كبيرة أيضا، فهو في جانب منه سيرة أدبية للكاتب.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى