الأحد ٢١ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٨

مقدسيّون في محبّة القدس!

بقلم: طلال حمّاد

أثناء تصفّحي للمواقع المعنيّة بالقدس، وتلك الطارئة عليها، حيث بدأت بالأولى، وذهبت إلى الثانية، ثمّ وجدتني أعود للأولى، لامتعاض ما أصابني، ممّا احتوت عليه الثانية في معالجتها لموضوعة القدس. فوقعت علي مقالة بعنوان (واحسرتاه يا قدس)(!؟).

شدّني هذا العنوان، أو لنقل أنّه أعادني بذاكرتي، إلى الوراء، أكثر بسنوات من نصف عمري اليوم، الذي لن أقول لكم بأنّه الآن على أبواب ال 58 سنة. فهل اكتشفتم بقدرتكم على الحساب، إن كنتم شاطرين في الرياضيّات، متى حدث هذا؟ بعضكم سيقول بأنّه حدث قبل ولادته. وبعضكم سيدّعي بأنّه كان في قماطه قبل أن يحدث. والبعض الآخر.. سيبحث عن عذر من بلاد الشمال، حيث الثلوج تغطّي ما تحتها، وما تحتها عظيم، ويقول: أنا لم أكن هنا عندما حدث هذا. أين كان؟ غير مهمّ أن نعرف أين كان قبل اليوم الذي.. هل أقول عاد فيه، وما هي هذه " العودة" التي كنّا ننتظر.. وما زلنا نناضل كي تتحقّق.

في ذلك الوقت، كانت القدس، وكان أهلها، غير ما هي، وما هم، عليه الآن. وما هي، وما هم عليه الآن، غير ما كانت، وكانوا عليه. هل يحتاج الأمر إلى تفسير؟ سيلجأ البعض إلى تبرير. وسنجد أنفسنا بحاجة إلى أن.. نحافظ على ما تبقّى في أيدينا لكي نمنع وقوعنا في الأسف. هل قلت الأسف وحسب؟

قد يشعر البعض بأنّني غير واضح. وأنّني أتملّص من الإجابة الواضحة، والصريحة، عن أسئلتي، التي أطرحها بنفسي. أو أنّني أتكتّم عليها.. خوف أن تقع في أيد (غير أمينة). نعم. أنا أفعل ذلك.. ليس خوفاً من أحد. لا عدوّ ولا صديق. ولكن حفاظاً على قليل من الكرامة، تستاهل كلّ ما ظلّ لنا من كرامة، ومن إباء.. ومن قدرة على.. المقاومة. هل قلت المقاومة؟ نعم. المقاومة. لكن بدون مساومة، ليس على حقّ وحسب، وإنّما على.. عذابات أهلنا.. هنا، وهناك، من فلسطين المقطّعة الأوصال، داخل جدران أسرها، وفي منافيها العديدة.

هل بلّغت؟ فليشهد الأحياء، وليعذرني الأموات.. لأنّني أعزل، من كلّ سلاح، بفعل فاعل، نعرفه، ونعرف عنه الكثير، ولا يعرف هو.. أنّنا لو شئنا، نسمح ولا نسامح، وأنّنا نعفو ولا نغفر.

(واحسرتاه يا قدس) إذن، هو عنوان كتاب لأستاذي، في الصفوف الابتدائيّة، المرحوم (محمّد أبو شلباي).. الذي لم يسلم من (الأذى) حين أصدر كتاباً آخر له بعنوان (الحلّ دولتان)، أو شيء من هذا القبيل. وهو أيضاً عنوان مقالة، نشرها موقع القدس عاصمة للثقافة العربية، التابع للمسرح الوطني الفلسطيني، ويصدر من القدس المحتلّة نفسها، للدكتور وائل أبو عرفة، الذي لا أعرفه، لتقدّمي عليه في السنّ، ولكنّني أتّفق معه فيما ذهب إليه، من تشريح ما ألمّ بها من أوجاع، نتيجة أوبئة دخيلة، فيروسيّة يقول البعض.. وما اتّفاقي معه، على ما آل إليه حال القدس، وحالنا في القدس، إلاّ تحصيل حاصل، لما فعله، وما زال يفعله، المتنازعون من بيننا، وفينا، على قيادتنا.. نحو الهاوية الأخيرة. وليس هذا رأيي وحدي. إسألوا المقدسيين عن حالهم.. وعن شعورهم.

قال الدكتور وائل، ولم أقل له أن يقول:

قبل أكثر من ثلاثين عاما أصدر الأستاذ المرحوم محمد أبو شلباية كتابه أو صرخته الشهيرة (واحسرتاه يا قدس).

في ذلك الوقت، كانت الأسئلة كبيرة، والآمال أكبر، ولم نكن قد وصلنا إلى هذا المنحدر الأخلاقي الخطير، الذي يهدد وجودنا جغرافيا واجتماعيا. سألته يومها – ولم أكن قد بلغت السادسة عشرة- ما هذا التشاؤم يا أبا مؤنس؟ فأجابني بمزيج من المرارة والسخرية، إنها الحقيقة يا بني، أرجو أن لا أعيش إلى هذه المرحلة حتى لا أرى تلك الحسرة بأم عيني.

ورحل أبو مؤنس وبقينا نحن اللاحقون نتجرع كأس المرارة قطرة قطرة، نراقب انحسار القدس وذوبانها دون حول لنا أو قوة، ولسان حالنا أن حسبنا الله ونعم الوكيل.

كانت القدس بالنسبة لي عدا عن أنها مسقط الرأس. توأم الروح، وملعب الطفولة، وأحلام الصبا وعنفوان الشباب. عرفتها منذ نعومة أظافري قطعة قطعة، وحارة حارة، وزقاقا زقاق. بقبة صخرتها الشامخة منذ عبد الملك بن مروان، وبكنيسة قيامتها الراسخة منذ حمل الفلسطيني الأول صليبه في طريق الآلام حتى اليوم، وعرفتها في أناسها الطيبين بكافة أطيافهم ومشاربهم. ولم أكن أتصور في يوم من الأيام وأنا على مشارف الخمسين، أن أقف أمام سورها العتيق، لأردد صرخة أبي مؤنس، وا حسرتاه يا قدس.

لا أدري كيف ولماذا اقتحم أبو مؤنس منامي وكأنه امرؤ القيس، جاء لزيارتي قبل بضعة أشهر وأنا أحتسي القهوة على درجات باب العمود، ليذكرني أن الشعر ما زال يغرس جذوره في ذاكرة اللغة، فلماذا تبتعد عنه؟

فأجبته وأنا في حيرة من أمري، أحاول أن أقترب منه بقدر ما تقترب القدس من قلبي، ولكنني كلما اقتربت منها شبرا، سحبها خفافيش الليل مني أمتارا إلى الوراء، ليسرقوا منها كل ما خف وزنه وزاد ثمنه، فيعيدونها خالية خاوية، ليعيدوا الكرة عندما تمتلئ مرة أخرى بالنفائس وتخوى جيوبهم مما سرقوا، فكيف لي وأنا على هذه الحال، أن اجرؤ على مقارعة الشعر، أو أستعيد ذاكرة اللغة.

ومن هم هؤلاء الخفافيش؟ وكيف تخشاهم وتخاف منهم؟ وأنت الشاعر العاشق لتراب القدس – على حد قول صديقك درويش- حتى التعب. وأنت الطبيب الجراح الأشهر، حامل المبضع الحاد. ولماذا لا تغرس مبضعك لتخرج ما بداخلهم من نوايا سيئة وأحقاد شريرة. أو تفضحهم بقلمك وشعرك أمام الملأ. لله درك يا أبا مؤنس، ألم تعد تعرفهم؟ هؤلاء الخفافيش هم نفسهم الذين تنبأت بهم قبل ثلاثين عاما. لم يستجد عليهم شيء سوى أنهم بدلوا جلودهم أكثر من ألف مرة، وتكاثروا كالخلايا السرطانية في الجسم المنهك، وانتشروا في أركان البلاد كالنار في الهشيم. يسابق بعضهم بعضا في فنون السرقة والاحتيال ونشر الرذيلة.، يتشدقون بالوطنية وما تحت جلودهم إلا الإقليمية المقيتة والمصالح الشخصية الضيقة. ويتباهون بالتسامح، والطائفية المقيتة الضيقة بوصلتهم للتسلق والوصولية. وبفضلهم أدام الله عزهم صار المنافق هاديا أو داعية، والجاهل رئيسا لإحدى اللجان أو مديرا لمؤسسة يشار إليها بالبنان. وهاجر المخلصون وأصحاب الكفاءات أو بقوا صامتين في أماكنهم كالأيتام على موائد اللئام. والله على ما أقول شهيد. دحرني أبو مؤنس بنظرة اشرأبت لها أعصابي، وأذابت دمي في عروقي وقال: لم أتوقع ما وصلت إليه من تشاؤم حتى في أسوأ كوابيسي. فأجبته ذائبا من الخجل: هذا ما قاله لي امرؤ القيس أيضا قبل وداعه لي وانسحابه دون أن ينبس ببنت شفة.

لله درك يا أبا مؤنس، ويا حسرتاه يا قدس .

شكراً لوائل الدكتور. شكراً لوائل المقدسيّ الغيور. وأقول: لله درّك يا قدس. والسلام عليك يا أستاذي الطيّب ( لتعدّد الأسباب، ومنها تحمّلك لأذى ذوي القربى، الأشدّ مضاضة من أذى العدوّ وظلمه).

بقلم: طلال حمّاد

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى