الخميس ٨ أيار (مايو) ٢٠٠٨
يحيى يخلف
بقلم عادل الأسطة

من تفاؤل المنفي إلى خيبة العائد

يحيل نص يحيى يخلف القصصي "نهر يستحم في البحيرة" (1997) قاريء كتابات الكاتب الى نصوصه النثرية الطويلة الأخرى. وهي في حدود ما أعرف: نجران تحت الصفر (1975) وتفاح المجانين (1982) ونشيد الحياة (1985) وبحيرة وراء الريح (1991) وتلك الليلة الطويلة (1992). وثمة نص آخر ذكر عنوانه في ترجمة حياة الكاتب التي وردت في كتاب أعلام الأدب العربي المعاصر، وتحديدا في المجلد الثاني الصادر في بيروت عام (1996)، وهو "ورود حمراء على رصيف الثورة" (؟؟19) ، ولم آطلع شخصيا عليه كما لم أقرأ عنه ايضا.

ويمكن أن ترتب النصوص السابقة، بناء على الزمن الروائي لكل نص منها، ترتيبا آخر مغايرا لترتيب زمن النشر الذي تلا زمن الكتابة، لتصبح على النحو التالي: بحيرة وراء الريح، تفاح المجانين، نجران تحت الصفر، نشيد الحياة، تلك الليلة الطويلة، نهر يستحم في البحيرة.. فأحداث بحيرة وراء الريح تجري عام 1948، وتحديدا منذ شتاء 1948 حتى صيف العام نفسه، أي حتى أيام اللجوء ، فيما يؤرخ نص تفاح المجانين لحياة المخيم إثر النكبة مباشرة دون تحديد للزمن الروائي تحديدا ملموسا مضبوطا. وخلافا لهذين النصين تجري أحداث نجران تحت الصفر إبان الحرب اليمنية السعودية في الستينيات ولا يتجاوز زمنها الروائي خمسة وأربعين يوما، وتغطي نشيد الحياة الفترة الزمنية من شتاء 1982 حتى الأيام الأولى من حرب حزيران 1982 في لبنان، وتقتصر احداث تلك الليلة الطويلة على ليلة واحدة هي الليلة التي سقطت فيها طائرة الرئيس عرفات في الصحراء الليبية، فيما يسرد انا السارد في نهر يستحم في البحيرة ما حدث معه منذ عودته الى أرض فلسطين، إثر اتفاق اوسلو، حتى زيارته لقريته سمخ، وفيها لا يتجاوز الزمن الروائي الشهرين في اكثر الحالات، ولا أتفق هنا والناقد نبيه القاسم فيما ذهب اليه في مقالته التي كتبها عن الرواية ونشرها في دفاتر ثقافية (شباط، 1997) حين كتب: "فمن حيث الزمن، نراه يقصر زمن أحداث هذه الرواية على أربع وعشرين ساعة لا غير".

وإذا ما أجرينا مقابلة بين الزمن الروائي وعمر الكاتب في حين جريان الزمن الروائي لاحظنا ما يلي: تجري أحداث بحيرة وراء الريح يوم كان يحيى لا يتجاوز الأربعة أعوام، فقد ولد كما جاء في ترجمة حياته عام 1944، وتسير أحداث تفاح المجانين يوم كان طفلا لا يتجاوز العاشرة، وتختلف عن هاتين روايات الكاتب الاخرى، فقد كان عمره إبان احداث نجران تحت الصفر الثانية والعشرين تقريبا، وزمن أحداث نشيد الحياة الثامنة والثلاثين تقريبا، وإبان احداث تلك الليلة الطويلة الثامنة والأربعين، وإبان احداث نهر يستحم في البحيرة الخمسين عاما تقريبا.

ولم يتطابق الزمنان الكتابي والروائي إلا في ثلاث روايات هي نشيد الحياة وتلك الليلة الطويلة ونهر يستحم في البحيرة، فيما كان الفارق الزمني بين كتابة نجران تحت الصفر وزمن أحداثها حوالي عشر سنوات، وبين تفاح المجانين وزمن احداثها حوالي ثمانية وعشرين عاما، وبين بحيرة وراء الريح وزمن كتابتها حوالي اثنين وأربعين عاما.

ويعني الكلام السابق أن الكاتب كان يعتمد في كتابته على الرؤية والمشاهدة الآنية اللحظية تقريبا تارة، وهو ما يبدو في نشيد الحياة ونهر يستحم في البحيرة، أو على الذاكرة طورا، وهذا ما يبدو في نجران تحت الصفر وتفاح المجانين، أو على الاصغاء للآخرين تارة ثالثة، وهو ما يبدو في نصي بحيرة وراء الريح وتلك الطويلة، وثمة اختلاف ايضا بين إصغائه للاخرين، ففي حين أصغى في أثناء كتابة بحيرة وراء الريح لأناس قصوا عن تجربتهم قصا يعتمد على الذاكرة التي كادت تشيخ، اذ تقص الذاكرة عن فترة مرت عليها سنوات طويلة، أو أن القاص يكتب معتمدا على قص قديم، وفي هذه الحالة يعتمد على ذاكرته وما حفظت من القص السابق، نجده في تلك الليلة الطويلة يصغي الى أفراد عاشوا تجربة طازجة لم يمر عليها أسبوع أو شهر على أكثر تقدير.

يكتب يحيى اذن عن تجربة عاشها تارة، أو عن تجربة عاشها الاخرون وأصغى اليها فدونها طورا. ويضعه هذا في مكانة متوسطة بين الروائيين الفلسطينيين الذين اختلفوا فيما بينهم حين أنجزوا نصوصهم الروائية. ففيم يمثل غسان كنفاني تيارا بارزا تبدو أهم خصائصه عدم الكتابة عن تجربة ذاتية، نجد أكثر الروائيين يستوحون موضوعات رواياتهم وشخوصها من تجاربهم الذاتية ومن أنفسهم. (انظر مقالتي في الأيام 27/2/1997).

ولعل ذلك يعود الى غير سبب منها ما يتعلق بتربيته، وهذا ما يبدو من خلال قول السارد في تفاح المجانين عن أبيه وتربيته:

"كان والدا عابساً، فإذا جمعت شفتي وأطلقت صفير في لحظة صفاء ينتهرني، ويقول إن الصفير يجمع الشياطين كما أنه كان ينتهرني إذا أطلت النظر في المرآة، ويقول إن على المرء ألا يعجب كثيرا بنفسه، لأنه إذا أعجب بنفسه أصبح متغطرسا" (ص16، ص17).

ومنها أيضا اندغام يحيى، في سن مبكرة، في الثورة، وقد أدى هذا الى تراجع الالتفات الى الذات أمام الالتفات الى العام، فالالتفات الى الذات أمام ضخامة ما يجري على المستوى العام، حيث المأساة عامة، يبدو ضربا من التفاهة التي تشعر الانسان الواعي بحقارته.

ومنها أيضا ان يحيى أراد أن يؤرخ تارة لحدث ما، هو سقوط الطائرة، وطورا لحدث آخر غير فردي هو سقوط المدن والقرى الفلسطينية عام 1948، ولم يكن شاهدا على ما حدث، وثالثة لأحداث تمس جزءا من الوطن العربي الذي يشعر بالانتماء اليه، وبخاصة أنه يرى فيه بعدا ضروريا لأهل فلسطين وسندا لهم، وهذا ما انعكس بوضوح في بحيرة وراء الريح، وهو أيضا ما أتى على بعضه، وان بطريقة غير مباشرة، في نجران تحت الصفر التي صوّر فيها مأساة ما حدث في نجران في الستينيات.

نهر يستحم في البحيرة : رواية الخيبة.

يقص أنا السارد، وهو سارد مشارك، في قصة "نهر يستحم في البحيرة" الطويلة عن تجربة العودة التي يعيشها شخصيا. وهو مواطن فلسطيني عاش قبل عام 1967 فترة من الزمن في مدينة رام الله، وينتمي أهله الى قرية سمخ التي ولد شخصيا فيها، وهي قرية تقع قرب بحيرة طبرية، وكان أهل القرية قد غادروها إثر حرب 1948 يوم كان السارد طفلا صغيرا. وعلى الرغم من الهجرة فقد ظلت سمخ تعيش في خياله حتى أصبح حلم رؤيتها هاجسا يلح عليه ويطغى. وعندما يسمح للفلسطينيين الذين وافقوا على الحكم الذاتي، إثر اتفاق اوسلو 1993، بالعودة يعود أنا المتكلم مع العائدين، فيعبر الجسر مارا بأريحا ذاهبا الى غزة حيث نفق فيها شهرا أو يزيد. ويصغي، وهو في غزة، الى صوت المقدسية مجد التي حصلت على عنوانه

من مكتب الرئاسة، وتحدد معه موعدا لتزوره هناك .

وكان أنا المتكلم ومجد، إثر حرب 1967، يتهاتفان بين حين وآخر. وحين يلتقيان تعده بأن يزورا معا قريته سمخ، ويتم هذا بعد أن يحصل على تصريح يمكنه من السفر. وفي القدس يلتقيان من جديد، ومنها ينطلق مع مجد ومع السيد أكرم المواطن الفلسطيني المغترب، حامل جواز السفر الامريكي الذي جاء أيضا ليزور قريته سمخ، الى سمخ وطبرية. وينفق الثلاثة هناك يومين، ونصغي الى الحوار الذي دار بينهم أولا، وبينهم وبين الاسرائيليين ثانيا، وفي أثناء الحوار يحضر الماضي وتضطرب المشاعر. وتنتهي الرحلة بعودة الثلاثة الى القدس.

يطغى على أنا المتكلم، في معظم أجزاء الرواية، الشعور بالخيبة والمرارة واليأس والهزيمة، ويبدو شخصا غير قادر على استيعاب ما يجري، حتى لنجده يحن الى المنافي حنينا لافتا للنظر، حنينا يوازي حنينه لرؤية سمخ :
"المنفى جميل لأن الاحلام جميلة، والوطن صعب لأنه مثخن بالجراح وتتكسر فيه أجنحة الخيال. فلسطين الحلم ليست فلسطين الواقع :

للفلسطينيين في الخارج حلمهم الجميل الذي يسكنون فيه منذ ستة وأربعين عاما. فليحرس الرب تلك الاحلام". (ص 117)

المنفى جميل اذن لأن الاحلام جميلة، ولأن فلسطين الحلم ليست فلسطين الواقع. فهل المنفى جميل حقا؟ يحيلنا هذا السؤال الى روايات يحيى يخلف الأخرى. يحيلنا الى تفاح المجانين ونشيد الحياة تحديدا. ولنرى الفقرة التالية من تفاح المجانين :

"كان صيفا جافا قاحلا.

وكان صيفا شحيحا، قلّ فيه الماء، وانتشر القمل، وجفت البرك، فاعت الأفاعي ... الضفادع. الجراد.. الديدان. جاع الناس، نفقت الحيوانات، عز القمح وصار طحين وكالة الغوث هو الغذاء الوحيد. وهام بعض الناس في البراري، وأكلوا من ثمرة (تفاح المجانين) فأصابهم مس، وقاموا بأفعال جنونية... ولذلك فقد بدأ الوالد من جديد يكتب العرائض من أجل الحصول على بطاقة تموين..." (ص 34، ص 35).

وهل يختلف اثنان في آن قسوة المنفى وبؤسه وتعدده كانت من الاسباب التي

حدت بالقيادة الفلسطينية الى توقيع اتفاق اوسلو وقبوله على الرغم من إقرارها بأنه لا يلبي طموحات الشعب الفلسطيني؟!!

ولقد كانت الخيبة تصل حد الفجيعة. كان أنا المتكلم يحلم بفلسطين أخرى غير تلك التي رآها. لقد عاد اليها وظل يتحرك فيها وهو يعاين من هذا الجندي الاسرائيلي او ذاك، ورأى قريته ومعظم قرى فلسطين وقد هودت. وناضل، من قبل، من أجل وطن مستقل يجوبه دون حاجز فوجد الحواجز كثيرة. وتشكلت فلسطين لديه من خلال حكايات الاباء والأجداد، وكانت صورتها وهي تتشكل جميلة، فلما رآها اكتشف أنها غير تلك التي سمع عنها وشكلها :

"هل حقا أنا في سمخ؟ هل هذا ما كنت انتظره وما توقعت أن ألقاه؟ لم أكن اشعر بالألفة مع المكان، فقد تغير كل شيء، اقتلعوا البيوت بالجرافات ، وبنوا مكانها عمارات لا علاقة لها بنسيج وطقس المكان. حاولت أن أعيد ترتيب الأماكن والأشياء في خيالي، عند هذا الشاطيء كانت تنمو حياة من نوع آخر، فالبحيرة بالنسبة لأهالي بلدنا مثل الشمس أم الحياة..." (ص 99)

ويرى سمخ وقد "صارت مدينة يهودية فوق ترابها، على أنقاض بيوتها". (ص 80) سمخ مدينة تمّ ترويضها وتهويدها" (ص 80)

وتذكرنا قصة يحيى هذه بقصة غسان كنفاني "عائد الى حيفا" (1969)، ويتشابه أنا المتكلم وسعيد . س . كلاهما يصدمه الواقع، وكلاهما يبدو غير قادر على تصديق ما يجري. لقد كانا يحلمان بعودة غير هذه من ناحية، وبفلسطين غير تلك التي يريان. كما تذكرنا ايضا بقصة غريب عسقلاني "زائر الفجر". يقول أنا المتكلم في نص يحيى :

" منذ أن وطئت قدماي أرض الوطن وأنا أعيش حالة نصفها فرح ونصفها الآخر حزن وقلق". (ص 86) وتذكرنا هذه العبارة بعبارة سعيد . س في نص غسان :

"لا، لا أريد الذهاب الى حيفا. إن ذلك ذل، وهو إن كان ذلا واحدا لأهل حيفا فبالنسبة لي ولك هو ذلان، لماذا نعذب أنفسنا" (ص 359 من الأعمال الكاملة).

وتذكرنا أيضا بشخصية بشير في قصة "زائر الفجر". يزور بشير بقايا بلده ويعود

"مسربلا بالخيبة .. لم ير الكرم ولا اكتحلت عيناه بخص البوص". وهكذا يأخذ الوطن أبعادا أخرى في صدره.

يفتش أنا السارد اذن عن سمخ الحقيقية فلا يجدها، ويفتش بشير عن بلده فلا يرى إلا البقايا، ويشعران سعيد . س، بالخيبة ويعودان من حيث أتيا رغبة أو قسرا. وتبدو المقارنة بين "نهر يستحم في البحيرة" و "عائدا الى حيفا" مقارنة مجزية تستحق وحدها دراسة خاصة.

ولنقرأ العبارات التالية التي ترد على لسان أنا المتكلم:

"في البداية انتابتني مشاعر ليس لها مثيل .. إنه وطني.. انني أعود الى بقعة ما في وطني .." (ص 16)
"أنا العائد أقف ضائعا في شارع من شوارع وطني، أشعر بالغربة والوحدة، أشعر بالرغبة في البكاء" (ص26).
"ما أصعب أن يكتشف المرء أنه لم تعد له جدوى، وأن أيامه لم تعد ذات قيمة، وأن أجمل سنوات العمر ذهبت هباء" (ص 37).

"هنا، على الرغم من الازدحام أجد نفسي وحيدا لا أملك سوى الماضي. أبحث عن حلم تشبثت به وتمنيت أن أمسك به بيدي كلتيهما" (ص 67).

"أبحث في الماضي عن لحظة سكينة" (ص67).

وتنتهي "نهر يستحم في البحيرة" نهاية" غير متفائلة، نهاية فيها قدر من التشاؤم، وهي نهاية لم تظهر نهايات شبيهة لها في نصوص الكاتب الاخرى الا نادرا، وتحديدا في رواية "بحيرة وراء الريح". ويتساءل المرء، ومعه الحق في ذلك، عن السبب، فهل يعود الى شيخوخة يحيى المبكرة أم يعود الى انكسار الحلم الفلسطيني بعد الخروج من بيروت وتضاؤله؟

كتب يخلف نجران تحت الصفر وهو شاب، يوم كانت الثورة قوية، عن مرحلة كان فيها المد القومي يتصاعد تصاعدا كبيرا، وهكذا جاءت نهايتها نهاية تبعث على روح التفاؤل وعدم الشعور بالهزيمة الفردية شعورا كبيرا. وعليه يهرب (ابو شنان) من مكان عمله مع (بوطالب) تابع الانجليز وخادمهم، وينضم الى صديقه (مشعان)، ليقيما معا في حي الفقراء، وليواصلا من هناك النضال معا :

"- الى أين ؟
  الى حارة السبيل.
  هل تسكن هناك يا مشعان؟
  يسكن هناك العمال والأجراء والفقراء ومن ليس لديهم مأوى .
 ماذا تعمل ؟
 أعيد ترتيب الأمور .
 أما أنا فقد ...
 صه. أعرف كل شيء. في غياب النقابة يمكن أن يحدث كل ذلك.. المهم أن نبدأ صفحة جديدة .." (ص 112)

وكتب يحيى تفاح المجانين يوم كانت الثورة في أوجها، حتى أنه صدرها بنص ذي دلالة واضحة يعبر عن عزيمة الفلسطينيين وقوة شكيمتهم وعدم يأسهم، بل ويعكس اصرارهم على مواصلة الطريق:

" ما أكبر صبرهم جيل الأباء، وما أجمل حزنهم. تجرعوا المرارة وعاشوا زمن الكبوة والنهوض وكانوا شهود زمن الانكسارات... زمن الوجع والخيانة، وظل تاريخ الملوك والأمراء والسلاطين يكرر لهم نفسه مرة كمأساة وأخرى كمهزلة. عاشوا ولم يسأموا العيش، وظلوا يحلمون بالتحرير والوحدة وتغلبوا على اليأس بقوة الحياة".

ولقد جسدت تفاح المجانين هذه العبارات وفصلتها، فصورت واقع اللجوء والشتات ومرارته من فقر وقمع واضطهاد وملاحقة للفدائيين. عاش اللاجئون في المخيمات بعد ان كانوا يعيشون في مدنهم وقراهم، ولوحقوا من الأنظمة العربية التي أوحت لهم عام 1948 بأنها ستعيدهم الى ديارهم خلال أسبوع طال. وعلى الرغم من صورة الواقع غير المشرقة فقد انتهى النص بالفقرة التالية :

"ظل المشط كما هو... يبالغ ويدّعي.. ويطيش على شبر ماء... الاّ أنه توقف عن سرد القصص الخرافية، وصار يحكي لنا قصصا من عنده عن بطولات الخال (اي الفدائي) وجسارته، فظل الخال الذي انقطعت اخباره كليا عنا، ظل يكبر في أعماقنا ويتعملق..

أما الوالد الذي دب فيه هرم مفاجيء، وشيخوخة عاتية، فقد ترك ذلك الحادث أثلاما في روحه، ولكنه على كل حال ظلّ بكل عصامية وكبرياء يتغلب على اليأس بقوة الحياة". (ص76)

كان الفدائي الفلسطيني في نهاية الخمسينيات قد بدأ يتشكل سرا، وبلغت حركة المقاومة ذروتها في أول الثمانينات. لقد كبرت وتعملقت، ولهذا وذاك كف المشط عن سرد القصص الخرافية فقد وجد في الواقع قصصا واقعية.

يتوقف الزمن الروائي في نشيد الحياة قبل خروج المقاومة من بيروت، ويأتي على الفترة التي كبد فيها المقاتلون الفلسطينيون القوات الاسرائيلية في الدامور خسائر فادحة كان يحيى شاهدا على بعضها يوم كان قريبا من قواعد المقاومة وكتب نصه هذا وهو مقيم في الشام القريبة من بيروت التي ما زالت فيها، في حينه أي عام 1985، جيوب مقاومة وكان منحازا الى حركة الانشقاق، ولذلك جاءت الرواية ذات نغمة فيها قدر كبير جدا من النقد الذاتي الذي تركز أساسا على نقد بعض المتنفذين في الثورة، وعليه فانها تدرج تحت الكتابات الفلسطينية التي برزت فيها سمة النقد الذاتي، وهذا ما خلت منه تفاح المجانين وبحيرة وراء الريح، ففي هاتين هناك نقد لقيادات الجيوش العربية وللانظمة العربية أيضا. وعلى العكس من هذا نجد تثمينا واضحا للحاج أمين الحسيني في بحيرة وراء الريح. وتنتهي رواية نشيد الحياة على النحو التالي :

"صعد الطفل الى سطح المنزل. كانت سنه قد سقط فأخذ يرقب بزوغ الشمس .. كانت أمه قد قالت له عمّا يتعين عليه أن يفعل عندما يسقط سنه .. لم يطل انتظاره، بزغت الخيوط الأولى من وراء الجبال البعيدة.. أمسك بالسن ورفع يده عاليا وألقى به في وجه الشمس وقال بما يشبه الهمس :

يا شمس يا شموسة

خذني سن الاطفال

وأعطيني سن الرجال". (ص 203)

وكان للأطفال في حرب 1982 دورهم البارز. كانوا رجالا تحدثت الصحف

والمجلات ووسائل الاعلام الاخرى عن بطولاتهم التي شابهت بطولات الرجال الأبطال، فلقد واجهوا الدبابات الاسرائيلية بأسلحتهم.

تختلف نهايتا بحيرة وراء الريح ونهر يستحم في البحيرة، اختلافا بينا واضحا. حقا إن نهاية معارك 1948 كانت مأساوية، وعليه فقد كانت نهاية الرواية واقعية ومقنعة، لأنها لو كانت غير ذلك لكانت مبتذلة، إلا أن يحيى أنهى تفاح المجانين نهاية فيها قدر من التفاؤل، ولم تكن الظروف لتسمح بهذا، ولقد كانت النهاية على تلك الشاكلة لتأثير الزمن الكتابي على الزمن الروائي، وكان الزمن الكتابي لبحيرة وراء الريح زمنا صعبا لحركة المقاومة الفلسطينية المقيمة في المنافي بعيدا عن حدود فلسطين، ومن هنا كانت نهاية الرواية نهاية سوداوية على الرغم من واقعيتها وتحققها على أرض الواقع أيضا. ينهى عبد الرحمن العراقي مذكراته على النحو التالي :

" أدركت عند ذلك أنه قد ضاع كل شيء، وأن كل الدروب أصبحت تفضي الى الغربة والشتات، فيا لكآبة المنظر ووحشة الطريق" (ص277)

وتبدو المفارقة اللافتة للنظر في "نهر يستحم في البحيرة". لقد كتبها يحيى بعد عودته الى أرض الوطن. وكان من المفترض ان تكون النهاية مفرحة، فالوطن ولا شك أفضل ألف مرة من المنفى، أو هكذا ينبغي ان يكون، وبخاصة أن الكاتب صور في تفاح المجانين بؤس الشتات وقسوة المنفى. غير ان نهر يستحم في البحيرة هي رواية الخيبة، خيبة الكاتب، بامتياز. يعود أنا المتكلم والسيد أكرم ومجد من رحلتهم مفعمين بالمرارة، وتبدو الخيبة أوضح ما تكون على السيد أكرم الذي كان يدعو الى التعايش، وعلى انا المتكلم. يسأل الجندي السيد أكرم: هل تحملون سلاحا؟ فيصيح أكرم بغيظ: أجل ... معنا قنبلة. وهنا يرفع الجندي السلاح ويسأل أكرم : أين هي؟ فيصرخ الأخير : القنبلة موجودة داخل صدري.. في أعماقي.. ويضيف : حذار من الاقتراب فقد تنفجر بين لحظة وأخرى. (ص 144).

وهكذا يكتب يحيى يخلف، وهو في الوطن، نص الخيبة الذي جاء مغايرا لأكثر ما كتبه في الشتات. وهو - أي يحيى- يعبر عن رؤيته دون تعمية أو استتار وراء شخصية أخرى، فأنا المتكلم هو أنا الكاتب، وهذا ما يصل اليه المرء حين يحيل النص الى ما هو خارجه، ويدرس أنا السارد وأنا الكاتب معا.

يحيى يخلف واللعبة القديمة الجديدة "نهر يستحم في البحيرة" والروايات الاخرى

تحيل قصة "نهر يستحم في البحيرة" الطويلة الدارس غير مرة الى نصوص الكاتب النثرية الطويلة، وبخاصة حين يتساءل الدارس عن الجديد الذي أضافه الكاتب الى أعماله السابقة شكلا ومضمونا.

يكتب يحيى يخلف لأول مرة تقريبا، وبوضوح تام، عن تجربة عاشها، وإن كان هذا لا يعني بالضرورة أن ذات الكاتب لم تكن حاضرة في نصوصه السابقة، وبخاصة "تفاح المجانين". غير أن حضور ذات الكاتب في "نهر يستحم في البحيرة" تجعل منها نص ترجمة ذاتية وإن جزئية، فهي تؤرخ لفترة قصيرة لا تزيد على الاربعين يوما - الزمن الروائي - وإن أضاءت لنا بعض تجارب السارد في المنفى وأطلعتنا على فترات من حياته هناك، وهكذا يتمدد الزمن الروائي من خلال الاسترجاع الى فترة تفوق فترة الزمن الروائي التي تطابقت وزمن السرد، ويقصد بهذا الأخير اللحظة التي بدأ أنا القاص فيها يقص عن تجربته حتى اللحظة التي انتهى منها. وثمة غير دليل يبين أن أنا المتكلم هو المؤلف نفسه، وهذا ما يستطيع الدارس ان يتلمسه بسهولة حين يحيل النص الى ما هو خارجه. يعود أنا المتكلم ويحيى الى الوطن بعد غياب سبعة وعشرين عاما، وهما من القرية نفسها "سمخ" حيث ولدا فيها قبل النكبة بقليل، وهما أيضا عاشا في المنافي العديدة، واستقرا قبل العودة الى فلسطين في تونس، وفوق كل هذا فان كليهما كاتب قصصي وروائي، وهذا ما يبدو واضحا وضوحا تاما في النص. يرد على لسان أنا المتكلم ما يلي :

"لا أدري لماذا قفزت الى الذاكرة صورة الجندي الياباني (أونودو)؟ ما الذي جعله يخرج من القمقم، فلقد حبسته بين دفتي دفتري الذي أكتب به ومنعت نفسي طوال شهرين كاملين من فتحه لئلا يخرج من بين السطور ويهبط على الأرض. تركته بين دفتي دفتري الكبير الذي أكتب على أوراقه خواطري وأكتب على اوراقه احيانا الخطوط العريضة للأحداث والشخصيات التي أنوي بعثها في رواية أو قصة قصيرة، وهذه المرة جمعت مادة لا بأس بها عن (أونودو) لتكون موضوعا لنص مسرحي ولد في مخيلتي في جو الجنون الذي أثاره اتفاق أوسلو" (ص 8).

لقد درس أنا المتكلم، مثله مثل يحيى، في مدينة رام الله بضع سنوات، وله فيها ذكريات شباب مبكر (ص17)، وفوق هذا كله يلم بشخوص رواية يحيى يخلف" بحيرة وراء الريح" إلماما تاما كما لو أنه كاتبها، وهذا ما لا نتردد في الأخذ به حين نوحد بين الذاتين؛ ذات المؤلف وذات أنا المتكلم.

وأول ما تحيلنا اليه "نهر يستحم في البحيرة" فيما يمس علاقتها بالنصوص الاخرى، وهذا له صلة أيضا في الكتابة عن إشكالية المؤلف وأنا السارد والشخصية، أنها تكاد تقترب من أدب المذكرات، فأنا السارد يدون قبل الرحلة وفي أثنائها ما يفكر فيه وما يمر به :

"كان لدي رغبة شديدة في تسجيل خواطري في الدفتر، وكان لديها رغبة شديدة في تناول طعام العشاء ، فدخلت الى المطبخ تبحث عن شيء تعده للمائدة، فيما أحضرت دفتري وقلمي وبدأت أكتب" (ص 94)

ويلجأ يحيى يخلف في "بحيرة وراء الريح" الى اختيار شخصية روائية هي شخصية عبد الرحمن العراقي ليتركها تدون مذكراتها، فالفصول الثالث والسادس والعاشر والثالث عشر تدرج تحت عنوان "من أوراق عبد الرحمن العراقي"، وهي أوراق كان عبد الرحمن يكتبها في أثناء إقامته في معسكر التدريب في فلسطين وبعد مغادرة فلسطين عام 1948، وأشار فيها الى أنه كان يكتب مذكراته. ولا يدري المرء كيف حصل يحيى عليها ان كانت حقيقية، ولعلها من كتابة المؤلف الذي لجأ الى حيلة فنية من أجل إظهار فكرة تلح عليه باستمرار، وتبرز في كثير من نصوصه، لأنها تنبع من رؤيته للصراع العربي الاسرائيلي الذي لا يمكن حله فلسطينيا وحسب، فالعمق العربي - كما يرى الكاتب- مهم وضروري، والشعوب العربية، خلافا لانظمتها، طيبة وتتعاطف مع أهل فلسطين وتقف الى جانبهم، ومن هنا يقاتل السوري اسد الشهباء والعراقي عبد الرحمن دفاعا عن فلسطين، تماما كما يتعاطف الشعب الفلسطيني مع الشعوب العربية ويشعر بالآمها وأحزانها، وهو ما بدا، على أية حال، واضحا في نص "نجران تحت الصفر" الذي يعبر روحه عن تعاطف يحيى مع فقراء نجران ومضطهديها.

ولقد بدت "نهر يستحم في البحيرة" و "بحيرة وراء الريح" نتاجا لمبنى عقلي واحد، تماما كما أن "نجران تحت الصفر" و "تفاح المجانين" نتاج لمبنى العقل نفسه. ويحيلنا هذا الزعم الى البحث عن بعض أوجه التشابه بين هذه النصوص الثلاثة، وسأكتفي بالوقوف عند ظاهرة واحدة هي المعادل الفني للبطل الفرد.

يكتب الكاتب في "نجران تحت الصفر" عن إنسان مناضل فُصِل من عمله لأنه شارك العمال في الاضراب (ص 25)، وبناء على ذلك فانه يعود الى نجران ويقيم فيها دون أن يعثر على عمل. ويبعث (بوطالب) اليه ويطلب منه أن يلتحق بقوات (المستر) ليعمل معه مترجما، فيخنع لأن البديل السجن أو القتل، ويغرقه (المستر) بالملذات: المرأة والخمرة. ويبدأ ضمير (بوشنان) يؤنبه، وبخاصة حين يتذكر صديقه اليامي الذي قتل قبل شهر، وأمه سمية. ويعبر (بوشنان) عن وضعه الجديد باستذكار فيلم سينمائي شاهده يصطاد فيه الصياد الافريقي وحيد القرن. "فوحيد القرن لا يستسلم بسهولة. انه يندفع بكل الاتجاهات للتخلص من الشباك. " ويصاب بنوبات حادة بين حين وآخر لأن "وحيد القرن غير المدجن النائم في أعماقه يستيقظ بين الحين والاخر" ويشتاق الى البحيرات وطبول القرى والخلاء" (ص 85، ص 86). ويشتاق بوشنان الى هذا كله، ولهذا سرعان ما يهرب من المعسكر، فبوشنان غير المدجن فيه يستيقظ بين الحين والآخر.

ويلجأ يخلف في "تفاح المجانين" الى اللعبة نفسها. يقص السارد عن صديقه بدر العنكبوت الطفل الشقي الذي اخذ يبحث عن القوة لأنه يكره الضعف على الرغم من أنه ضعيف. ويفكر في أن يصبح قويا، ولهذا نجده يتعاطف مع الحمار طريف الذي جاء الى الحارة ضعيفا فاستضعفه الاولاد وضربوه بالعصي دون ان يحرك ساكنا. وحين يدرك بدر العنكبوت سر تفاح المجانين يذهب ومعه طريف ليطعمه من هذه النبتة، ويهيج الحمار هياجا كبيرا حتى ليخشاه الاخرون، ويبتعد عنه الرجال ذوو الشوارب المعقوفة وغيرهم، ولما تخور قواه وينام على الأرض يقتله احد النور بسكين. وليس هناك من شك في أن الشعب الفلسطيني كان بعد النكبة وقبل الثورة مستضعفا ، فلما اشتد عوده وكبرت الثورة اخذ الاخرون يحسبون له الف حساب. ليست الثورة حمارا، ولكن الحمار في "تفاح المجانين" مواز فني لبدر العنكبوت بخاصة والشعب الفلسطيني بعامة.

تتكرر هذه الحيلة الفنية التي بدت في النصين السابقين في نص يحيى الاخير، وليس الموازي الفني لانا المتكلم في "نهر يستحم في البحيرة" ، هذه المرة، حيوانا. انه الجندي الياباني (أونودو) الذي شارك في الحرب العالمية الثانية، ورفض- لما انتهت الحرب بهزيمة بلاده - وقف اطلاق النار. لقد قال (أونودو) : لا ، فهل قال (لا) لأنه يرابط في جزيرة نائية أم لأن شيئا في أعماقه كان يرفض الهزيمة. (ص10) أما أنا المتكلم فيعود الى فلسطين التي ما زال الجنود الاسرائيليون على حدودها يفتشون القادمين ممن وقّعوا اتفاق (اوسلو) ومن بينهم هو شخصيا. وعندما يزور قريته سمخ يرى أنها أصبحت عالما آخر، وهنا يحن الى الماضي والى المنفى معا، ويصبح مثل ( أونودو) الذي يذهب البعض الى أنه بحاجة الى اعادة تأهيل، حتى يشفى مما يعتقد به ويقبل الواقع الجديد. فهل سيدجن أنا المتكلم؟ في اثناء عودة هذا الاخير مع السيد أكرم ومجد، بعد زيارة سمخ، يرى فيما يرى النائم (أونودو) بثيابه العسكرية البالية وبندقيته العتيقة الصدئة (ص 141). يراه وهو - أي (أونودو) - يحن الى الطبيعة فيتمرد على الكاتب ويخرج من دفتر ملاحظاته ليستحم تحت الشلالات وليشاهد التماسيح وليراقب الفجر، وهو بذلك مثله مثل وحيد القرن في "نجران تحت الصفر"، وهكذا :

"يقفز (أوندو) من الدفتر.. يركض نحو دغل من الاشجار وهو يحمل بارودته العتيقة، أركض وراءه وأنادي: انتظرني ... انتظرني... يواصل الجري، وأنا أركض خلفه، يصعد تلة، وأصعد وراءه، يدوس الاشواك والاسلاك الشائكة، وأدوس خلفه، يصعد يصعد.. ثم يجد مغارة، يدخل الى المغارة، أركض خلفه، واحاول أن أدخل وراءه، ولكن رأسي يصطدم بباب المغارة، فأسقط على الارض" (ص142).

ويختلط، في النص، الحلم بالواقع لنرى أنا المتكلم وقد جرح في جبينه، ولنرى ثيابه ممزقة والأشواك تتعلق بكتفيه وعلى رؤوس أصابعه، فيما الدم يسيل من جبينه. وتعصب مجد رأسه بمنديل أخرجته من حقيبتها بينما السيد أكرم يسحب الاشواك من لحمه. ويستأنف الاخير السواقة، وتمضي الحياة على جانبي الطريق، ويحمل قلب السيد أكرم قنبلة بين جناحيه وفي أعماقه، وتنتهي الرواية وأكرم يخاطب الجندي الاسرائيلي :

"حذار من الاقتراب فقد تنفجر بين لحظة وأخرى"

فهل ستكون نهاية أنا المتكلم مثل نهاية بوشنان أم مثل نهاية طريف في "تفاح

المجانين"؟

جديد يخلف في نصه الجديد :

قلما كتب يحيى نصوصا تتصدرها الفكرة المجردة. إنه يكتب أساسا عن تجارب عاشها غيره وكان هو شاهدا عليها "نجران تحت الصفر" أو عن تجارب عاشها في طفولته ودونها حين تمكن من حرفة الكتابة "تفاح المجانين" أو عن تجارب عاشها "نهر يستحم في البحيرة" أو عن تجارب عاشها غيره وقصها هؤلاء على الكاتب" بحيرة وراء الريح". غير أن هذا لا يعني انه لا يترك ظلاله على ما يكتب، وأنه لا يكون حاضرا في نصه القصصي. ثمة روح واحدة تنعكس في رواياته وقصصه الطويلة كلها تتمثل، بالاضافة الى ما أوضحته بخصوص المعادل الفني، في تعاطفه مع الفقراء والمسحوقين وانحيازه الى عالمهم، وفي نقده للقيادات العربية وبعض الانتهازيين في الثورات الفلسطينية المتعاقبة، وفي التركيز على البعد القومي للمسألة الفلسطينية. فما الذي تضيفه "نهر يستحم في البحيرة" الى النصوص السابقة؟

تكاد نصوصه السابقة تخلو من الاتيان على الشخصية اليهودية وتصويرها، فنحن لا نكاد نعثر على بروز شخصية يهودية، ولو كان بروزها ثانويا. ثمة ذكر لليهود، وثمة ايراد لأسماء بعضهم، وهذا ما يظهر في "نشيد الحياة" و "بحيرة وراء الريح" ، ولكن القاريء لا يعرف عن هذه الشخصيات الكثير. وهم يهود في الغالب، وضباط في جيش العدو احيانا.

ويبدو أن يحيى يكتب هذا بوعي، أو أنه، بدون وعي، يعبر عما يعتمل في داخله حقيقة. ولعله يرى ان الصراع في أساسه صراع عربي يهودي لا صراع عربي اسرائيلي، فاسرائيل لم تكن حتى عام 1948 قائمة. ولعله يريد ايضا، حين يذكر كلمة يهودي ويهود لا كلمة اسرائيلي واسرائيليين، أن يكون أمينا في نقل ما يقوله الناس. يتكرر في "بحيرة وراء الريح" ورود كلمة "اليهود" و "أولاد الميتة" ولا ترد لفظة اسرائيل، وما من شك في أن الكاتب كان هنا موفقا من ناحيتين أولاهما ان الفلسطينيين كانوا حتى عام 1948 يستخدمون هذه المفردة، وثانيتهما أنه لم يسمح للزمن الكتابي بأن يترك أثره على الزمن الروائي. ويكتفي في "نشيد الحياة" بالاشارة الى العدو وضباط العدو ودبابات العدو.

ولعلّ السؤال الذي يثير نفسه : هل ثمة تغير طرأ على رؤية يخلف السياسية، وهو

يكتب"نهر يستحم في البحيرة" التي أنجزها بعد عودته؟ هل ترك الموقع أثره على الموقف أم أن الكلمات التي يرددها الناس هنا تركت اثرها عليه؟

ثمة شخصيات عربية عديدة في نص "نهر يستحم في البحيرة"، وثمة شخصيات يهودية ايضا. وترد لفظة الاسرائيلي واسرائيل على لسان هؤلاء معظمهم، على الرغم من أن روح النص تكاد لا تختلف عن روح نصوصه السابقة في هذا الجانب. ترد مفرده اسرائيل على لسان شخصيات اسرائيلية (ص 93) و (ص 118)، وترد على لسان الفلسطيني المغترب المقيم في امريكا (ص 119) و (ص 120)، ولكنها ترد ايضا على لسان أنا المتكلم العائد من المنافي العربية، وهنا يبدو الاختلاف عن النصوص السابقة (ص 143).

وتظهر في النص، لأول مرة، شخصيات يهودية عديدة ظهورا لافتا للنظر. هناك الجنود والسيدة (بيرتا) واليهودي المغربي الأصل والنادل (شلومو) والخادمة (يائيل) وبعض الصحفيين. فكيف بدا هؤلاء؟

أحبت (بيرتا) قبل عام 1948 السيد فارس الفارس، وكانت مثله من سكان طبرية، وكانت ايضا أجمل نساء عصرها. فضلت (بيرتا) فارس على أثرياء العرب واليهود وعلى أفندية يافا وحيفا، وفاز فارس بقلبها، ولما كانت النكبة وهاجر الى لبنان لحقته الى هناك، غير ان الحكومة التي اكتشفت امرها طردتها فعادت الى اسرائيل. والسؤال هو : هل يريد يحيى ان يقول ان سكان البلاد من اليهود غير الغربيين كانوا في نظر أهل فلسطين المسلمين والمسيحيين مثلهم؟ وهل ما زال يكرر فكرة القوميين التي بدت في نصوص النشاشيبي وغسان كنفاني، وبخاصة في قصة الأخير "الدكتور قاسم يتحدث لايفا عن منصور الذي وصل الى صفد" (انظر كتابي، اليهود في الأدب الفلسطيني، ص 67)؟ ولعل ما يدعم هذا اننا نطالع في النص كتابة عن اليهودي المغربي الأصل، هذا الذي يقدم في المطعم طعاما مغربيا لا الاطعمة الغربية. (ص 64)

وتصبح (بيرتا) - رمز التعايش - بعد ستة وأربعين عاما عجوزا لا تعرف الاخرين الا من خلال اللمس، لقد أصبح عمرها يزيد عن السادسة والثمانين، ولم تعد تسمع او تتكلم. لقد اصبحت، مثل فلسطين كلها، عالما آخر مختلف تماما عما كانته يوم كانت في الأربعين من العمر. وليس هناك من شك في أن يحيى يسخر من دعاة التعايش ممثلين في السيد

أكرم.

ثمة شخصيتان اسرائيليتان تلفتان النظر في سلوكهما، الأولى (شلومو) الذي لا يتردد ، مقابل مبلغ من المال، في مخالفة قانون الدولة والسماح لأنا المتكلم في البقاء في طبرية ليلا، على الرغم من ان التصريح الذي يملكه لا يخوله في النوم هناك - ولا أدري كيف لم يدقق يحيى في معلوماته حين أدرج مجدا معه، وبخاصة أنها مواطنة مقدسية يحق لها المبيت في مناطق 48 والتنقل فيها - والثانية (يائيل) التي ترافق السيد أكرم وتساعده في بحثه عن السيدة (بيرتا)، و (يائيل) لا تفعل ذلك دون مقابل. انها تطلب مقابل خدماتها مبلغا من المال. والسؤال هو : هل يعكس هذا التصور لشلومو ويائيل رؤية دفينة ليحيى فيما يتعلق باليهود؟ يحب (شلومو) المال، وتأخذه (يائيل) ، ولكن (بيرتا) تحب فارس الفارس وتفضله على الاثرياء، فهل يعود السبب الى قوته أم أن (بيرتا) الاستثناء الذي يؤكد القاعدة؟ وهل كان يحيى متأثرا بما قرأه عن اليهود في مسرحية شكسبير وفي رواية خليل بيدس ام انه كتب عن تجربة حقيقية؟

ويبقى نص الكاتب "نهر يستحم في البحيرة" قابلا لاثارة العديد من الاسئلة، وقابلا لدراسات اخرى أشرت اليها في اثناء الكتابة .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى