السبت ١٦ آب (أغسطس) ٢٠٠٨
بقلم حسن توفيق

من مقامات مجنون العرب

زهير بن أبي سلمى.. يتحول من مبصر إلى أعمى!

لم يبق عندي ما أقول.. هذا ما قاله عنترة بعد ان لفه الذهول.. وأدرك انه قد يخسر الحرب.. على الرغم من شجاعة القلب. فقد رأى انه كلما قضى على مجموعة من الجراد.. جاءت مجموعات اخرى بكل عناد.. بعد ان يغريها الفساد.. بأنه سيترك لها موسم الحصاد.. وقال عنترة للمجنون: اين هم الناس؟.. هل فقدوا ما كان لديهم من إحساس؟ لقد كانوا في الزمان البعيد.. يجتمعون على رأي واحد سديد.. فيذوق عدوهم بأسهم الشديد.. اما الآن.. فإنهم بدلا من أن يصدوا الطوفان.. يحاول كل منهم ان يداري عاره وبؤسه.. وان ينقذ نفسه.. دون أن يفكر في أقرب الناس اليه.. ولهذا لن يفتح الله عليه.. ولن يفتح على من تفرقوا
اجمعين.. طالما انهم يتلاقون متباغضين ومتنابذين.. هؤلاء الناس ليسوا أحياء، بل موتى.. تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى .. ومهما قيل لهم واعتصموا بحبل الله.. تراهم يتفرقون في كل اتجاه.

بينما كان عنترة يتكلم.. محاولا ان يخفي عن المجنون أنه يتألم.. شاهد المجنون قطتين تتشاجران.. إحداهما تبدو مثل شجرة عارية بلا أغصان.. والثانية تحب ان ترقص ولو مع الشيطان.. وبدأت القطتان تتبادلان الاتهامات.. وكل منهما تكيل للأخرى كلمات حبلى بالافتراءات.. اخرسي يا من يحضنك النسر الدموي.. اسكتي انت يا من تتملقين الدب القطبي! وفي الحال حملت الريح صوت شاعر أندلسي.. يقول بصوت مأساوي:

«مما يزهدني في أرض أندلسٍ

أسماء معتصم فيها ومعتضدِ

ألقابُ مملكةٍ في غير موضعها

كالهر يحكي انتفاخا صولةَ الأسدِ»

دون ان ينطقا أية كلمات.. تبادل المجنون وعنترة النظرات.. وتكدست فوق الظلمات ظلمات.. وهنا قال عنترة.. يكفيني ما رأيت من مسخرة.. آن لي أن أودعك.. فليكن الله معك..ترقرقت من عيني المجنون دموع.. وتحولت الدموع الى شموع.. وعلى ضوئها الشاحب.. شاهد المجنون بوابة يفتحها رجل غاضب.. ودخل عنترة من البوابة العجيبة.. بينما خرج منها رجل تبدو ملامحه مهيبة.. لكنه يتعثر في مشيته.. وهو يحاول إزاحة جرادتين عن جبهته.. وأخذ الرجل المهيب يصيح.. ويتردد صياحه في الخلاء الفسيح:

«وما الحرب إلا ما علمتم وذقتمو

وما هو عنها بالحديث المرجّمِ

متى تبعثوها تبعثوها ذميمةً

وتضْر إذا أضريتموها فتضرمِ

فتعرككم عرك الرحى بثقالها

وتلقح كشافا ثم تحمل فتتئمِ

فتنتج لكم غلمانَ أشأم كلهم

كأحمر عاد ثم ترضع فتفطمِ»

.. على الرغم من توتر أعصابه المرتاعة.. استجمع المجنون بعض ما تَبقَّى لديه من شجاعة... وخاض في بحر من الظلام.. عساه ان يتعرف على من يدعو للسلام.. ويطالب بعودة الوئام.. لكي يستطيع الربيع ان يعود.. بعد ان يحطم
القيود.

= ياعم.. أني أعرف جيدا ما تحمله من همّ.. لكني أريد ان اسأل من انت.. خصوصا أني أعرف ماقلت.

 هل تعرفني حقا يا ابني؟.. إذا كنت تعرفني فهذا سيخفف طبعا من حزني

= أعتقد انك شاعر قديم.. وإنسان حكيم..ترى من أكون؟

.. رأى المجنون ان الجرادتين.. مازالتا واقفتين متشبثتين.. وأن جبهة الرجل لاتكاد تبين.. فازاحهما دون هوادة أولين.. وهنا رأى عينين شبه مغلقتين.. فقال بحزن: يا عم.. إن الرجل الذي أعرفه اسمه زهير.. لكنه..وفي الحال قال الرجل للمجنون.. بصوت هادىء محزون: اسمع يابني.. ان دعاة الحروب.. وزارعي الفتن والكروب.. لايحبون من يدعون للسلام.. ولهذا يُغرقون عيونهم بالظلام.. لقد كنت مبصرا.. وبمجرد ان قلت: «وما الحرب الا ما علمتم وذقتمو» حطت على عينيَّ جرادتان..لكني أحمد الله أنك بجواري الآن.

قال المجنون: وأنا منذ صغري قد أحببتك.. وبالتأكيد فإني الآن قد عرفتك.. أنت الشاعر الكبير زهير بن أبي سلمى.. وقد تحولتَ من مبصر إلى أعمى لمجرد أنك جئت إلى هذا العصر.. فداهمك مافيه من شر.. وصرخ المجنون: ياناس.. يامن فقدتم الإحساس.. زهير بن أبي سلمى.. تحَّوَل من مبصر إلى أعمى!

زهير بن أبي سلمى.. يتحول من مبصر إلى أعمى!

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى