الاثنين ١٥ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٨
بقلم محمد أبو الفتوح غنيم

مَنطَقَةُ الخيانَة

إن الباحث عن السبب الرئيس أو الدافع الأول إلى خيانة الأمانة واستحلال الحرام قد يفني عمره ولا يجد لذلك سببا محددا يعول عليه ليبحث سبل دفعه، وما ذلك إلا لأننا نبحث عن الحل الهيكلي التنظيمي المجرد بتغيير هذا المسؤول أو ذاك أو حتى تغيير الحكومة ذاتها وتناسينا أن السبب الأوحد في كل زمان ومكان هو غياب عاملين مهمين يرتكز عليهما المجتمع الناجح ويهوي بدونهما المجتمع الفاشل وهما الدور الفاعل للدين ومن بعده الأخلاق والتربية، في كلمة أخرى غياب السلطة التشريعية التربوية الإلهية، والسلطة الأخلاقية التربوية الأسرية.

وقد نجد الخيانات في معظمها مبررة أو كهذا يصورها الإنسان لنسفه فقد تخون المرأة زوجها عقابا له على خيانته أو انتقاما، هذه الصورة البدائية تظهر قبح الخيانة سواء كانت ممنطقة أو ذات مبرر صوري، أو لا، على أن هذا المبرر لا يشفع أبدا للخائن حال فضح أمره أمام الناس وحال تستره أمام الله، وسيكون الجواب الأيسر في هذا الشأن أن الخيانة فعل يشين المرء على كل حال ولا مبرر له، إلا أن هناك صور أدق لا يميزها أكثر الناس أو يزعمون أنهم مجبرون عليها وأنها الحل الأوحد لمشكلاتهم، أو هم متشككون في أمرها وبدلا من البحث والتوصل إلى أمر قاطع حيالها فإنهم يدفعونها عن أذهانهم ويشغلون انتباههم حتى تستقر عليها النفس ويذهب ذلك التشكك وتموت نزعات الإيمان والصدق والبحث عن الحق والفضيلة.

ومن أمثلة هذا ما حدث لي أو سمعته أو رأيته، فقد حكى لي رجل يعمل سائقا في مصلحة حكومية أنه كلف بتجديد ترخيص سيارة وعندما ذهب إلى حيث يتم هذا العمل وكما هو معهود في هذه الأمور، بل وأغلب أمور هذا البلد، تطلب الأمر دفع رشوة فدفعها من نقوده الخاصة، وهنا يمكنه لو أن الأمر مشروع لطلب النقود عن طريق إيصالات دفع ولكن هنا وحيث أن العمل غير مشروع ولأنها رشوة، لا توجد إيصالات أو إثباتات فلا يستطيع أن يطلب نقوده ولا يستطيع أن يتخلف عما كلف به وإلا عوقب، فهو بين المطرقة والسندان، إما أن يخسر ماله بلا مقابل أو أن يسرق من مال دولته ما يقابل الذي دفعه، وأقول يسرق حتى لا يظن البعض أن هذا الفعل يجوز أو أن له مبرر تحت أي مسمى بل هي سرقة وخيانة للأمانة، فخيانة الآخر ليست مبرر لخيانتك، ولكنه لو لم يفعل فسيكون الخاسر الأكبر وليس وحده بل وأسرته أيضا.

إنني هنا أقف موقف الطارح للقضية لا الباحث عن العلاج وربما أترك الأمر للقاريء حتى يفكر معي في علاج لهذا الداء، هذا المثال لا يعدو كونه بسيطا ومن بين ملايين الأمثلة التي تحدث للموظفين سواء في مجال حكومي أو خاص وربما كان المجال الخاص أرفق قليلا لأنه يعترف بوجود الرشوة في المجتمع أو السرقات والخيانات بشكل عام فيتعامل معها بأسلوبه بينما الحكومة لا يمكنها أن تقر بذلك إلا إذا فطنت إلى حل وإلا فإنها ستكون في موقف محرج فكيف تعوض الموظف عن رشوة دفعها لموظف آخر، هذا سيفضح الخلل المتخفي، هل سنظل على هذا الحال نلتف حول بعضنا وننهب مال بعض والمستفيد الأخير غير معلوم، فمن المؤكد أن ذلك الموظف الذي ظلب الرشوة لديه ضغوط أخرى دفعته إلى هذا الفعل المشين كما ستدفع السائق إلى فعل مشابه أو مغايير يؤدي نفس الغرض ويعوضه عما أنفق، حديثنا هنا عن ذلك الموظف المجبر حقا على ذلك وليس عن النسخة المتطورة منه التي أصبح لا يردعها رادع ولا تحتاج مبرر أمام نفسها حتى تسرق أو ترتشي أو تحصل على المال بأي وسيلة، وهم كثر أيضا.

أما أنا كصيدلي مسؤول عن صيدلية حكومية في وحدة صحية فعلي أن أطلب الدواء من الإدارة وعلي أن أحضره بنفسي على نفقتي، وإلا فإنه لو حضر المفتش ولم يجد دواءاً كافيا فسأكون أنا المسؤول الأول والأخير ولن تفلح الأعذار حتى تلك التي قد أبدي فيها أن هذه مسؤولية الحكومة أن تحضر الدواء الذي أطلبه فالعلاقات بين الجهات المسؤولة متفككة، وإن أنا رحت أطلب بحقي فسيستغرق الأمر وقتا يضر بي وبصالح العمل، ربما أكون قادرا على دفع هذا المال ولكن غيري ممن لا يستطيع لن يكون أمامه إلا الاختلاس من عهدته ليعوض ما أنفقه، وصدقوني كما أقول دائما "مال الدولة مال سائب" حفظه يعتمد فقط على مقدار الأمانة لدى من يرعاه ولا يحكمه مفتشون أو غيرهم ولو أن الإنسان أخذ منه مرة لأنه مضطر أو لديه مبرراته فإنه لن يقنع ولن يتوقف ففي منطقه أن هذا المال من حقه حين يجد نفسه مظلوما وما أعجب الإنسان حين يظن أن كل شيء من حقه، فأبسط ما سيتصوره أن مرتبه غير كافي وأن عمله يستحق أكثر، رغم أن العقد شريطة المتعاقدين وقد وافق على العمل بهذا الأجر.

إن التحدث بمثالية حيال هذا الأمر صعب لأننا لو كنا كذلك فسنقول بأبسط الحلول، إن لم يعجبك العمل الحكومي فاتركه، ولكننا سنجد الرد الغالب أنه الخيار الوحيد أمام الناس بل إنه يمثل لهم طوق النجاه فمع التهرب من ساعاته الرسمية يعد المرتب مبلغا ليس بالسيء إذ يحصل الموظف على مرتبه كاملا مقابل نصف فترة العمل أو ربما أقل بكثير، ولكن عليهم أن يعلموا أنه بمجرد قبلوهم العمل فإنهم يعهدون بالقيام به على أكمل وجه وأن يتواجدوا في مقر عملهم طوال وقت العمل سواء أكان هناك عمل ينجز أو لا وأنهم مستأمنون عليه، كل هذا الحديث المثالي يؤدي بنا إلى التحير أكثر فإننا نكاد لا نجد بل حقا لن نجد هذا الموظف المثالي ولا أعني بهذا من يقوم بعمله على أكمل وجه ولا يتغيب أو ينصرف مبكرا، بل ذلك الذي لا يخون أمانته ولا يختلس من مال دولته أو ذلك الذي لا يتستر على أخطاءه بتحميلها على عاتق الحكومة عن طريق العبث بالدفاتر والعهد والملكيات الحكومية.

إننا نفتقر إلى الشجاعة أمام أنفسنا وبيننا، فلسنا شعبا مؤهلا لتحمل مسؤولية نفسه أو دولته وربما لا نحمل بداخلنا المصداقية اللازمة ولا القدرة على مواجهة أنفسنا حال نخطيء، وهذا ما أورثه لنا أجدادنا وسنورثه لأحفادنا، وسنظل هكذا حتى يأتي جيل يقف مع نفسه وقفة عتاب وتغيير وقبل هذا كله وقفة صدق وعدل.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى