الاثنين ٨ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٧

نائـل الطـوخـي: لا أحـد يعـود الـى المكـان نفسـه أبـداً

أجرى الحوار: عناية جابر - السفير - لبنان

نائل الطوخي، إعلامي وروائي مصري شاب له ثلاث مجموعات روائية: «تغيرات فنية» و«ليلى أنطون» وجديده الآن عن «ميريت» «بابل مفتاح العالم». للطوخي عوالمه الخاصة يقاربها ببصمة خاصة، وتميل الى نوع الرواية الحديثة، وأن تعتمد حبكة تقليدية، على الأقل في «بابل مفتاح العالم» تبقى تتصاعد من بداية الرواية الى آخرها، رغم اللعب الكتابي في نوع السرد، ونوع الحوادث وشخصيات الرواية، في الغرابة، والخيال العلمي، والبحث عن خاتمة مشوقة.

مع الطوخي كان هذا الحوار:

 في جديدك عن «ميريث» «بابل مفتاح العالم»، السرد الذي يبدأ على شكل «فلاش باك»، لماذا العودة للطفولة في عمل لروائي شاب؟
 كان مفتاح الرواية هو العودة للطفولة، عودتي أنا. يوما ما، قبل أن أشرع في الكتابة، حلمت بحلم بسيط، كان قد تكرر من قبل أكثر من مرة وبأكثر من شكل، هو الحلم الذي وصفته في الصفحة الأولى من الرواية. حلمت أنني أعود لأدرس بين صفوف التلاميذ الذين كانوا زملائي يوما بتلك المدرسة بالإسكندرية، أنا أتباهى عليهم بمعرفة غير محدودة بمواضيع المواد التي يدرسونها. زملائي هم أطفال أمامي، لم يكبروا، ولكن في نفس الوقت، أبذل مجهودا للتعرف على ملامحهم، هذا يعني أنهم كبروا وتغيرت ملامحهم، أنهم أصبحوا في نفس عمري، هذه هي مفارقة حلمي. وهي مفارقة فكرة العودة أيضا، التي يتحدث عنها كونديرا في «الخفة غير المحتملة للكائن». العودة بمفهومها الخالص تعني الخروج خارج ذاتك، التخلص من ذاتك تماما، بما فيه عقلك وبصرك بل وحتى ذاكرتك، تعني استنساخا رتيبا لما حدث، تعني أنك غير موجود، أن كل شيء يحدث بدونك، بدون عقلك وبصرك وذاكرتك الحالية، وهذا يعني أيضا أنه ليست هناك عودة، فطالما أنت غير موجود، فمن الذي يعود إذاً؟ هنالك كل شيء يحدث كما كان يحدث، كل شيء يتكرر. ولكن ما أدرانا أن الماضي بحذافيره لا يتكرر في طبقة ما من طبقات الواقع، فكرة آلة الزمن هي مهمة في هذا الصدد وأعمال الخيال العلمي التي تحدثت عن العودة للماضي، كانت تفترض أن كل لحظة تعيد نفسها وتتكرر في أماكن أخرى أو أبعاد أخرى من العالم، ولكن وجود البطل الذي يعود بآلة الزمن يربك الماضي، وطالما أنه يتم إرباكه فهو لم يعد نفس الماضي، لقد أصبح شيئا جديدا، وبالتالي فهي لحظة جديدة وليست ماضيا أبدا. هناك مثال قريب على هذا: قبيل سفره إلى حيفا، تحدث محمود درويش عن الاستحالة الفلسفية لمفهوم العودة في حوار طويل أجراه مع جريدة الاتحاد التي كان يعمل بها في حيفا، وبرغم هذا فلم يكن للصحف العربية أن تتجاهل الإغراء الكامن في إطلاق صفة «العودة» على سفره لحيفا التي هاجر منها منذ عقود. تخيلت العناوين الصحفية أنه يعود إلى طفولته أيضا. زيارة درويش استغرقت يومين فقط، ولكن إغراء تخيلها كـ«عودة» وكـ«إغلاق نهائي» لقصة مغادرته بلدته المتوسطية كان أكبر من أن يقاوم. ربما ما هو مفزع في قصتنا أن وجودنا لا يغلق أبدا، وليس هناك أبدا جزاء وفاق لجرائمنا، هناك دائما الجرائم، وكل ما نتوهم أنه «عقاب» أو «جزاء وفاق» ما هو إلا جرائم جديدة ستستلزم عقابا آخر هو جريمة أخرى. بهذا لا يصبح سفري للإسكندرية عودة، إنه مكان جديد سأحتاج إلى العودة إليه مرة أخرى، وهذه العودة، بالتالي، لن تحدث أبدا. يمكننا أن «نسرح» قليلا ونتأمل المعادلة التالية: اليهود «عادوا» إلى «أرض إسرائيل» وقت أن كان اسمها قد أصبح «فلسطين»، والفلسطينيون يسعون «للعودة» إلى «فلسطين» بعد أن تحول اسمها إلى «إسرائيل». لا أحد يعود إلى نفس المكان أبدا. هذا وهم. في حلمي كنت أتذكر «كريم»، وهو اسم سكندري خالص ينطق بضم الكاف وفتح الراء وتشديد الياء وكسرها. كان «كُرَيِّم» يشبهني بقوة حتى أن أمي نفسها لم تكن تستطيع التمييز بيننا، أتساءل هل سارت ملامحه في اتجاه مختلف عن ملامحي أم ظلت مرتبطة بها. الرواية كانت محاولة للغوص بعيدا داخل هذا السؤال، وليس الإجابة عنه، كنت أحاول العودة ليس فقط إلى مدينتي المتوسطية القديمة، حيفاي الخاصة بي، وإنما أيضا إلى وجهه الأصلي، ولم يكن هذا ليفلح كثيرا.

البصمة

 في اختلال العالم الانساني على الصعد كافة، هل تكفي اللغة لصناعة بصمة الكاتب؟
 فعل طباعة البصمة هو فعل أساسي في الرواية. حوائط بلادنا تشهد على هذا عبر الأكف المصبوغة بالدم المطبوعة عليها، سور كورنيش النيل وأعمدة الإنارة والأشجار تشهد على هذا عبر أسماء الأحبة المكتوبة عليها. البصمة هي أن تكون موجودا في شيء ما خارج حدود جسدك، أن تكون موجودا على جسد آخر، في مكان آخر، في زمن آخر، والتوقيع على الكتب هو شيء ما قريب أيضا. في الرواية تأملت طباعة البصمة في فعلين، تشويه وجه مراد العشيق بماء النار وطباعة بصمة الرب على الكرة الأرضية، والتي أدت لتكون الجبال والسهول والأنهار، كانت البصمة هي الفعل العنيف الذي حدد تاريخ الكرة الأرضية وعلاقة سمية بمراد وعلاقة نائل به. ربطت فعل طباعة البصمة بفعل آخر هو فعل الاختلال، خلخلة موازين الكرة الأرضية من الداخل، وأي شيء يقوم بهذا على الوجه الأكمل سوى اللغة!؟ بصفتي مترجما، ومترجما عن اللغة العبرية بالتحديد، أي أن لي معرفة معقولة باللغات السامية، فقد شغلت بالي هذه اللحظة التي انفصلت فيها اللغة السامية الأم إلى لغات فرعية، مثل العربية والعبرية والأرامية والسريانية والكنعانية. أتساءل ربما لو لم تكن اللغة السامية الأم قد انفصلت عن بعضها، ربما لو لم يدب فيها الاختلاف بطيئا بطيئا، وهو افتراض مستحيل على أي حال، لم يكن الحال لينتهي بنا إلى هذا. لم يكن ارتباط الإسلام بالعروبة ليوجد أصلا، ولا ارتباط اليهودية بالعبرانية، وهو ما يعني أن الصراع العربي الإسرائيلي لم يكن ليوجد إلا في شكل صراع ديني فحسب، أشبه بالخلافات المذهبية بين السنة والشيعة، كان برج بابل ليصعد إلى السماء ويصنع البشر لهم اسما كما تواعدوا، اختلافات اللغة هي انتفاضة تحدث من قلب العالم لهدمه. يستخدمها مراد للانتقام من عالمه كله، بعد أن يعلم بعدم وجود النية لدى دار النشر بطباعة قاموس «ألف» وبالتالي ضياع فرصة تصميمه لإعلانات القاموس، يقرر أن يمد الخط إلى آخره. عدم وجود القاموس معناه هدم العالم، معناه انهيار برج بابل. في سيناريوهات الإعلانات، يقوم مراد بتحطيم كوكب الأرض منتقما من دار النشر ومن سليمان ومن سمية.

التماهي

 هناك هذا التماهي بين أشخاص وأفعال في روايتك وبين شخصيات سينمائية في شكل ضبابي الى حد؟
 فكرة التماهي أكثر من ملهمة. الآن، في هذه اللحظة التي نتحدث فيها، تعرض في دور السينما المصرية ثلاثة أفلام، اصطلح على تسميتها جميعا بـ«أفلام الإفيه»، «عندليب الدقي» لمحمد هنيدي ويقوم فيه بدورين، «كركر» لمحمد سعد ويقوم فيه بأربعة أدوار، «كده رضا» لأحمد حلمي ويقوم فيه بثلاثة أدوار، وهذا ليس إلا قمة جبل الجليد. كان التماهي، التشابه إلى درجة التطابق، هو عمود الأساس بالنسبة لسينما «الإفيه» كما يحب البعض تسميتها، ولكثير أيضا من الأعمال التي سبقت ظهور هذه السينما. ملامح واحدة يتم تركيبها على شخصيتين، والأهم أن تكون الشخصيتان متناقضتين حتى يتمكن الممثل من إثبات قدرته على التقمص، أي أن التماهي الكامل يظل دوما معطلا لأنه سيساوي الصفر. دخلت أنا في منتصف هذه الحبكة، أو قبل اكتمالها بقليل، أو بعدها بقليل، أبحث عن مراد زميل طفولتي لأعرف هل ما زال يشبهني أم لا. يظل اليقين معطلا طيلة الرواية. لنقل إن فكرة «التماهي» الكاملة، مثلها مثل فكرة العودة، هي شيء مستحيل، هو دوما تماه مع إيقاف التنفيذ. في الرواية يسعى دوما نائل لمعرفة هل ظل مراد يشبهه حتى الآن، مثلما كان عليه الأمر في طفولته، أم لا. يكتشف أن العالم كله قد تآمر لمنعه من هذه المعرفة، وأنه يسقط في فخ تم استدراجه إليه عبر هذه الرغبة بالتحديد. لم يكن مراد هو موضوع التماهي الوحيد. في الرواية كانت هناك سلسلة من العقبات تعطل التماهي دوما. كان الآمر كالآتي: وجه مراد هو نسخة طبق الأصل من وجه نائل لولا تشوهه بماء النار، ووجه سمية هو نسخة من وجه مراد لولا كونه وجها أنثويا، ووجه سليمان هو نسخة من وجه نائل ومن وجه مراد لولا صلعه، ووجه الطفل خالد هو نسخة من وجه مراد لولا كونه وجها طفوليا. لا يمكننا إلا أن نفترض أنه كان هناك وجه أصلي تفرعت منه هذه الوجوه، وأن هذا الوجه الأصلي غير موجود الآن ولا أمل في العثور عليه. هذا يعيدنا إلى اللغة السامية الأصل، كل لغاتنا الآن هي أوجه مختلفة انحرفت عن تشابهها بينها وبين بعضها وسارت كل في طريق مختلف بلا أمل في استعادة القالب الأصلي الذي قيست كل منها عليه. الله خلق كلا منها ثم كسر القالب، كما تقولون في لبنان.

 قاربت حدود الخطر في الاعتماد على حبكة تتمثل في زنا المحارم؟
 كان لا بد أن تتم هذه الحبكة عبر زنا المحارم. ليس فقط لأن زنا المحارم وحده ما يمكنه إنتاج أبناء هم أقرب ما يكونون شكلا إلى آبائهم، وبالتالي الاقتراب من الأصل قدر الإمكان، مع عدم إمكان وجود جين غريب أو أجنبي، وإنما لأنه ظلت تشغلني المفارقة المنطقية التي بمقتضاها نحن جميعا أبناء زنا المحارم، أبناء زواج ابن آدم بأخته، ولولا هذا لما كان لنا وجود، ثم حرمت علينا الخطيئة التي كان لها الفضل الأساسي في وجودنا. هذا مربك للغاية.

الاختلاف بين الرواية هذه او الكتابة الأولى عائد الى أنني في مجموعتي الأولى «تغيرات فنية» لم أكن أملك بعد فكرة واضحة عن الكتابة، كانت ثمة فكرة غامضة وغير يقينية عن الكتابة بوصفها مكان المفارقة المنطقية، مكان اللعب بالمنطق، هذا هو الشيء الذي أمكنني فيه وقتها الحفاظ على روح فلسفية وأخرى لعوب تحكمان العمل. كانت وقتها رسومات بالقلم الرصاص، تخطيطية ومجردة، لما سيصبح عليه تصوري عن الكتابة في الروايتين التاليتين، «ليلى أنطون» و«بابل مفتاح العالم». في ليلى أنطون قمت بمفاقمة المفارقات على قدر ما أمكنني: حبكات صغيرة جدا ترتبط ببعضها ارتباطا وثيقا، برغم تشعب حبكات الرواية حاولت أن أجعلها محكمة أكثر ما يمكنني، لم تكن «الحدوتة» بمفهومها الأساسي هي ما يشغلني، أما الآن فقد قررت، والكتابة فعل قرار لدي، أن أجعلها تشغلني. قررت أن أصنع «حدوتة» جيدة، واحدة تسيطر على العمل من أوله لآخره، والحدوتة، أو الحبكة، هي حبكة بالمعنى التقليدي، تستلزم عدة أمور، التشويق، مفاجأة القارئ كل دقيقة، منطقية الأحداث، هذا كان طموحي الذي لا أعرف إن كنت قد نجحت فيه أم لا.

أجرى الحوار: عناية جابر - السفير - لبنان

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى