السبت ٨ نيسان (أبريل) ٢٠٠٦
فيلم " دنيا " ..
بقلم أمل الجمل

والإساءة الحقيقية لسمعة مصر ؟!

كانت تهمة الإساءة لسمعة مصر من بين أسباب هجوم بعض الصحافيين على فيلم "دنيا". وأنا أرفض هذه الجملة لأن تحت ستارها تم ولا يزال يتم إغتيال عدد من أفضل الأعمال السينمائية، وأكثرها صدقاً. كل عمل فني قابل للمناقشة، والإختلاف معه وارد. لكن إذا استمر الإصرار على إقحام إسم مصر في الأعمال الفنية سنُحرم من أفلام جيدة. كما أنه لا يوجد عمل فني يُمكن أن يُسيء إلى سمعة مصر أو إلى سمعة أي بلد في العالم.. في كل بلاد الدنيا تناولت السينما سلبيات بلادها وانتقدت مجتمعاتها ونددت بها في قسوة.. والنماذج عديدة منها أفلام مثل: GFK عن إغتيال "جون كندي", وفيلم "المفقود" الذي يُعري السياسة الأمريكية في بلدان أمريكا اللاتينية ويكشف سياستها لحماية الطغاة. كذلك فيلم "إمرأتان" الذي يفضح الأطراف المشاركة في الحرب العالمية الثانية ويتهمها بفقدان الإنسانية والإعتداء على أعراض النساء. لم يقل أن هذه الأفلام يُسيء إلى سمعة أوروبا وأميركا، أو أن الفيلم تعمد إهانة جيوشهما التي إنتصرت على النازيين والفاشيين. لكن الفيلم قُوبل بالترحيب والتقدير.

الإساءة الحقيقية لسمعة مصر تتم بالشحاذة على اسم مصر على مختلف الفضائيات العربية بشتى الطرق والوسائل.. الإساءة الحقيقية لسمعة مصر هى محاولات منع فيلم "ليلة سقوط بغداد" لأنه يسخر من الأميركان.. الإساءة الحقيقية لسمعة مصر هى تجاهل المبدعين المصريين الحقيقيين مفكرين وأدباء، فنانيين وعلماء ومحاولة تضييق الخناق عليهم، وإسدال ستائر النسيان عليهم، في حين يُقدرهم ويُشيد بهم العالم.

التهمة الثانية التي واجهت فيلم "دنيا" أنه إنتاج عربي أوروبي مشترك، أنه فيلم فلكلوري مصنوع من أجل الغرب ومُوجه إليه. لكنها تهمة منطقها مغلوط لأن عدد غير قليل من الأفلام في مختلف الدول العربية خرج للنور من خلال التعاون المشترك وأحدثها أفلام شاركت في المهرجان في دورته الأخيرة من بينها الفيلم الفلسطيني " الجنة الآن", والفيلم العراقي " أحلام" والفيلم المغربي "الخبز الحافي".. عن طريق الإنتاج المشترك تحقق مالا يقل عن 17 فيلماً هى من أهم الأفلام في تاريخ السينما المصرية.. ساهم الإنتاج المشترك بشكل أساسي في ظهور مخرجين مهمين في تاريخ السينما العربية مثل "عاطف حتاتة" صاحب فيلم "الأبواب المغلقة" والذي لم يُقدم عمل آخر منذ أربع سنوات، غالباً بسبب التمويل, رغم أن لديه سيناريو عُرض على لجنة القراءة في مهرجان كان 2005، وهىّ سابقة من نوعها في تاريخ السينما المصرية. و"يسري نصرالله" الذي أخرج جميع أفلامه من خلال التعاون المشترك، سرقات صيفية، وصبيان وبنات, ومرسيدس, وأخيراً فيلمه "باب الشمس" الذي يتناول القضية الفلسطينية ويُهاجم اليهود لكنه تم بالتعاون الأوروبي المشترك.

فيلم " دنيا"

" لا يخلو فيلم في العالم من خمس دقائق جيدة على الأقل".. هذه جملة شهيرة للسينمائي "بونويل", وهى تنطبق على فيلم "دنيا", لكنها قد تصل إلى عشرة دقائق جيدة, منها الفكرة بشقها الأول والذي يتناول قضية الختان باعتبارها جزء من حرية المرأة, فحرية المرأة مرتبطة أيضاً بجسدها.. العقل والجسد لا ينفصلان ويتحرران سوياً, ولا أمل في تحرر العقل ما لم يتحرر الجسد.. الشق الثاني من الفكرة يطرح قضية في منتهى الخطورة هى أن الختان الجسدي يُمكن قهره والتغلب عليه, لكن الأصعب والأخطر منه هو الختان الفكري, فختان العقل لا يُمكن هزيمته.. يدافع الفيلم عن حرية جسد المرأة, وعن حرية فكر كل من المرأة والرجل على السواء.. أن البطل د/ بشير يفقد بصره على يد الإرهاب لكنه يسترده بممارسة الحب والرقص والشعر.

مشهد الختان كان مشهداً صادماً يُبرز قسوة هذه العملية.. إنه يُصور ما يحدث في بعض مناطق الريف المصري.. لعب المونتاج في هذا المشهد الدور الأكبر, فالمُشاهد لم ير عملية الختان لكنه من خلال ترتيب اللقطات والإنتقال بين الموسى وبين فتح ساقيي الفتاة استعداداً لعملية الذبح، ثم صراخها، وتناثر الدماء على المنديل الأبيض جعل الأجساد تقشعر من قسوة الإحساس بالألم.

من المشاهد الجميلة في الشريط السينمائي شوارع القاهرة التي التقط جمالها وسحرها المصور الفرنسي"جاكويه بوكين".. ولا أدري ما سبب الهجوم على تلك اللقطات إذا كانت هذه هى القاهرة الحقيقية بناسها العاديين؟! ربما الإعتراض هو على مشهد باعة الملابس الداخلية للنساء الموجودين في وكالة البلح وفي العتبة والموسكي.. لكنه مشهد مصري قُح, وليس للمخرجة أي فضل في إبداعه أو إبتكاره.. هل أصبحنا نخجل من حقيقتنا؟!.. ملابس "حنان ترك" لم تكن عارية أو شفافة لكنها جاءت جميلة بلونها الأحمر, لون الحب والحياة المتوهجة.

أخطاء السيناريو

ليست المشكلة فيما طرحه الفيلم من أفكار. لكن في الطريقة التي تمت بها معالجة هذه الأفكار.. أُتيح للفيلم إمكانيات مادية وفنية جيدة, وغناء عذب, ورقصات إنسيابية, وطرح أفكاراً جريئة. دافع بطلا الفيلم " منير, وحنان" عنه باستماته وحاولا شرح أفكاره, وأفاضت المخرجة بحديثها عن رمزية الملابس والشخصيات النسائية والإضاءة والديكور. مع ذلك فالمستوى الفني لـ " دنيا " ضعيف. ويرجع السبب الجوهري إلى السيناريو, ومن بعده الإخراج, وتقع مسئولية الإثنين على عاتق "جوسلين صعب". الشريط السينمائي شابه ارتباك فكري شديد, وتعثر في السرد وإخفاق في المعالجة الدرامية.. وأعتقد أن ذلك نتيجة طبيعية إذا علمنا أن ما تم تصويره بلغ 4 ساعات, وفي رواية آخرى 6 ساعات. أن يتم مونتاج فيلم روائي مدته 112 ق من بين هذه الساعات فلابد أن تكون النتيجة حدوث خلل في السرد السينمائي. لكن هذا الحذف لا يُبرر الإرتباك الفكري, فحينما تكون الفكرة واضحة في ذهن المبدع يُمكنه إختيار مشاهد تدعم فكرته وهو مالم يحدث في فيلم " دنيا" .. فمثلاً البطلة "دنيا" تحكي عن التأثير السلبي للختان عليها بعد الزواج فتقول : زوجها يصفها بأنها باردة. لكنها ليست كذلك. إنها تُريده, وعندها رغبة قوية. لكن جسمها يرفض أن يستجيب."
النصف الثاني من جملة البطلة صحيح طبياً. لكن المخرجة قدمت مشاهد متناقضة تُوحي أحياناً بأن البطلة لا تعاني من أثار عملية الختان وهو ما يتضح بعد الزفاف فنرى في الصباح العروسين عشاق سعداء.. كذلك شخصية سائقة التاكسي التي قدمتها "عايدة رياض" تكشف عن إمرأة لديها شبق جنسي وسعيدة مع زوجها, لكنها في أحد المشاهد تنعي حظها العاثر بسبب الختان.. في مشاهد آخرى بدت البطلة " دنيا " وكأن الختان قتل لديها الرغبة وهو خطأ لابد من التوقف عنده.. لو الختان قتل الرغبة في ممارسة الجنس لما أصبح هناك أزمة. لأن المشكلة الحقيقية للختان هى وجود فجوة بين الرغبات وعدم القدرة على إشباعها. والمؤلفة لم تستطع رسم مشاهد تخدم فكرتها وتُدّعمها. لكن على العكس في أحيان كثيرة رسمت مشاهد تُدحض فكرتها الرئيسية.

اتسمت شخصيات الفيلم بالسطحية والخطابية وخصوصاً شخصية د/ بشير المتحرر فكرياً وجسديا, وساهم في ذلك أداء " محمد منير" التمثيلي, لأنه كممثل يحتاج إلى تدريب مكثف وإلى مخرج من نوع خاص.. وهو ليس متميز في إلقاء الشعر. لكن عبقريته الحقيقية في أحباله الصوتية وأدائه الغنائي.

أراد فيلم " دنيا " أن يطرح قضايا كثيرة منها: الحرية والحب والرقابة المتطرفة على الفكر والأدب, نظرة المجتمع للفتاة الوحيدة, ورفضه أن تستقبل حبيبها في بيتها.. نظرته لمهنة الراقصة, تحريم أن يرى الإنسان جسده عارياً, أهمية أن يكون الإنسان نفسه.. أفكار عديدة جريئة ومهمة, لكن تبقى المشكلة أنه لم ينجح في مناقشة قضية واحدة.. كان الفيلم يُريد أن يقول كل حاجة فانتهى من دون أن يقول شيئاً عميقاً.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى