الخميس ٢٠ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٨

وللايام ألوان

بقلم: أماني مازن بكري

نفخت على اناملي الصغيرة من حرارة انفاسي محاولة تحريك الدم المتجمد في شراييني، انهيت التنظيف اخيراً وتحسست الطريق المظلم لأصل غرفتي . واغلقت باب الغرفة بحذر خوفاً من ايقاظ اهل البيت ، وقفت برهة خلف الباب أجول بأفكاري هنا وهناك .

مسحت البخار المتكاثف على زجاج النافذة الصغيرة بطرف ثوبي ....

الظلام ... القمر .. النجوم ... المطر ... شجعني هطول المطر من عين السماء على البكاء .ذرفت دموعي لتلتقي وحبات المطر عند أطراف النافذة .

كان الشتاء بضبابه .. وبرقة ورعده وامطاره .. يذكرني بأمي ...

دائماً ذكراها في مخيلتي .. إلا ان الشتاء بالذات يلح علي بالشوق حتى غلبني البكاء أخيراً من شدة شوقي ... فالشتاء بطبعه البارد يحتاج إلى حنان الأم ...

كانت في كل ليلة تأتي إلى سريري ، تدس جسدها في فراشي وتحكي لي قصصاً وحكايا مضحكة ومرعبة .. ونادراً ما قصت لي عن الاشباح فاكمش ثوبها خوفا وأنام في حجرها ... تقبلني .. وتذهب ..

لا ازال ألذكر طيفها بقوامها الممشوق وشعرها المسدول فوق ظهرها .

وقد كان الزمن وصغر سني كفيلان بأن يمحيا دقة ملامحها من ذاكرتي .

اثقل فكري بالهموم واثقلت جفوني بالنعاس . تركت النافذة وذهبت إلى السرير .

استيقضت في صباح اليوم التالي على صراخ زوجة أبي ..

 هيا انهضي يا بدر البدور ... يا ست الستات ..

وأخذت تهمس في أذن والدي وتشكو له بلادتي وقلة حركتي .. وأنني كثيراً ما أصرخ في وجهها .. لا أعبأ بها ولا بأعمال المنزل وو ....

فيحمر وجهه غضباً وغيظاً ويتطاير الشرر من عينيه ... ثم ..

ينهال علي ضرباً ويفرغ غضبه فوق جسدي الضئيل ليرضي غرور زوجته اللئيمة ، يا لها من لئيمة تنكر فضلي عليها وعلى أولادها ..

فشحوب وجهي . ونحالة خصري ... وخشونة اناملي والهالة السوداء المحيطة بعينيي كل هذا ... يشهد على مكابدتي في هذا البيت الحقير ووالدي .. أي والد هذا الذي يرتجف خوفاً كعود في مهب الريح أما زوجته .. فهي لا تكاد تنطق بالكلمة حتى يطبطب عليها ويصبرها من أجل أن تتحملني وينهال علي ضرباً ليؤكد لها أنها هي كل شيء .

غريبة هي الحياة دائماً يقولون الرجال والرجال .... حق النساء مهضوم .

لجنةمطالبة حقوق المرأة يجب مساواة المرأة بالرجل ولكن الله أعلم ما تخفيه جدران البيوت ...

فلو كان كل بيت مثل بيتنا لكان أولى بالرجال أن يطالبوا بمساواة الرجل بالمرأة ... زمن ... فيه العجب ....

كنت قداعتدت على هذا اللون من الحياة ، الفت الحزن والفني الحزن لم أعد ابالي بضربات والدي وصرخات زوجته فهذا نصيبي من الحياة وقد كتب علي أن ارتشف الأحزان في الصباح والمساء وفي كل وقت .

عرفت أن الحياة ألوان من السعادة والتعاسة . وقد لونت أيامي بألوان التعاسة ، واتشحت بوشاح الآلام .

تمر الأيام . وتطرق بابنا امرأة غريبة ... تدخل وتجلس وزوجة أبي ثم أدخل بفنجان من القهوة ...

تنظر إلي بأعين فاحصة .. تتمتم ما شاء الله ... ما شاء الله

جاملتها بابتسامة وقد توردت وجنتاي خجلاً لأنني تقريباً فهمت سبب زيارتها

تركت الغرفة راجية الله أن يصدق حدسي ...

وقد تم المنال وسمعت زوجة أبي تحدثه عن عريس يريد خطبتي ... رقص قلبي طرباً وكدت اطلق زغرودة من شدة فرحي لولا أن حرجي وخوفي منعاني عن ذلك . أسرعت إلى غرفتي ... ولأول مرة ابتسم لجدران الغرفة لا بد وان السعادة عرجت نحوي . وان القدر قرر أن يريني وجهاً آخر للحياة .

فكرت في زوج المستقبل ... لا يهمني شيء عنه .

شحيح غني .. قبيح جميل ... قصير طويل .. سمين نحيل ...

لم اهتم بذاك الرجل قدر اهتمامي بمضمون الموضوع .

شعرت بوجودي ، وانوثتي ومن غير وعي وقفت امام المرآة ونثرت شعري فوق كتفي ... راقبت صورتي في المرآة وكأني أراها لأول مرة.

خرجت من بيت والدي إلى بيتي الجديد ... بالثوب الأبيض

كان بيتاً بسيطاً يتكون من حجرتين وصالة .. غرفة لي والأخرى لوالدته التي ستشاركنا المسكن .

رأيته قصراً . ضخماً ... اتجول به ولا اصل إلى نهايته رأيت السعادة ترفرف فوق كل ركن من أركانه .. رأيت به المستقبل ونسيت الماضي تخيلت أطفالي يركضون ويلعبون ... ويصرخون ... ماما ... بابا ..

ضحكت بارتباح .. بصوت جلجل في ارجاء البيت .. لا بصم على جدرانه وأؤكد سعادتي ورضاي بنصيبي الجديد بدأت حياة سعيدة .. جديدة .. اشعر بوجودي .. أنوثتي وجمالي ...

لكن الحياة كالبحر ... يهيج ويسكن ... يسكن ويهيج ..

وبدأت تنشب خلافات بيني وبين والدته ، ودائماً كان يناصر والدته ، وبدأت الأيام تعيد نفسها ، وتنهال علي ضربات من هنا وهناك .. ان الزمن مصمم على ان يتركني فريسة سهلة ينقض عليها هذا وذاك حتى يشاء .

رضيت بالواقع ، ولم أتأمل من المستقبل . اقنعت نفسي ان للحياة لون واحد .

انجبت طفلة وكانت اجمل لحظات حياتي عندما اضمها إلى حجري وارضعها لباني .. وحبي وحناني ..

كان الفصل خريف . عندما وقفت خلف زجاج النافذة الأشجار عارية . الورق الأصفر يحاول جاهداً ان يبقى متماسكاً بأغصان الشجر إلا أن محاولته تذهب هباء ويسقط مع أخف نسمة ريح ...

منظر الشجر . يثير الآلام في النفس ... لكن بعد شهور قليلة سيثمر من جديد... ويتلون بلون جميل .

فالشجر العاري لن يبقى عاري .... والاوراق الصفراء ستتلون باللون الأخضر

بقلم: أماني مازن بكري

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى