السبت ١٥ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١١
شظايا البوح
بقلم زهور كرام

الاشتغال الجمالي بين الكتابة والتشكيل

تتحقق قصة" شظايا البوح" للكاتبة المغربية " زكية خيرهم" (1) نصيا، وفق مبدأين يتسمان بالتناقض في طبيعتهما، ولكنهما ينجزان فعلا سرديا، بموجبه تنتج " شظايا البوح" دلالتها القصصية من خلال مظهريين اثنين:

1- الحكاية..وحدة منسجمة أفقيا

تعلن قصة " شظايا البوح " للكاتبة المغربية " زكية خيرهم " منذ افتتاحها السردي، مرورا بمحطات الحكاية، وصولا إلى تلاشي القصة عبر الاختتام السردي، عن البعد الأفقي لمسار نمو الحكاية. وذلك، باعتماد مكون الحدث، باعتباره جامعا لمقاطع الحكاية، ومبرمجا لمنطق تتابعها وتسلسلها، ومنظما لترتيب عناصر مكوناتها.مما يعطي الانطباع منذ البداية بإمكانية الحديث عن وحدة الحكاية، وانتمائها إلى الكتابة الأفقية تلك التي تجعل من الحكاية مدخلا لهوية القصة، ومرجعا لنظام القراءة، وذلك باعتماد الحدث/الأحداث باعتباره أهم مدخل للتواصل مع نص قصة " شظايا البوح". هكذا، نستطيع أن نتحدث عن حكاية ممكنة لنص" شظايا البوح"، تتعلق بالشخصية " نورا" التي تدخل في حالة تأمل مع لوحة تشكيلية، تحفزها على العودة إلى الماضي، واستحضار لحظات النقاش الفني-التشكيلي مع رفاقها( سباستيان، جوناتان...) بمعهد الفنون بباريس، وهي التي تظل "تبحث عن فن لم يكن إلا إعصارا قاحلا يقبع في كلّ مكان من حولها ويضيق صدرها" عندما ترى الزيف والغدر والسواد. ثم يتجدد اللقاء مع الرفيقين بالمعرض التشكيلي ل " سباستيان"، فيتضح ل " نورا" أن الأفكار حولها تتغير، فيما هي ما تزال وفية لتأملاتها حول الفن والحياة، وما تزال تعتقد بالمعنى الجمالي للفن، غير أن فشل محاولتها في إعطاء معنى للوحة التي أهداها إياها س سباستيان، ستجعلها تدرك صعوبة تغيير الوجه البشع في الفن..في الحياة.

قد تبدو حكاية نورا مع رفيقيها (جوناتان وسباستيان) حكاية بسيطة، تهم مناخ النقاشات التي تدور – عادة- بين أصدقاء لهم نفس التخصص التكويني العلمي، واختلاف الرؤى الذي يغني النقاش أحيانا، ويقيم الاختلاف أحيانا أخرى. غير أن التأمل في الخطاب السردي للقصة، والذي نعني به طريقة صوغ النص، يجعلنا نلتقي بوجه مختلف للحكاية، مما يجعل نصية قصة " شظايا البوح" تتأسس على البعد العمودي أكثر من البعد الأفقي.

2- الخطاب.. أفق عمودي

إن افتراض امتلاك حكاية " شظايا البوح" باعتبارها مجموعة من الأحداث المسترسلة، سرعان ما يتلاشى ، عند دراسة بناء القصة سرديا، والانتباه إلى شكل اشتغال الضمير السارد، والوقوف عند طبيعة اللغة من خلال بناء الجملة السردية، ومنطق الأصوات واللغات، ونوعية الحوارات، وملفوظات الشخصيات. مما يجعلنا، نتراجع عن الحكاية باعتبارها أفقا نصيا، والاشتغال بمكونات السرد باعتبارها مدخلا للوعي بنصية القصة.

2-1: تداخل الضمائر الساردة

يتناوب على سرد القصة ثلاثة ضمائر. ضميران يسردان القصة من خارج الحكاية، وهما ضمير الغائب الذي يفتتح سرد نص القصة ب " لم تكن تعرف أن الأمر...."، وينهي سردها بقوله" وكل الجسد يهوي على هيئة ملاك شيطان من عليائه"، ثم ضمير المتكلم المفرد الذي يتخلل القصة مرة واحدة ليعلن حضوره عن نسبة معرفته بالحكاية، والتي تجعل معرفته متساوية مع معرفة الشخصيات النصية أو ما يصطلح عليه ب" المعرفة مع" مثل" كنت أرقبها. يظهر من ملامحها أنها تكابد ما لا أعرفه وتؤثر عدم البوح به ". تخرج الشخصية القصصية نورا من وضعية الشخصية المحكي عنها، وموضوع الحكي إلى الصوت السارد، وذلك عندما تنجز فعل السرد، وتصبح ضميرا ساردا للقصة، بناء على موقعها في الحكاية. يتكلف الضميران الخارج-حكاية بتأطير الأحداث من خلال سرد تأمل نورا للوحة موضوع النقاش الفني الذي دار بينها وبين رفاقها في الماضي. ورؤيتها للفن باعتباره شكلا وليس موضوع، وهو الطرح الذي كان محط خلاف بينها وبين أصدقائها. ثم مرافقتها في خطواتها لحضور معرض سباستيان، ثم الموعد مع رفيقيها جوناتان وسباستيان.، وما يتخلل السرد بضميري خارج-حكاية من وصف للشخصية " تخطو ململمة خطواتها على تلك الرمال من الثلوج. يداها في جيبي معطفها الأسود، مرتفع الياقة" وللمكان" عمارات، مداخل عريضة، محطات ترامبواي، مقاعد الحدائق العامة، صوت سيارة إسعاف، تمر بسرعة البرق"، ويتم ذلك بتتابع وتسلسل يجعل من الشخصية " نورا" موضوعا للحكي الأفقي. غير أن دخول نورا إلى مجال السرد، يحول موقعها من الموضوع المفعول به سرديا إلى الذات الفاعلة في السرد، من خلال ضميرها المتكلم الذي يتولى سرد حالتها وشرودها وتأملها في الفن، باحثة عن الأمثل في التعبير. وعبر هذا الضمير نلتقي بمفهوم نورا للفن والذي تجسده في الشكل، لهذا ظلت محتفظة باللوحة محط النقاش بينها وبين رفاقها، وبقيت اللوحة معلقة على الجدار داخل إطار، تعبر عن رؤية نورا للفن باعتباره فكرة ينحتها الشكل.

2-2 الشخصيات القصصية وعلاقاتها

تتميز قصة" شظايا البوح" بحضور مهم للشخصية باعتبارها مكونا فاعلا في إحداث التحول السردي للقصة. تحضر الشخصية عبر كلامها/صوتها، وفكرها/ نظرتها، ورؤيتها للأشياء/تصوراتها( الفن، الجمال..)، وبهذا، فهي تدخل مجال النص باعتبارها وجهة نظر تؤسس للتحول الدلالي. تتحدد علاقة الشخصيات ببعضها بالاصطدام، الناتج عن الاختلاف في الرؤية إلى الفن. وتشكل الشخصية القصصية" نورا" منظورا مختلفا عن باقي الشخصيات النصية الأخرى. بينما تجسد نورا الفن في الشكل دون المضمون، وتتبنى فكرة الغرابة التي تنتج الجمال، تعتبره باقي الشخصيات معنى مرتبطا بالشيء الذي يتقبله الفهم، ويثير الإعجاب. أحدث هذا التصادم في الرؤى شرخا في العلاقة الإنسانية، وأنتج ذاكرة رمادية حملتها نورا معها.غير أن متغيرا يحدث في شأن الرؤى، مما يجعل بعض الشخصيات تغير معناها للفن/التشكيل، فتحدث الصدمة لنورا التي ظلت وفية لمنظورها حول اللوحة/الفن. يقدم سباستيان هدية إلى نورا عبارة عن لوحة بها جسد ورجلان بدون رأس، سماها شظايا البوح. تثير اللوحة- الهدية انتباه نورا، ويصدمها شكل اللوحة التي تبدو غريبة، غير مفهومة، عبارة عن جسد بلا روح، بلا رأس ، بلا يدين، خالية من المعنى، والفهم والإعجاب. ترى نورا اللوحة عبارة عن عناصر غريبة، غير منسجمة، تفتقد إلى الوضوح الذي كان سباستيان يدافع عنه، حين كانت نورا تؤمن بأن جمال الفن يجسده الشكل والعناصر الغريبة.

تؤسس عودة العلاقة بين نورا وصديقيها سباستيان وجوناتان، لزمن التحول الذي سيدفع نورا إلى تغيير رؤيتها للفن، ونظرتها لرسم اللوحة. وذلك، باعتمادها الرؤية السابقة لرفاقها، ولهذا، تحاول أن تعطي للوحة- الهدية" شظايا البوح" رأسا ومعنى، لكي يكتمل الفهم، ويتحقق الوضوح، ويحل الإعجاب. ولهذا، تقرر أن ترسم وجها جميلا للجسد، وتزرع روحا طيبة فيه تجعل منه أسطورة. غير أن المحاولة باءت بالفشل، إذ انقلبت أسطورة الجمال إلى أسطورة الرعب والخراب(كوشيساكس/ الأسطورة اليابانية) مما يلقي نورا من جديد في زمن الإحباط الفلسفي الذي نتج عن زمن البحث عن أمثل الطرق للتعبير عن الجمال في الفن والحياة.

2-3 اللغة والوجه التعددي

عرفت لغة السرد تعددا في طرق التعبير. وتميزت الجملة بالتناوب بين الإيقاع القصير المقتصد الذي ينتمي إلى نوع القصة القصيرة، والإيقاع الطويل النفس الذي نلتقي به في النوع الروائي. يحضر الانتقال بين النوعين من الجملة بشكل وظيفي، يخدم الإيقاع الداخلي ل "شظايا البوح".
تتميز الجملة بالحركية وتأخذ بعدا شعريا، وتنتهي بإيقاع موسيقي. يتكرر الإيقاع الموسيقي أيضا في هذا التدرج الوظيفي من الجملة القصيرة إلى الجملة الطويلة، لتختزل القصيرة إيقاع الحالة، وتاريخ الصمت، صمت الذاكرة، وهو وضع يتماشى ووضعية الشخصية " نورا" التي تعيش زمنا ذاتيا مقوماته الفن والفلسفة والتأمل، والبقاء على معنى محدد للفن. ثم الطويلة التي تستعيد الحركة المفقودة في الجملة القصيرة، وتعطي حركية إيقاعية للنص تشبه إيقاع الخطوات اللاهثة بحثا عن شيء مفقود. كما تشخص الجملة الطويلة تسريع الخطو لدى نورا وهي تتقدم بخطوات سريعة نحو المركز الثقافي حيث معرض " سباستيان"، وتطوي المسافة حتى لا يراها "جوناتان" من شباك المطبخ.

تشخص طبيعة الجملة السردية في قصة" شظايا البوح" حالة الشخصية، معبّرة مرة عن حالة الشرود الذهني، الذي يختزل زمن التأمل في اللوحة، ومرة أخرى واقع الخطو مع اشتغال الذاكرة، وصحو الماضي.

كما تعمل اللغة على أنسنة الأشياء، وإعطائها بعدا ماديا، يخرجها من وضعها الطبيعي ويلحقها بزمن الحركة. فالألم يرتعش، والضوء يصبح عريا، والقناع يتبعثر ويتعثر، ويصبح للبوح شظايا، وللصمت لباس. وبهذا، تشتغل اللغة القصصية في نص " شظايا البوح" معادلا رمزيا لمناخ الحالة التي تحياها نورا، وهي تعيش أزمة المعنى بين الفن والحياة.

3- ملاحظات تركيبية:

تأسيسا على مكونات الخطاب السردي لقصة " شظايا البوح" للكاتبة المغربية- " زكية خيرهم"، يمكن تسجيل الملاحظات التالية:

3-1 تطرح "شظايا البوح" فكرة البحث عن مفهوم الجمال في الفن/الحياة. من خلال شكلين تعبيريين: الأدب/القصة القصيرة والفن/اللوحة التشكيلية. إنه منجز تعبيري يجعل من القصة لوحة، ومن اللوحة قصة. وضع يفتح النقاش حول إمكانية انفتاح جنس القصة القصيرة على تعبيرات فنية وأدبية أخرى.

3-2 " شظايا البوح" والتجاذب بين الكتابة والتشكيل
إذا كان النص الأدبي ينتج تميزه من إمكانياته في خلق المدهش والخاص والتفرد، فإن قصة " زكية خيرهم" تبني خصوصيتها السردية والفنية من هذا التراكب والتعالق بين الكتابة(القصة القصيرة) والفن التشكيلي( لوحة شظايا البوح) من خلال هذا التناص في الحكي. يصبح السرد - في هذا المستوى التركيبي- منتجا للتعدد في التبليغ الرمزي للقصة، من حيث الحضور القوي للفن ( اللوحة، والنقاش حولها..)، والسرد اللغوي بتنوعه. يتحول الفن إلى أدب، والأدب إلى فن، ويصبح الانتقال بينهما انتقالا في مستويات البحث عن أكثر وأمثل الأشكال تعبيرا عن المعنى في بعده الفلسفي.

3-3 تتبنى قصة" شظايا البوح" مكونات النوع الروائي في تشييد عالمها الحكائي، وذلك باعتماد:

 تعدد الضمائر الساردة والتي منحت للقصة تعددية في الرؤى، مما جعلها تخرج عن بعدها الأفقي، وتغادر منطق الحكاية المكتملة، وتنخرط في الـتأويل.

 تعدد مستويات اللغة والذي انعكس على تنوع الجملة السردية، بين القصيرة المشخّصة للحالة، والطويلة الساردة للحركة، مع اختلاف وظيفة كل جملة في إمداد القصة بدلالات عديدة، و خلق نوع من الحيوية والمرونة السردية، جعل القصة لا تنغلق في جو الشرود الذهني الذي تطلبه الافتتاح السردي.

 حضور الشخصية القصصية باعتبارها ملفوظا، ساهم في جعل القصة ملتقى الكلام القصصي، شبيه بما نصطلح عليه ب" الكلام الروائي". وتم ذلك، بواسطة الحوار بشكليه المباشر، والمسرود الذي حافظ على نبرة المتكلم.

3-4 هل يمكن اعتبار قصة " شظايا البوح" بهذا التركيب السردي الذي يعتمد الكتابة والفن/ الصورة شكلا من أشكال البحث عن الأمثل في التعبير، مادام سؤال البحث لدى شخصيات قصة "زكية خيرهم" يتمحور حول معنى الفن؟

وهل يمكن اعتبار القصة القصيرة نوعا أدبيا قابلا لاحتضان التعدد في اللغات والأصوات؟.
د زهور كرام
ناقدة وروائية وقاصة وأكاديمية مغربية

(1) خيرهم( زكية): شظايا البوح

قصة: منشورة بموقع ديوان العرب، تاريخ:3 أيلول( سبتمبر)2011.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى