الشمعة التي تحترق لتضيء على الآخرين
كتبتُ قصيدة في وصف المعلم على لسان طالب، وقلت فيها:
وظلت شمعة كبرىتضيء لنا وتحترقنساجلها تفانيَهافيسطع ضوءُها الأَلِقُ
ظننت هذا المعنى حديثًا، وأنني استقيته من حديث الناس، حيث المعنى التفاني والإيثار،
فإذا به أقرأه مؤخرًا في أشعار العرب، وبصور مختلفة:
يقول العباس بن أحنف:
أُحرَم منكم بما أقول وقدنال به العاشقون مَن عشقواصرتُ كأني ذُبالة نُصِـبتْتضيء للناس وهي تحترقُ(الذبالة: الفتيلة التي تُسرج)
ديوان العباس- دار صادر، ص 221.
وهو أيضًا شبيه بقول المُرتضَى بن الشهرزوري عن الشمعة في قصيدة ذكرها ابن خِـلِّـكان:
كمثل الشمعِ يُمتع منينادمه وينمحق
انظر (وفَيات الأعيان) مادة المرتضى- توفي 511هـ
كما نُسب لأبي الفضل الميكالي هذا المعنى أيضًا في قوله وهو يصف الشمع:
تحمّل نورًا حتفُه فيه كامنوفيه حياة الأُنس واللهو لو يدري
الحصْري- (زهر الآداب)، ج2، ص 693.
.. ومن الحكم السائرة قول أبي العتاهية، وهو يذكر السراج هذه المرة :
وبَّخت غيرك بالعمى فأفدته .... بصرًا وأنت محسِّنٌ لعماكا
كفتيلة المصباح تحرق نفسها .... وتنيرموقدها وأنت كذاكا.
(ديوان أبي العتاهية، ص 361- دار صادر)
ليس بعيدًا عن وصف أبي العتاهية المؤنّب، وجدت تشبيهًا ورد بصورة سلبية لأن التصرف كان سلبيًا:
روى الطبراني بإسناد صحيح عن جندب أن رسول الله قال:
" مثل العالم الذي يعلم الناس وينسى نفسه كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه".
(انظر صحيح الجامع : 5831)
بالطبع فمن تصدر للتعليم عليه أن يعلّم نفسه أولاً، وإلا فهذه ليست تضحية بقدر ما هي تضليل..
ما رأيكم فيمن يعارض أن نشبّه المضحّي بالشمعة، ويرى أن التشبيه الأصوب هو:
"كن كالمصباح يضيء لنفسه، ويضيء لمن حوله-
دون ان يحترق"؟
الشيء بالشيء يُذكر:
* للشاعر الصنوبري ت. 945 م موقف آخر، إذ يرى تشبيه حياة الإنسان بحياة الشمعة- التي لا نعرف متى تُطفأ:
مجدولة في قدّهاحاكيةٌ قد الأملْكأنها عمر الفتىوالنار فيها كالأجل
* من جهة أخرى نجد في شعر أبي الفتح البُستي أنه يشبه هذا العطاء -الذي بدأنا به عن الشمعة- بما تنسجه دودة القزّ على حساب حياتها:
ألم ترَ أن المرء طولَ حياتهمُعَنًّى بأمرٍ لا يزال يعالجهْكذلك دود القزّ ينسج دائمًاويهْلِك غمًّـا وسطَ ما هو ناسجهْ...
وقالوا قديمًا: الإبرة تكسو الناس وهي عارية.