البطركية والمجتمع العربي
البطركية (النظام الابوي) من خلال فكر الدكتور هشام شرابي والدكتور حليم بركات والدكتور محمد جابر الأنصاري وقياس تلك الكتابات مع سلم الحاجات لأبراهام ماسلو
شهد العالم العربي تطور تاريخي من أنواع السلطة البطركية في المجال الاجتماعي والتنظيم السياسي بدءا بسلطة القبيلة في عصر الجاهلية والخلافة الإمبراطورية في العهد الأموي والعباسي من (القرن السابع إلى القرن الثالث عشر) وسلطنة عثمانية كان فيه المجتمع العربي في مرحلة بطركية غير عربية استمرت حتى القرن التاسع عشر حيث كانت أوروبا في طريقها إلى مركز القوة فبذلك اتسم التدهور في عالمنا العربي في حين ازدات أوروبا سيطرة وقوة.
أن مرحلة الانحلال وبروز الدويلات بدا منذ القرن الثاني عشر ثم تبع ذلك غزوات أجنبية من بويهيون وسلاجقة وصليبون ومغول وأتراك عثمانيين ثم انهيار تجارة المسافات الطويلة في القرن السادس عشر وما نجم فيه من ركود اقتصادي وظهور التنظيمات العثمانية(حركات التحديث في القرن التاسع عشر) وما يتبعها من هيمنة اوروبية في الميدان الاقتصادي والسياسي وأخيرا السيطرة الأوروبية المباشرة بشكلها الإمبريالي الاستعماري مع العلم أن هذا التطور رافقه عدم اندماج المجتمعات العربية بسبب أن الانتماء الفرعي أقوى من الانتماء الجماعي مما يفسر أن الهوية كانت متعددة الهويات ولم تكن راسخة . فالنظام البطركي إذا لم يظهر بتركيبته الاجتماعية الحديثة إلا في نهاية القرن التاسع عشر نتيجة طموح كل دولة في الحصول على استقلال ذاتي أدى الى هيمنة سلطة الدولة مكونا سلطة بطركية قطرية.
فاستغل الاستعمار هذا الطموح ليعزز مخططاته الإمبريالية من خلال إسهامها في تحديث المجتمع البطركي بثقافته ومؤسساته المختلفة وإدخال نماذج كثيرة في النماذج الغربية من خلال بعض النخب العربية مما أدى إلى ظهور الإقطاعية المعزز الأول للبطركية العربية يعني ظهور شكلين من أشكال الزعامات زعماء وطنيون مناهضون للاستعمار وزعماء محافظون على استعداد للتعامل مع السلطات الاستعمارية وينتمي كل من هؤلاء الزعماء إلى المجتمع التقليدي.
وان الأوروبيين من خلال سيطرتهم على الوطن العربي استخدموا لفظ الإرهابي على الشعب الذي يقاومهم فمارست العنف ضد الشعب بحجة الإرهاب مستغلة القانون في ذلك مما جعل في نفسية الإنسان العربي المستعمر شعوره بالنقص أمام المستعمر مما سبب عجزا فكريا تصوريا اتجاه التنمية .
لقد كان بوسع العرب الانسلاخ عن الأوروبيين واستعمارها لكنهم ساروا مع هذا الاستعمار من خلال عدم توحيد كلمتهم وجعلها في قالب واحد معززين في ذلك البطركية العربية التسلطية المحدثة فيتبين من ذلك ان التنشأة السياسية والتنشأة الديمقراطية غي موجودة في العالم العربي منذ اللحظة الاولى بسبب غياب عنصر التنشأة وتهميش دور الفرد العربي وجعله في دائرة الطاعة والتنفيذ مما جعلهم يتصفون بدور المحكوم .
إن إلامبريالية أسهمت في تشكيل الوعي والممارسة السياسية ضمن المجتمع البطركي الحديث فكانت في الميدان السياسي مسئولة عن إعادة تنظيم الحياة السياسية على الزاويتين الطبقية والأيديولوجية وأصبحت قوية مما أدى إلى تعطل التطور الديموقراطي ومنع نشوء حركة راديكالية حديثة بالمعنى الصحيح ومن هذا يفهم معنى التعاون البطركي العربي الأوروبي و لجوء الأنظمة البطركية العربية المستحدثة إلى تدعيم استقلال وتكييف نفسه مع الوضع الدولي القائم.
الى أي حد تعتبر البنية البطركية للمجتمع العربي واحدا من اسس ومرتكزات القصور الذي يعاني منه المجتمع العربي
من خلال التخلخلات الداخلية في أسرة المجتمع العربي الذي يجعل من الصفة الذكرية متفوقة على الصفة الأنثوية مما يمثل نقطة ضعف في المجتمع العربي وهي المرآة ركيزة النظام الأبوي والذي لا يخفى على هذا المجتمع إن تحرير المرأة شرط لتحرير المجتمع. إن هذا المجتمع والذي يعتبر اسير تطبيق النصوص واسير البدائية الجنسية اتجاه المرأة وإغفال العامل النفسي للفرد العربي جاعلا في بطركيته الأبوية رأس الهرم ومحور تلتف عليه العائلة.
وبهذا تتكون العلاقة الهرمية داخل المجتمع من خلال سيطرة الأب في العائلة وممثلا بنظرية الحاكم والمحكوم من خلال إرادته المطلقة من طاعة وقمع من ذلك يتبين أن إطار الدولة يبني بطركيتة على النواة الأولى في المجتمع وهي الأسرة وسلطة الأب مع الأبناء.
وان المجتمع البطركي العربي والمتمثل في العائلة والمبني على الهيمنة والسلطة والتبعية والذي يؤثر في الناحية السيكولوجية على الفرد العربي مسببا في ضياع شخصيته داخل العائلة من خلال سيطرة الأب المهيمنة على العائلة أي سيطرة الكبير عليها (الاب ومن بعده ابنه الكبير) مما تجعل من الفرد داخلها غير قارئ للمستقبل الحضاري جاعلة منه شخصا مطيعا غير خارج عن هيمنة الأكبر منه سنا متسما بالتسرع والتردد وبعدم العقلانية فيظهر نوعا من أشكال طبع الشخصية بطابع العائلة المتسلطة وقابليتة بالتأثر بالنظام الاجتماعي المحيط فتظهر التنشأة الاجتماعية تنشأة مشوهة الاستقلال الذاتي وذلك لان الإنسان بطبيعته مقلد مجتمعي فيتعود الفرد على ما يفعله رب العائلة من أشياء فطبيعيا أن ينمو الإنسان عليه شيئا فشيئا مما يعني التوارث البطركي بالتعود على البطركية السلطوية منتجة شخصا يخشى الحياة والسلطة باستمرار مما يؤدي إلى نشوء فرد عربي لا يقبل التغيير.
ومن ذلك نستنج أن مفهوم العقد الاجتماعي غير ممكن في المجتمع البطركي العربي لأنه يخضع للإرادة الفردية فمن ذلك فان المعارضة داخل المجتمع البطركي العربي غير مقبولة ويتضح ذلك من خلال مقولة (طاعة الحاكم حتى لو كان ظالما) ومقولة (سلطان غشوم ولا فتنة تدوم) وسيتمخض عن ذلك أن الفرد في المجتمع البطركي العربي يضيع إذا انقطع عن العائلة لأنه في نظره لا يتوفر الأمان إلا مع العائلة وان الدولة تاريخيا وحاضرا لم تتح له الفرصة لاختيار من يمثله على مستوى الدولة فأصبح شخصا بعيدا عن الخط السياسي وغير منشأ سياسيا مما جعل الفرد ملتف حول عائلته وتاركا الدولة تفعل ما تشاء .
إن المجتمع ألبطركي العربي مجتمع عاجز متناقض ومتضارب في تركيبته الداخلية من خلال تسلط الطبقة البرجوازية الصغيرة في المجتمع ووقايتها من الأخطار مبدئيا فتتبع أساليب الترهيب والتعذيب مما يجعل من الفرد مبتعدا عن خط السياسة تجنبا من هذا القمع مما يؤدي إلى الحكم على التنمية والتطور العربي بالإعدام جاعلتا من هذا المجتمع مجتمعا تابعا غير مستقل مشردا من ذاته وذا عقلية صنمية فيصبح الفرد العربي متمردا على المجتمع أولا وناقدا لنفسه ثانيا، فيجب ان نعرف انه يجب ان تكون هناك معركة حضارية قبل معارك السياسة.
أن المجتمع البطركي وباعتماده على الآخرين بالحداثة مبتعدين عن أن تكون الحداثة من الداخل وليس الاعتماد على الآخرين فتصبح الحداثة بذلك حداثة مشوهة التطور جامعة معها تشوها تنمويا متخلفا فيصبح هنالك خللا في عملية التحديث الحقيقي لأنه ضمن إطار التبعية والخضوع فيكون بذلك مجتمع مشوه ينتابه الانصياع للغير. وان المؤسسات البيروقراطية والرسمية (الحكومية والعسكرية والتربوية والتجارية) مظاهر خارجية حديثة لكنها في داخلها ذات بنية بطركية محضة ترتكز على منظومة متشعبة من العلاقات الشخصية وصلات القرابة والولاء الشخصي .
أصبحت البنية في المجتمع ألبطركي العربي متجه الى الخارج ومندمجة مع الرأسمالية فأصبح شعبا استهلاكيا معتمدا على ما يأتيه من الخارج . فانخفض مستوى الصناعة والزراعة رغم تضخم رأس المال . وبذلك سيطرت الشركات المتعددة الجنسيات فاصبح المجتمع البطركي العربي مجتمعا تابعا . يعني من ذلك انه اقتصاد مشلولا يتصف بنمو صناعي مفكك ونمو متخلف، وبازدياد الميل الى الاستهلاك واتساع الفجوة في توزيع الدخل مما ادى الى فجوة بين الريف والمدينة بالاضافة الى مزيد من التشوه في الاتجاه الانمائي وفي بعثرة الموارد البشرية والطبيعية مع العلم ان الثورة النفطية لم تؤدي إلا إلى مزيد من التشويه في عملية التنمية فيتولد من ذلك انعدام الاصالة الذاتية وقلما تجد إنسانا يتصف بالاصالة الإنسانية الحديثة ومؤسسات حديثة بالمعنى الحقيقي.وبذلك يظهر بمظاهر خارجية جاهزة فيكون في ذلك مجتمعا صنميا جامدا لا يلتقف العلم بالمعنى الصحيح وهذا يمثل بطركية مقلدة فقط من الجهة العلمية واللباس والإنتاج مكونا مجتمعا مهجنا من أشكال التحديث وليس له مستقبل.
إن قوميتنا العربية أصبحت من خلال الثقافة المشوهه لا تفهم إلا بالتجربة والمنظور الأوروبي ومع ذلك فان السياسة في العالم العربي سواء في الممارسة والفكر هي إلى حد كبير انعكاس للنماذج والمؤسسات الأوروبية مع العلم أن أي عملية تغيير في الوعي لا يمكنها أن تكون فاعلة وقادرة إلا إذا ارتكزت على الاستقلالية وذلك من خلال إزالة الهيمنة التسلطية في البطركية العربية .
وان الثقافة البديلة القادمة من الخارج ومن خلال سيطرتها على الوعي وعلى مستوى اللاوعي في تركيب نظام بطركي متسلط ادى الى عدم الانسجام والتوازن في المجتمع العربي الذي يتلبس الحداثة المهجنة مما يظهر ما فيه من زيف في العلم والتدين والسياسة وما فيه من عجز علمي وفني وتقني وما يتسم به من بعد عن الحداثة الحقيقة والتحرر الذاتي الأصيل والتركيبة الأصيلة.
ان هذا المجتمع حينما يندفع على ارض الواقع لتغيير الحالة المتردية في هذا المجتمع ومن خلال ثورة اجتماعية للنهوض بالمجتمع حينها يتناسى انه يجب عليه ان يخوض معركة الحضارة فبل معركة السياسة. ان خط الثورات التعبوية وشعاراته التي لا تمت إلى ارض الواقع بصلة إلا بيع الكلام في الهواء الطلق والتي لا تقبل النقد ولا الفكر المعنوي وان وجد هذا الفكر ظهر العنصر المادي بشكله التأديبي الانتقامي ويظهر ذلك من خلال قمع الأقليات الفكرية من قبل الأكثرية الفكرية داخل هذا المجتمع. وان هذا المجتمع يجب أن يعرف بان الثورة يجب أن يتخللها ثورة داخلية لتصحيح الثورة الأم من اجل تحقيق ثورة حضارية قبل ثورة السياسة الديماغوجية .
وان البطركية العربية الحديثة والتي تتبع خط السلطة البرلمانية والبيروقراطية الحديثة بشكل مختلف عن الأشكال الظاهرية مترافقا مع تمجيد القومية العربية على نطاق واسع لكنها لم تنشأ بعد المؤسسات التي تتيح تطبيقه فلذلك لا يمكن للوعي القومي في النظام البطركي الحديث أن يوجد عمقا على مستوى الجماهير وسيظل أسير التناقض .
ويشكل نظام حكم الدولة مزيجا من نظام الرعاية البطركي والجهاز البيروقراطي الموروث عن الاستعمار الذي تنصف به الدولة البطركية الحديثة مما جعل المواطن نفسه معزولا عن الدولة وعن ذاته ويلتجئ إلى البنى الاجتماعية الأولية (العائلة والقبيلة والطائفة الدينية) ليضمن بقاؤه فمن عهد الجاهلية إلى عهد القرن السابع عشر قاوم المجتمع القبلي العشائري لتغيير بناه الأصلية مقاومة عنيدة فعندما ظهر نظام أيديولوجي تشريعي قوي في مرحلة مبكرة عند القرن السابع عشر استخدم لتعزيز نظام القرابة وتدعيم العلاقات البطركية داخل الكيانات الاجتماعية والاقتصادية الأكثر تقدما أو أن الكيان الاجتماعي وما يميزه في الشقاق والتنازع من خلال العامل القبلي وما يؤدي إليه من فصل الذات عن الآخرين فتسيطر روابط الدم على أي نوع من العلاقات الاجتماعية مما يؤدي إلى الانتماء والولاء القبلي عند الفرد وعلى الصعيد الجماعي مما يؤدي إلى تكون مجتمع تقليدي مبني على مجتمع المدينة ومجتمع القرية والمجتمع البدوي مشكلا في ذلك حالة من التباهي بطركيا ومبني على القبيلة والعشيرة ثم الحمولة ثم العائلة فيتكون مجتمعا بطركيا يشجع هيمنة العائلة الكبيرة والحد من العائلة الصغيرة. ولو ادركو ذلك جليا لوجدو أنهم بدل من ان يمدنو الريف قاموا بتريف المدينة.
وبذلك فان المجتمع البطركي الحالي في الوطن العربي لن يستطيع سد الفجوة ما بينه وبين افراده لان المجتمع العربي مثقلا بتاريخه البطركي ومن الامثله على ذلك انه لم يستطع سد الفجوة ما بين الريف والمدينة ولم يستطع إذابة العلاقات ما بين الطبقات وحتى ما بين العائلات.
فمن خلال ذلك هل ينطبق نظام البطركية العربية مع سلم الحاجات المجتمعي للعالم ابراهام ماسلو والذي ينص على ان الحاجات الانسانية هي المحرك والدافع الاساسي للسلوك ... حيث ان الحاجات المجتمعية هي:
1 ) الحاجات الفسيولوجية او الطبيعية : و تمثل الحاجات الضرورية للانسان للبقاء على قيد الحياة " كالحاجة الى: طعام، شراب، سكن، تناسل، ... فالغذاء نحن معتمدون عليه من الخارج اما النفسية للمواطن العربي فانها مكبوته".
2 ) حاجات الأمن والحماية: وتمثل حاجة الحماية من خطر الآخرين والأخطار البيئية الأخرى وتامين المستقبل .... في ظل تبعيتنا للخارج وسيطرتهم علينا فاي امن نحتمي به واي مستقبل نرنو اليه .
.
3 ) الحاجات الاجتماعية: تتمثل في الحاجة الى التواصل والتعامل مع الآخرين و الحاجة الى صداقة الاخرين و العيش في بيئة اجتماعية.... فالمواطن العربي بعيد عن ممارسة السلطة فهو في حالة اغتراب اجتماعي وسياسي .
4 ) حاجات احترام الذات: وهي الحاجة الى تقدير الآخرين واحترامهم، والوصول الى مكانة اجتماعية مرموقة والحصول على الشهرة. ان عاداتنا وتقاليدنا تقف عائق امام تقدمنا ونحن بعيدون كل البعد عن اصالتنا العربية والاسلامية .
5 ) حاجات تحقيق الذات: وتتمثل في تحقيق اقصى طموح للفرد والانجاز في مجال معين يرغب فيه ذلك الفرد أي تقدم يرنو اليه المواطن العربي والتنمية داخل الوطن العربي حكم عليه بالاعدام وان وجدت فهي مشوهه .
فمن خلال ذلك نجد ان المجتمع العربي وبسلطته البطركية هو مجتمع غارق في أزماته الداخلية وتبعيته للخارج وهشاشة بناءه الداخلي في مواجهة عوامله الداخلية قبل الخارجية وانه لا ينتمي إلى سلم الحاجات المجتمعي ولو حتى على سبيل الشبه فمن الظاهر ان هناك خللا في التشكيل الجماعي وعلى آليات وتنظيمات العمل الجماعي في الكيان العام هنا يبرز القصور العربي الأساسي الكامن والمتمثل في شبكة العلاقات والآليات السلوكية الجمعية وفي نوعية وكيفية التعاطي الجمعي العربي الموروث والراهن أي العلاقات والآليات المتأتية من نوعية التركيبة المجتمعية العربية العامة وطبيعة نسيجها وتعددياتها وعلاقاتها الداخلية وافرازاتها وترسباتها السائدة والموروثة منذ قرون عديدة .