الإيجاز والإطناب والمساواة في بلاغة سورة يوسف (ع)
فى هذا المقال بحثت عن أهمية الإیجاز القصر والإیجاز الحذف وأسباب إیجاز الحذف وما الذي یترکه إیجاز الحذف من اغراض بلاغیة علی النصّ القرآني. کما درست الإطناب فجاء في السورة إطناب (تذییل واعتراض) ورکزت فیهما علی الأغراض البلاغیّة التي یترکها کل منهما علی النصّ القرآني.
أولاً: - الإيجاز
والإيجاز من «وجز من الكلام وجازة ووجزاً قلّ في بلاغته، وأوجزه: اختصره وأمر وجيز وكلام وجيز أيْ خفيف مقتصر»، والإيجاز «أنْ یکون اللفظ أقلَّ من المعنى
[1]
مع الوفاء به وإلاّ كان إخلالا ً يفسد الكلام» .
[2]
وقال الرماني: الإيجاز«تقلیل الکلام من غیر إخلال بالمعنى وإذا كان المعنى يمكن أنْ يعبّر عنه بألفاظ كثيرة ويمكن أنْ يعبّر عنه بألفاظ قليلة، فالألفاظ القليلة إیجاز»،
[3]
أيْ أن تكون قلـّـة الألفاظ وافية بالمعنى المراد وموضّحة له. والإيجاز« هو وضع المعاني الكثيرة في الفاظ أقلّ منها، وافية بالغرض المقصود، مع الإبانة والإيضاح» .
[4]
فالإيجاز لغة واصطلاحا ً هو التقليل مع الإيضاح والإفصاح عما يجول في ذهن المتكلّم حتّى يصل المعنى المراد إلى المخاطب. باتمّ تعبير وألطف ألفاظ. «والأصل في مدح الإيجاز والإختصار في الكلام أنّ الألفاظ غير مقصودة في نفسها، وإنّما المقصود هو المعاني والأغراض التي أُحتيج إلى العبارة عنها بالكلام، فصار اللفظ بمنزلة الطريق إلى المعاني التي هي مقصودة وإذا كان طريقان يوصل كل واحد منهما إلى المقصود على سواء في السهولة إلاّ أنَّ أحدهما أخصر وأقرب من الآخر، فلا بدّ أن يكون المحمود منهما هو أخصرهما وأقربهما سلوكاً إلى المقصد».
[5]
فالإيجاز هو تكثيف المعني وتقليل اللفظ بشرط أنْ يعبر المذكور من اللفظ عمّا مقصود من المعنى دون إخلال فيه «فالإيجاز ليس يعنى به قلـّـة عدد الحروف واللفظ، وقد يكون الباب من الكلام من أتى عليه فيما يسمع بطن طومارٍ فقد أوجز، كذلك الإطالة، وإنّما ينبغي له أنْ يحذف بقدر ما لا يكون سبباً لإغلاقه، ولا يردِّد، وهو يكتفي في الإفهام بشطره».
[6]
ويأتي الإيجاز في الكلام إما ايجاز حذف أو ایجاز قصر وإن كان ابن الأثير قد عدّ إيجاز القصر من قسمي الإيجاز االذين فصلهما في كتابه المثل السائر.
فهذه لا يخرجه عن نوعي (الحذف والإيجاز). وبما أنَّ سورة يوسف (عليه السلام) سبقت بطابع قصصى فقد كثر الإيجاز لأنَّ الإيجاز خصيصة من خصائص الأخبار .
[7]
إذ قصّت لنا السورة قصّة نبى الله يوسف (عليه السلام) مع أخوته وحسدهم له وابعاده عن أبيه، وفُصلت فيها تطوّر الأحداث وتتابعها، فكان الإيجاز فيها خدمة لسياقها؛ وذلك بحذف بعض الجمل أو بالاكتفاء بذكرالأسباب دون المسببات اقتصاراً على ما مذكور لأنّه يكفي باعطاء المعنى المطلوب. وعبّرت عبارتها الموجزة عن معانيها الوفيرة بألفاظ قليلة دالـّة عليها وذلك كلهُ ينسجم مع السياق القصصي الذي تفردت به السورة عن سائر سورالقرآن الكريم. فهي مثلما تفردت بسياقها بإيجاز آياتها.
1- إيجاز القصر في السورة:
ویؤتي به في السورة تناسباَ مع المقام وهو «تضمین المعانی الکثیرة فی ألفاظ قلیلة من غیر حذف»
[8]
فنرد في إيجاز القصر مع قلة الألفاظ كثرة المعاني وازدحامها مع عدم الحذف، وبه يأتي الكلام متكامل المعنى ومنتظم الألفاظ بلا خلل ولا إرباك. وإذا كان إيجاز الحذف يعتمد على حذف جملة أو مجموعة جمل خدمةً للسياق وانسجاماً معه، فإنَّ الإيجاز القصر يعمد إلى توسيع المعنى وتكثيفه وتضمينه بألفاظ وقليلة حتى ليصبح أكثر تأثيراً في المتلقىّ من خلال تصوير الأحداث أو تلخيصها بشكل صور ملتقطة بإيجاز خال ٍ من التطویل وبهذا سيترك للقارئ التخيل لما يقرأ.
ففي قوله تعالى «فلمّا استيئسوا خلصوا بخيا ً...».
[یوسف/80]
من الإيجاز والبلاغة الشئ الكثير إذ صوّرت لنا حال الأخوة عندما تغلب اليأس عليهم بعد أن رفض النبي يوسف (عليه السلام) أخذ أحدهم مكان أخيهم (بنيامين) كما طلبوا منه، فانعزلوا وانفردوا بأنفسهم يناجي بعضهم بعضاً في كيفية مواجهتهم. لأبيهم وبنيامين ليس معهم. فقد عبّرت الآية بألفاظها الموجزة عن المعانى التي تقدّم ذكرها وصوّرت لنا يإيجاز حال مشاورتهم مع بعضهم بعضاً في تقليب أمرهم وحيرتهم في لك الأمر. ألم يكن بهذا الإيجاز تصويراَ. بليغاً لحال حيرتهم وتشاورهم في أمرهم. باقتصار هذه المعانى المتكاثفة علی هذه الألفاظ والمكونة للآية الكريمة؟
ومثل قوله تعالى «... ولقد راودتهُ عن نفسِهِ فأستعصم...» ،
[9]
فأوجزت الآية حدث المراودة والاستعصام التي جاء ذكرها بشكل مفصّل فيما تقدّم من آيات السورة السابقة لهذه الآية. فكأنّما هي قد أوجزت للنسوة الأحداث المجملة بهذه الآیة الموجزة التي قيلت على لسانها. وعبّرت عن موقفها وموقفه المناقض لها بالرفض المصحوب بالإنكار في كلمة (استعصم) الدالة علیه. ومن ثمَّ أوجزت الآية للقارئ جزءاً من القصة وهو حدث المراودة من قبلها، والرفض من قبله وذلك بقصر معنيى المراودة والرفض على لفظة (استعصم) التي تدّل على إرادتها لشیء قصدته في نفسها، في حين قابها هو بالرفض والإنكار. وكانت الآیتان السالفتا الذكر مصوّرتين مضمون الأحداث تصويراً حيّاَ موجزاً كأنّه ملتقط التفاطاً وقد أبلغتا المعنى الوافر بكلمات قليلات دون خلل أو إرباك، فإنّ كان الإيجاز في الآيتين السابقتين قد صوّر لنا احداثاً معينة من القصة بعد أن كانت مذكورة بتفاصيلها لما تحمله من إيحاءات لصور تـُستشف من انتقاء الألفاظ وانسجامها مع بعضها بعضاً. فنجده في آية أخرى من السورة يلخص القصة بأكملها بالاقتصار على ذكر الأصول دون الفروع، والأسباب دون المسببات كما في قوله تعالى«... هذا تأويل رؤياى من قبل قد جعلها ربِّي وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزع الشيطان بيني وبين إخوتي...».
[10]
إنّ في هذه الآية إيجاز يختصر القصة بأكملها: وذلك لأنّ الآيات قد اقتصرت على ذكر الأصول دون الفروع . فكأنّما قد قصّ القصّة كلّها بذكرأسبابها وأصولها التي دفعت بالأحداث إلى أن تتطور وتصل إلى ما تصل إليه.
ففي قوله تعالى« هذا تأويل رؤياى من قبل» كانت رؤياه سبباً لحسد أخوته له حيث فعلوه به ما فعلوه. أمّا قوله تعالى « إذ أخرجني من السجن» فهو سبب للقائه بالملك وتطورت الأحداث حتى التقى بأبيه بعد أن التقى بأخوته قبل لقائه بأبيه. في حين قوله تعالى « بعد أن نزع الشيطان بيني وبين إخوتي » فقد اقتصر ذكر السبب الذي دفع أخوته إلى أن يفعلوه به ما فعلوه وهو(الشيطان) الذي وسوس لهم أن يبعدوه عن أبيه دون أن يذكر الأحداث التي دارت بينهم. وقد أجملت الآية ما كان مفصلاً بالاقتصار على الأسباب دون النتائج؛ وذلك للعلم بتفاصيل احداث القصة؛ ومن ثمّ فإنّ الأسباب المذكورة تُبنئ لك بالتفاصيل.
ويكون الإيجاز القصر، أثر بارز ومهم في السورة المباركة؛ وذلك لأنّه قد أوجز لنا السورة مجملة وبعبارات منسّقة ومنظـّمة وعبرة عن المعانى المتكاثفة بألفاظ رشيقة لطيفة.
2- إيجاز:
«ايجاز الحذف يكون بحذف شئ من العبارة لا يخلّ بالفهم، عند وجود ما يدّل على المحذوف، من قرنية لفظية أو معنوية»،
[11]
والحذف إمّا بأجزاء الجملة وإمّا حذف جملة أو مجموعة جمل، أمّا حذف أجزاء الجملة فهذا سنتعرض له في المبحث الرابع إن شاء الله فلا داعي إلى التكرار فهو من باب الحذف أيضاَ، أمّا حذف الجمل فهو الذي يعيننا في هذا المبحث. فقد كثرة في سورة يوسف (عليه السلام) حذف الجملة أو أكثر من جملة، ومن هذه الجمل هي الجمل التفسيرية، والجمل الواقعة جواباً إذ يتبع حذف مثل هذه الجمل أغراضاً بلاغية وهي کما سنری.
3- حذف الجمل التفسيرية:
أ. تحذف الجمل التفسيريّة، التي تفسّر لحدثٍ من سياق الكلام، وذلك لغرض بلاغي هو«عدم تعلّق غرض بذكره وهو في القرآن كثير، فإننا كثيراً ما نرى القرآن الكريم يحذف ما لايتعلق غرض بذكره ويذكر ما هو محط الفائدة. ويكثر هذا في القصص القرآني» .
[12]
ففي قوله تعالى «ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجُننه حتّي حين * ودخل معه السجن الفتيان...».
[13]
فبين جملة (ليسجننه) وجملة (دخل معه السجن) جملة محذوفة لا داعى لذكرها وهي (فسجنوه) لدلالة ما قبلها وما بعدها عليها؛ لأنّه «إذا ثبتت حاشیتا الكلام؛ وحُذف وسطه ظهر المحذوف، لدلالة الحاشتين عليه»،
[14]
« وقد یکون بین الآیات جمل محذوفة لا جملة واحدة ؛ هذا إن كانت الجمل تُفسّر وتفضل في الأحداث لا غير كما في قوله تعالي علی لسان یوسف (علیه السلام) «... قال إرجع إلى ربِّك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطَّعنَ أيديهنَّ إنَّ ربِّي بكيدهنَّ عليهم* قال ما خطبكنَّ...».
[15]
فالجمل التفسیریة المحذوفة هی (رجع الرسول إلی الملك فأبلغه ما طلبه منه النبی (علیه السلام) فدعاء الملك النسوة قائلاٌ ما خطبکن... » ومثل هذه الجمل ما هي إلاّ تفسير وتفصيل في الأحداث التي وإن ذكرت لا تقدم ولا تؤخر لأنَّ ما مذكور دالّ عليها؛ فالأمر بالرجوع إلى الملك ثمَ طرح الملك سؤاله للنسوة دلّ على الجمل المحذوفة.
ومثله قوله تعالى «قَالَ تزرعونَ سَبَعَ سنين دأبا فما حَصَدتُم فذرُوُه في سُنبُله إلاّ قليلاً ممّا تأكلون * ثّمَّ يأتي من بعد ذلك سبعٌ شِداد يأكُلن ما قَدَّمتُم لهُنَّ إلاّ قليلاً ممّا تُحصِنون* ثّمَّ يأتي من بعد ذلك عامٌ فيه يُغاث الناسُ وفيه يَعصروُن* وقال الملك ائتوني به...»
[16]
ان ما قبل جملة (ائتوني به) جمل محذوفة وهي (فرجع الرسول إليهم فنقل ما قاله له يوسف (عليه السلام) فأعجبوا به وصدقوه ثُمَّ قال الملك (ائتوني به) فدلـّت الجملة التي قيلت على لسان الملك بأنَّ تعبير الرؤيا نقله الرسول الذي أرسل إلى الملك وليس هوالنبي قاله مباشرة للملك بدلیل أمرالملك بإتيانه إليه.
وجاء في موضع آخر من القرآن الكريم بحذف هذا النوع من الجمل كما في قوله تعالى«قَالَ سننظُرُ أصدقت أم كنت من الكاذبين* إذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثُمَّ تولَّ عنهم فانظر ماذا يرجعون* قالت يا أيّها الملؤُا إنّي أَلقيَ كتابٌ كريم».
[17]
وما حُذف (أخذ الكتاب وذهب به فألقاه إليها فقرأته وقالت) فجملتي (اذهب) ( إنّي القي) تدل ان على أنَّّه أخذه وذهب به إليها فقرأته.
ب. وقد تحذف الجمل التفسیریة من السياق؛ وذلك ايذائا ً للسرعة بجري الأحداث كما في قوله تعالى«فلما أن جاء البشیرُ ألقاهُ على وجههِ فارتدَّ بصيراً قال ألم أقل لكم إنّي أعلمُ من الله ما لا تعلمون*قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنّا كنّا خاطئين* قال سوف أستغفرُ لكُم ربِّي إنَّه هو الغفُوُر الرحيمُ* فلمّا دخلوا على يُوسُف آوى إليه أبويه...»
[18]
وما حذف (تجهزوا ورحلوا فدخلوا على يوسف) فکأنما زمن مجئ البشیر الی یعقوب (علیه السلام) وتجهيزهم ورحيلهم ودخلولهم على يوسف (علیه السلام) كان قد حدث بزمن واحد وهذا کلـّه اختصار لزمن الاحداث وسرعة جريانها. فذكر الحدث الأهم وحذف ما ليس بمهم. ومثله قوله تعالى« وقال الملك ائتوني به أُستخلص لنفسي فَلمّا كلَّمَهُ...»
[19]
فحذفت جملة (فأتوا به) إيجازاً ليدل على أنَّ زمن الأمر بحضوره وزمن الحضور خطابه هو زمن واحد وليس يفصل بينهما بفاصل، ومثلما دلّ على سرعة المجیء لأهمیته، دلّ على سرعة امتثاله للأمر هذا بعد أنْ تمت براءته، كما دلّ الحذف على أنَّ الملك كان متشوّقاً لرؤيته والتكلم معه لأنَّ تعبيره لرؤيا الملك قد أدهشته.
إنّ تلك الجمل التي حذفت من الآيات لو ذكرت ما أعطت المعنى الذي أعطته بطي ذكرها. فالقصد من الحذف كان توحيد الزمن أي كأنّما هذه الأحداث قد حدثت بزمن واحد دون فاصل بينها.
2-2 حذف الجملة الواقعة جواباً:
أ. تحذف للاختصار إن كانت جواباً لفعل«على أن لا يكون بالامر المحتوم»
[20]
کما فی قوله تعالی«...أنا أُنبّئكُم بتأويله فأرسلون* يُوسُف أيُّها الصدّيقٌ...»
[21]
فحذفت جملة جواب فعل الأمر (أرسلون) وهی (فأرسلوه) وذلک اختصاراً، مع دلالة ما بعدها عليها.
ب.وتحذف لما في ذكرها من دلالة على القساوة والاضطراب كما فى قوله تعالى «فلمّا ذهبوا به وأجمعوا آن یجعلوه...» .
[22]
جواب (لما) محذوف دال عليه ما مذكور وتقديره (فعلوا به ما فعلوه) لما في ذكره اشعار من قساوة وألم لما فعلوه بيوسف (عليه السلام).
كل الجمل التي حُذفت من سياق الآيات، هي جمل متممة لمعاني الآيات ولكن لا داعى لذكرها؛ وذلك لدلالة السياق عليها دلالة عليها دلالة واضحة. والسياق هو الذي يقتضي ذلك الحذف لها لأنّها لو ذكرت لما أعطت هذه الأغراض والمعانى التي أعطتها بحذفها. وإنّ حذفها إنّما جئ به خدمة لسياق السورة لكى يبقي متماسكاً متلاحماً والقارئ للسورة المباركة والمتوغل في تفاصيل أحداثها يمكنه أن يدرك الجمل المحذوفة ويقدرها لدلالة السياق عليها.
وإن صح لنا القول يمكن أن نقول إنَّ سورة يوسف قد تميّزت عن سائر سور القرآن الكريم بطابعها القصصى المميز.
فتميزت بكثرة الإيجاز سواء أكان بالقصر أم بالحذف وذلك خدمة لساقها القصصي الذي يدعوا إلى ذلك.
ثانیاً: ـــ الإطـنـاب:
وهو«زيادة اللفظى المعنى الفائدة»
[23]
وهو بأوسع معانية يعنى المبالغة في الكلام، إفادة للمعنى. فقد يكون غرضه التأكيد، أوالأيضاح بعد الإبهام. وفى ذلك يثبت المعنى فى النفس بزيادة الألفاظ على معانیها وتوضيحاً لما يعنيه المتكلم. وعليه يكون الإطناب عكس الإيجاز، فإيجاز غزارة للمعنى مع قلـّة الألفاظ بشرط أن تفى هذه بالمعنى المراد،أما إطناب فهو زيادة اللفظ على المعنى المراد وذلك بأن تأتى بجملة تؤكد معنى الجملة السابقة للإطناب أو تقرّر معناه وتوضحه. قال فيه العسكري «قال الأصحاب الإطناب: المنطق إنما هو بيان، والبيان لا يكون إلاّ بالإشباع، والشفاء لا يقع إلاّ بالإقناع، وأفضل الكلام أبينه . أبینة أشدّه إحاطة بالمعانى ولا يحاط بالمعانى إحاطة تامة إلاّ بالاستقصاء» .
[24]
ويكثرالإطناب في المواضع التي تحتاج إلى توضيح وإفهام وتقرير وتأكيد.
أنواع الإطناب التي وردت في السورة المباركة:
من انواع الإطناب التي وردت في السورةهي:
1) التذیيل:
ومعناه «تعقیب جملة بجملة توكيداً لمعنى الأولى وأيضاً حالها».
[25]
أي أنْ يأتيك المعنى الواحد بجملتين مختلفين في اللفظ والتركيب؛ بعد أن يكون قد اكتمل المعنى في الجملة الأولى فتعقبها الثانية تأكيداً. وقال فيه إبن أبي الأصبع المصري «وهو أن یذیل المتکلم كلامه بعد تمام معناه بجملة تحقق ما قبلها؛ وتلك الزيادة على ضربين: ضرب لا يزيد على المعنى الأول، وانّما يؤكِّده ويحققه؛ وضرب يخرجه المتكلم مخرج المثل السائر ليشتهر المعنى لكثرة دورانه على الالسنة».
[26]
وقد حدد إبن أبي الأصبع نوعي التذييل بأنّه ما يجري مجري المثل بحيث تكون جملته مستقلة بمعناها غير مرتبطة بما قبلها وهذا نوعه والثاني ما لا يجري مجري المثل لارتباط بما قبلها وغير مستقة عنها. وجاء التذييل في السورة على نوعيه وخرج لأغراض منها:
أ. التعليل: أي أن تعلّل الجملة التذيلية ما سبق من الكلام كما في قوله تعالى «وما أبرئُ نفسي إنَّ النّفس لأمارة بالسوء»
[27]
فقد علّلت جملة (إنَّ النّفس لأمارة بالسوء) سبب نفي البراءة عن النفس البشرية لا تصافها بهذه الصفة، وهو تذييل جار مجرى المثل.
بـ. التعظيم: كما في قوله تعالى «...كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلاّ أن يشاء الله نرفعُ درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم».
[28]
فجملة (وفوق كل ذي علم عليم) جاءت تعظيماً لشأنه (عليه السلام) الذي هو من عندالله سبحانه وتعالى.
ج. التأكيد: أى تأكيد لمضمون الكلام السابق كما في قوله تعالى «... وكذلك مكَّنَّا ليُوسف في الأرض... والله غالبٌ على أمره...»
[29]
فالآية «الله غالب على أمره» تؤكّد معنى الكلام السابق بأنَّ علو مكانتة يوسف (عليه السلام) وعلو شأنه كان بأمر الله الغالب على كلّ شئ.
د. المدح: كما في قوله تعالى «قالوا يا أيّها العزيز إنَّ له أبا ً شيخا ً کبیرا ً فخذ أحدنا مكانّهُ إنّا نراك من المحسنين» فالآية «إنا نراك من المحسنين» فی مدحه (علیه السلام) بأنه من عادته وصفته الإحسان.
[30]
2) الاعتراض:
«هو کلّ کلام أدخل فيه لفظ أو مركب لو سقط لبقي الأول على حاله» .
[31]
وإنّما تكثر الجمل الاعتراضية في الكلام وذلك الأغراض بلاغية قد تكون للتأكيد أو التعظيم أو للتنزيه. ومن هذه اللغراض التي خرج اليها الاعتراض في السورة هي:
أ- للتنزيه: كما في قوله تعالى «ولقد همّت به وَهمَّ بها لولا أن رآى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنّه من عبادنا المخلصين»
[32]
(كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء)، الآية الكريمة مسوقة في تنزيهه (علیه السلام). فجاءت الجملة الاعتراضية تقريراً لنزاهته وعفته (علیه السلام).
بـ . للتعظيم: كما في قوله تعالى «وقال الذي اشتراهُ من مصر لإمرأتهِ أكرمي مثواهُ عسى أن ينفعنا أو نتخذهُ ولداً وكذلك مكنّا ليوسف في الأرض ولنعلّمهُ من تأويل الأحاديث...»
[33]
الجملة (كذلك مکنا یوسف في الارض ولنعلـّمه من تأویل الاحادیث) جملة الاعتراضية جئ بها لتعظيم شأنه(علیه السلام) بأنّه ستُصبح له مكانة وشأن في المصر بعد أنْ يبتلي بأنواع المصائب والهموم.
أمّا بقية أنواع الإطناب (كالتكميل والتفخيم وذكر العام بعد الخاص أوذكر الخاص بعد العام وغير ذلك من أنواعه المعروفة) فلم توجد في السورة، وإنّما كثر فيها التذييل والاعتراض لما فيها من خدمة للسياق العام للسورة بالتأكيد والتقرير في المقامات التي تحتاج لذلك.
ثالثاُ: المساواة:
وتظهر المساواة في الكلام عندما لا يكون فيه الإيجاز والإطناب، وهي «عبارة عن تأدية المقصود بمقدار معناه من غير زيادة فيه ولا نقصان عنه».
[34]
أي أن يتساوي اللفظ مع المعني دون أن يزيد أحدهما على الآخر، وفيه لو رفعت كلمة من الجملة لاختل المعنى، فإذا لم يكن في الجملة الإيجاز ولا الإطناب فهو مساواة، والقرآن الكريم يعمد إلى التأكيد والتوضيح والتقرير في مواضع تحتاج لمثل ذلك، فضلا ً عن أنَّ كلَّ ألفاظه وآياته تعكس أكثر من دلالة واحدة ومعنى الواحد؛ وذلك لتثبيت معانيه وأفكاره في النفس المتلقي ولهذا يميل إلى الإيجاز والإطناب في آياته بما يقتضيه الحال، وتراه في موضع يتساوي اللفظ مع المعنى كما في قوله تعالى «نحن نقصُّ عليك أحسنَ القصصَ بما أوحينا إليك هذا لقرآن...» .
[35]
ومثله قوله تعالى «... ما هذا بشراً إن هذا إلاّ ملكٌ كريمٌ» ، وقوله تعالى «...أأربابٌ مُتفَرقُونَ خيراً أم اللهُ الواحدُ القهّار»،
[36]
وقوله تعالى «... الآن حصحصَ الحقُّ أنا راودتُّهُ عن نفسِهِ وإنّهُ لَمِنَ الصادقينَ» .
[37]
وكل هذه الآيات كانت ألفاظها مساوية لمعانيها إذ لا يزيد أحدهما على الآخر ولا ينقص عنه.
وهكذا تبهرك بلاغة القرآن الكريم إذ تراه يوجز في موضع ويطنب في موضع آخر ويساوي في موضع ثالث بناءً على على ما يقتضيه الحال. فيكون أكثر إثارة في النفس واشغالا ً للعاطفة حتي يشغل فكر القارئ معه في كل جملة من جمله.
المصادر:
- القرآن الكريم.
- إبن منظور: لسان العرب المحیط، اعاد بناء علی الحرف الأول یوسف خیاط وندیم مرعشی، دار لسان العرب، بیروت، (د.ت).
- إبن اثير، ضياء الدين: المثل السائر، ج2، بلاتا.
- جاحظ، ابی عثمان عمربن بحر ( ت 255هـ): الحیوان، ط2، مطبعة مصطفی البابی الحلبی وشرکاؤه، 1965م.
- خلف الله، محمد ومحمد زغلول: ثلاث رسائل فى إعجاز القرآن، ط2.
- سامرائی، فاضل صالح: الجملة العربیة تألیفها وأقسامها، منشورات المجمع العلمی، بغداد، 1998م.
- الصعيدي، عبدالمتعال: سرالفصاحه لإبن سنان الخفاجي.
- العسکری، أبی هلال بن عبدالله بن سهل: کتاب الصناعتین في الکتابة والشعر، تحقیق علی محمد البجاوی ومحمد ابوالفضل ابراهیم، ط2، مطبعة عیسی البابی الحلبي وشرکاؤه، 1971م.
- العلوى، يحيي بن حمزه بن على بن ابراهيم: الطرازالمتضمن أسرار البلاغة والعلوم وحقائق الإعجاز، مطبعة المقتطف، 1914م.
- المصري، ابي الاصبع (585- 654هـ): تحریر التحبیر في صناعة الشعر والنثر وبیان إعجاز القرآن(ج1/ج2)، د. حفنی محمد شرف، القاهرة، 1963م.
- مطلوب، أحمد: معجم مصطلحات بلاغیة، مطبعة المجمع العراقي، (1403هـ - 1983م).
- الهاشمي، أحمد: جواهر البلاغة في المعاني والبیان والبدیع، ط12، المکتبة التجاریة الکبری، مصر، (1379هـ 1960م)
تعليق الأستاذة عائشة التركي
مقال على غاية من الدقة سواء في المعلومة أو في ما ذهبتما إليه من آراء .وقد علم العرب أهمية الإيجاز حتى قبل أن يتفطن علماء الألسنية إلى قيمة هذه الظاهرة التى يكون فيها الغياب أدل من الحضوروهو من مياسم اللغات التى بلغت شأوا من التطور.
ولكن هاجس التوثيق والدقة قطع علينا حبل الاسترسال في قراءة هذا المقال الجميل بإيراد المراجع (الصفحة الرقم...)
مشاركة منتدى
9 كانون الأول (ديسمبر) 2015, 10:42, بقلم بنت ليبيا
شكر لكم علئ لاجتهاد علئ هدا موسوعه من العلم المعانئ الله يجزيكم بالعلم فئ درجه لاعله فئ الجنه بارك الله فيكم بنت من ليبيا نقدم لكم بكلامات لبسيطه معبره لكم علئ مده هتممئ بهدا العلم
17 آب (أغسطس) 2016, 05:11, بقلم د عبد الرحيم حمدان
المقال ثري ومتعمق يتناول بعض ظواهر الإعجاز في النظم القراني وهو يربط ذلك بسورة مختارة من سور القرآن ألا وهي سورة يوسف ويحاول إيجاد التآلف بين النص وما يحمله من دلالات مترعة بالايحاء ...