آخر مرة
كل شيء كان على حاله.."التورتة" وقد غرس فيها أربع شمعات، الزينة التي تبطن أرجاء المكان، الإضاءة الخافتة.. كل شيء كما كان منذ ساعات عدة إلا هي..
أخذت تجوب المنزل ذهابا وإيابا، تارة تشد أسارير وجهها ,وأخرى تصك إحدى يديها في باطن الأخرى كما لو كانت تتوعد شخصا ما.. كآبة موحشة تغلغلت بين جوانحها، نار ملتهبة اضطرمت في صدرها، شعور بالحنق سيطر عليها..
نظرت إلى الساعة، لقد تعدت التاسعة ـ مساءً ـ ولم يعد حتى الآن، بل أنه لم يكلف نفسه ويرفع سماعة الهاتف ويتصل بها.. لم يتملكها إحساس بالضعف مثلما هي عليه الآن، كانت تشعر أنها كما لو كانت قطعة أثاث كتلك المنتشرة بين ربوع المنزل.
انزوت إلى أحد الأركان، جلست القرفصاء.. كانت كالتائهة، تتلفت كمن يبحث عن شيء ما، احتضنت ساقيها بين ذراعيها.. جالت بعينيها المكان، لم تر إلا صورا لأشباح.. غربة تأصلت في أعماقها، استحضرت صورة أمها وكأنها تشير إليها بأصابع الاتهام.. عندما كانت تشكو لها تأخره، كانت تختلق لها الأعذار كما كانت تفعل من قبل مع أبيها.. لكنها سرعان ما عاودت تلقي اللوم على نفسها فهي ـ وليست أمها ـ التي كانت تقابل أعذاره دائما بابتسامة، بل وتترك نفسها لكلماته تنساب إلى أغوارها، حتى إذا ما فرغ تفتعل حدة مدللة: لا تأخذني بكلامك المعسول هذا ـ أعمل حسابك ـ هذه آخرة مرة تتأخر فيها ولن أقبل منك أي عذر بعد الآن..
ويذوب تحذيرها وسط كلماته العذبة التي يغدق بها عليها.. لكن.. لن يحدث ذلك هذه المرة.. ـ هكذا همست لنفسها ـ.. تخ بداخلها شعور بالتمرد تراكمت رواسبه عبر السنوات الأربع التي قضتها معه، أطرقت برأسها تفكر.. كانت لاتدري ماذا تفعل تحديدا، لكنها كانت مصرة على أن تفعل شيء ما..
انتبهت إلى صرير الباب وزوجها يدخل، استجمعت قواها، شحنت نفسها، ونهضت واقفة في شموخ مصطنع..شعر أنه تأخر أكثر مما ينبغي، خمن ما يمكن أن يحدث فأسرع بتقديم هديته، وكلماته الرقيقة تنساب رقراقة كجداول الماء، فتح الهدية ثم قدمها: كل عام وأنت بخير.. منذ عرفت أنها أعجبتك صممت أن أشتريها لك حتى لو كانت في المريخ..
خافت أن تفضحها ابتسامتها هذه المرة أيضا، تماسكت في تحد وإصرار، لكنها لم تستطع أن تبتعد في ذلك كثيرا، فقد راحت كلماته تزيل كل العوائق التي وضعتها، وتحلق بها في عالم آخر، بعيدا عن عالم الماديات، ولم تشعر إلا بشفتيها وهي تنفرج عن ابتسامتها المعتادة وهي تردد:أنا سوف أعتبرها آخر مرة، ولن أقبل منك أي أعذار بعدها..