الأربعاء ١ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٤

أجمل حليق في العالم

زياد الشعلان ـ السعودية

كنت على وشك إتمام عامي السادس هنا في السعودية, قبل أن أحظى بدور ثانوي في مسلسل الدراما المثير الذي حدث, الدور الذي نلته دون أي جدارة, أو بروفات فعلية, أو حتى كنوع من التكريم المستحق لعموم صخب أدواري السابقة.

فحقيقة كون كفالتي انتقلت بين ثلاث أشخاص في أقل من أربع سنوات , لا يعكس فعليا واقع إيقاع الرتابة التي أعيشه هنا عادة , في كل مرة كنت أحلق للزبائن بنفس الطريقة , أعقم شفرة الموس لأترك انطباع النظافة المزعوم الذي ينطلي دائما على الزبائن , وأتجنب اللمسات الناعمة التي قد توحي للسعودي بإشارات قد يمقتها جدا , أو قد تورطني في مواقف قذرة كما حدث في سنتي الأولى .

تعلمت أيضا أن أمرر نكتة حلق الشنب للسعوديين وأنا ابتسم , وان كانت لا تبدو مقنعة لي كفاية كوميديا , لكنها الوحيدة التي تنجح !

صار بإمكاني خلال وقت قصير ( يتمثل مثلا في فرك الرغوة على ذقن الزبون ) , أن استشف مواضيعه المفضلة , تساعدني المعلومات التي يمنحني إياها عن نوع قصة الشعر التي يطلب , والإبقاء على ( السكسوكة* ) من عدمه !

هي بالكاد محصورة حول غلطة سراي و السياحة في تركيا وتاراكان وعلاج حب الشباب , وموديلات الجوالات وبطاقات سوا , العسكريين كان يلائمهم الحديث عن سنوات التجنيد التي قضيتها على الحدود , وللأمانة فقد رويتها للمرة الأولى فقط واقعية كما حدثت , وأخبرت بحقيقة أني قضيت فترة التجنيد كطباخ للكتيبة , لم تعجبني ردة الفعل حينها فقررت أن أرويها لاحقا متقمصا بزات أكثر بريقا .

أحيانا كنا نتكلم عن الهيئة , تجرنا أحاديث قصات الشعر المشبوهة , إلى شتم الهيئة ثم تأتي تباعا شكاوي ضيق ذات اليد وغياب أماكن المواعيد الغرامية الآمنة .

منذ عامين استقريت في الرياض , في المنطقة المقابلة لمعارض السيارات المستعملة , السوق معقولة والأكل رخيص عدا أن الزبائن ليسوا لطيفين جدا , ويفاصلون كثيرا في السعر , والصغار منهم يماطلون في الدفع ... أحيانا يحلقون مرة ولا يرجعون.

لكني تأقلمت بسرعة , الطقس هنا تجربة قاسية ومعيار حيوي لاختبار قدراتنا كأتراك على التحمل عموما , هذا القيظ الهائل , ثم هذا الصريم الصحراوي الذي يحط رحاله في العظم مباشرة , نجاحك في مهمة الطقس المتناقض دون عناء , هي إشارة طيبة لمستقبل معقول .

تتفاوت طموحات الزبائن في الحلاقة , ما بين زبون يحلق لأنها عادته الأسبوعية وهؤلاء هم المفضلين لدي , وآخر يحلق لأنه مرتبط باحتفال وعلى الأغلب فأولئك مهووسون بالتفاصيل , شعرة زائدة .. وجانب أطول من جانب, وآخر لأنه مسافر وهذه الفئة تكون أحيانا مزعجة على صعيد الوقت.

اذكر يومها كم كان الطقس في أوج صقيعه , يكون مزاجي سيئا في مثل هذه الأجواء خصوصا عندما أكون مضطرا أن أقف أو أن اقفل الباب جيدا كل مرة خلف كل زبون .

كنت مشغولا برأس صبي , كان يريد تسريحة شعر لـ لاعب ادعيت أني أعرفه , شرط أن تكون ملائمة في نفس الوقت لضوابط مدير المدرسة , التزمت بحذافير الملاحظة الثانية , حتى لا يعود الصبي مساءا بمعية والده و يشتمني في ذمتي .

في تلك الأثناء, كنت ألمح شخصا يتردد على واجهة الحلاق ثم يغيب فيعود بنفس الارتباك.. بدا منظره مريبا لكنه غير مقلق , لا أعرف .. شيء ما في قسماته كان مطمئنا.. ربما كانت سذاجته , ثم أن الوقت كان عصرا .. لا داعي للخوف.
حين كان الصبي ينقد العشر ريالات أجر الحلاقة, ظهر مجددا أمام الباب, معطيا واجهة الحلاق ظهره وموزعا نظرات سريعة لأنحاء الشارع.

وأنا أغلق الباب, حثني الفضول أن أكلمه, صحت فيه وأنا ابتسم: تفضل.. !
لكنه لم يجب , اكتفى بالتفاتة صغيرة , ثم عاد ليتم ما بدا وكأنه نوبة حراسة , ملامحه لشاب في آخر ثلاثينه , يرتدي ثوب صوفي بني وفوقه ( فروه ) ويبدو أنه يضع يديه في جيبه , وشماغه أحمر أكثر مما اعتدت أن أرى .

ذكرتني سحنة وجهه بحينا القديم في ( ضنكا ) , حيث كنا نسكن مقابل مستشفى عسكري , واعتدت أن أرى مثل هذه الوجوه .

كان مشهدا يوميا عارضا , لم ألبث أن عدت لروتيني اليومي , وبدأت أكنس الشعر عن أرضية المحل , لم يفاجئني دخوله لأنه كان تدريجيا , صاحبه صرير مزعج يحدثه فتح الباب ببطىء .
سألني : عندك حلاقة دقن ؟
أجبته باسما : أيوه فيه , شيل شنب بلاش !
لكن النكتة الأثيرة لم تفلح معه , كانت شخصيته مثيرة للاهتمام حقا , وعليه فقد بدأت اهتم بملاحظات ما كانت لتثيرني في الزبائن سابقا .

تحاشيت أول صدام بيننا , وانصعت برحابه لرفضه الجلوس للكرسي البعيد عن الباب , كان يفضل الآخر الأقرب , نزع عن جسمه الفروة فبدت بنيته ضئيلة جدا قياسا بما كانت , أظافره كانت متآكلة جدا بفعل القضم كما يبدو , كانت صورة مألوفة لأيادي الأطفال غير أن يديه كانت خشنة ومبقعة بالبهاق , ولأنه أصلع جنحت لاعتقاد أنه سيكتفي بحلاقة ذقنه !

لم يكن مصغيا لأسئلتي , الأسئلة المعتادة التي اسألها قبل الشروع في الحلاقة , كان بصره شاخصا في أحداث الشارع , السيارات المحاذية , ووجوه المارين .
كان يظهر قلقا مبالغا حيال الأصوات , منبهات السيارات وسقوط مشط الشعر من على الرف كلها كانت تترك فيه ردات فعل حادة .

فكرت في أنه مجنون , لكنه طباعه المسالمة والأوراق النقدية في جيبه العلوي , كانت تكفيني لأحلق له , دهشته من منشفة الحلاقة الملونة التي ربطتها حوالي عنقه ومن كريم الرغوة كانت باعثة على الضحك , لكنها دهشات لا تلبث أن تتوقف عنوة ويعود باله لينشغل بالعالم خارج الحلاق .

كان لا بد أن أجرب حظي في افتعال حديث ودي .. سألته إن كان يسافر للبحرين بالعادة , كان سؤالا انتحاريا بالنسبة لشخصية بهكذا تحفظ !
أجابني أنه لا يملك جواز أصلا .. ولا أعرف إن كان ضحك أو سعل !
خفت أن يتوقف عن التجاوب لفقت حكاية أن عندي زبون يشتغل في بيع السيارات يسافر كل أسبوع للبحرين .
لكنه أومأ برأسه ولم يظهر أي اهتمام , وأشاح بوجهه كما كان تجاه صخب الشارع .

بدأت في الحلاقة, لكن السكوت من ناحية وهذا الغموض الماثل بين يدي من ناحية ثانية كانا مثيران جدا, خلاف أني أمقت الأجواء الباردة والشمس شارفت أن تغيب

عدت لأسأله إن كان يبيع سيارات ؟
أجاب أنه لا يعرف أن يقود سيارة أصلا ثم ضحك , تأكدت أنه كان يضحك فعلا أول مرة , ضحكة مكتومة تشبه ضحكاتنا في فصل المدرسة بحضرة أستاذ !

كنت أطمح أنه سيسهب ويخبرني ماذا يعمل بالضبط , لكنه آثر أن يسكت .

جربت أن استخدم خباثتي في استفزازه أخبرته أنه ولا بد تاجر سلاح .
اكتفى بـ لا واثقة , نبهتني أنه على مشارف الأربعين ولا يجب أن أعاود هذا الأسلوب السخيف ثانية !

قررت أن اسأل بجسارة عن طبيعة عمله , صادف أن شفرة الحلاقة حينها كانت فوق وريده تماما !
بدا انسيابيا ولم يفكر طويلا قبل الإجابة, قال أنه لا يعمل.. ثم التفت ناحية الشارع واستدرك بنبرة مختلفة أنه لم يعمل أبدا طوال حياته.

بدا لي الأمر مسليا , وكأني أقف في مواجهة لغز أمسك بعض خيوطه , مقيد بإطار زمن الحلاقة أو أذان المغرب لإجابته , أيهما أقرب .

كانت ريبته , والتفاتاته الفجائية قد أصبحت روتينية, خصوصا وأنه ضحك مرتين .

كنت قد أنهيت الوجه الأول من الحلاقة , أنهيته وأنا مشغول بالتخمين والاحتمالات , ولأنه لم يكن زبونا مطواعا , أقصد أن وجهه لم يكن يتحرك بمرونة , غالبا بسبب جزعه فقد كلفنا الأمر ثلاث دقائق إضافية .

سألته إن كان يرغب بوجه حلاقة ثان , رد السؤال بسؤال لم أفهمه , لكني توقعت أنه لم يفهم الفكرة ويأمل في تفاصيل , أخبرته أن بعض الزبائن يفضلون ذلك لأنه يجعل بشرتهم أنعم .
طالع وجهه في المرآة أمامه, ثم طالع في انعكاس عيني في المرآة وابتسم ابتسامة بلهاء وهو يهز رأسه بنعم, كانت أطول فترة يقضيها دون أن يلتفت.

وقبل أن ألطخ وجهه بكريم الحلاقة من جديد , نطق بعبارة قصيرة باقتضاب , كمن يمج الماء من فمه
فهمت غير مصدق أنه سيتزوج اليوم , مؤشر الدلائل المنخفض لما ذهبت إليه , اضطرني لإجراء أتحاشاه بالعادة وهو أن أصرح بركاكة عربيتي .
أعدت عليه السؤال مرتين بصيغ مختلفة وبلغة بسيطة , وأجابني في المرتين .. إجابات أبسط , نعم اليوم .

بعد أن تيقن أني فهمت , كان ينتظر أن أوبخه , لأنه أظهر حماسة في إعلان الخبر , أحس بالحرج لأنه كان سعيدا , وعاد ليلاحق العالم خارج الحلاق , لكن باهتمام أقل هذه المرة , ولأول مرة شعرت أنه كان ينتظر مني تعليقا , لكني أحبطته وانهمكت في الحلاقة بتركيز مصطنع .

ولأنه اكتشف لغتي الضعيفة, بدأ يجاريني بعربية مكسرة, أنه كان من المفترض الآن أن يكون عنده أولاد في المدرسة.

ادعيت وأنا أضع له البودرة والكلونيا وماء ما بعد الحلاقة وأسرح شعره , أني أعاملة معاملة خاصة , بصفته عريس .
بدا ممتنا جدا , شاكرا جدا , دون أن يقول , حتى أنه نسي أمر الشارع تماما , اذكر أنه لمس خده وهو يقول أنه لم يدخل صالون حلاقة منذ ثلاثة وعشرين سنة .

أكد ذلك تلعثمه الطويل أمام مصطلحنا الدارج " نعيما " , وبالغ براءة طفولية حيال رذاذ رشاش الماء .

قال أنه يتمنى لو عاد وحلق هنا ثانية , لكنه سيغادر المدينة .

حتى الآن كان كل شيء يسير في نطاق المعقول , لم يكن ثمة ما يستدعي أن يغير المحل نشاطه , أو أن أترك السعودية على وجه السرعة , حتى اقتحم شاب المكان , شاب يشبه زبائني المعتادين , كنت على وشك أن أخبره أن الصالون سيغلق للصلاة , لكنه أخرج مسدسا من جيبه , وصوب أربع طلقات تجاه زبوني , إحداها استقرت في هامته .

أنا الذي كانت كل علاقتي بالدم , لا تتعدى جرح صغير أسفل ذقن الزبون , وجدتني غارق في بركة دم .

كان يزم شفتيه , يتأمل تناسق شواربه قبل أن يخرج , المرايا المعلقة في كل مكان حتمت علي أن أراقب المشهد من كل الزوايا , حين التفت بغتة .. كل نظراته التي سبق و واكبت تلك المغلفة بجرعة فائضة الشك , اختفت فجأة وحلت أخرى جديدة موسومة بيقين أكثر , تشبه نظرة لاعب الكونكان حين يسحب أخيرا الورقة التي تخوله ليفرش ورقه الرابح .

الطنين عالي التردد جراء الطلق , أثث كل المساحات الخالية التي كانت قد تتيح للمنطق في ّ أن يركض ليجاري هذا التصاعد المباغت .

لكن المشهد لم يكن بوليسيا على الإطلاق , واحد مات حالا , وآخر خرج بهدوء واختفى فجأة , كنت قد استعديت في خيالي لمشاهد أقل إثارة , احلم يقظانا مثلا أن أنقذ طفلا من أمام سيارة مسرعة وتشكرني أمه , أتصور أحيانا أني قد أجد شنطة مملوءة بنقود ودفاتر شيكات سياحية , لكني لم اصنع في نفسي التأهيل الكافي أبدا لحادثة قتل .

في واحدة من اللحظات النادرة التي شعرت بنفسي وقتها, حاولت أن أقف أمامه لأشعره أن حاضر لأي شيء سيطلبه.. لكنه اكتفى أن يسلط رؤيته تجاه نقطة معينة في الشارع .. خيل لي أنه عاتب .

رغم أن الحلاقين مفطورين على الثرثرة, إلا أنني عجزت في كل مرة أروي هذه الحكاية أن أصف المشهد كما شاهدته.
بقيت في غرفة الحجز يومين ونصف, واستجوبت سبع مرات, و عرفت لاحقا أنه كان مسجونا لأكثر من عشرين سنة في قضية قتل, وقبل أسبوع فقط تنازل أصغر الورثة عن حق الدم, لكن وفيما يبدو أن ذلك لم يعجب الجميع.

أسترجع تلك المشاهد من جديد بخلفية معلومات حديثة , فتبدو لي وكأنها ملحمة , سجل انتصاره الصغير قبل أن يمضي , زوجتي الآن لا تفهم سر تعلقي بالنظر للشارع من شرفة البالكون كل ما انتابني شجن , أتذكر آخر لقطة اختزنتها لوجهه , ياااه .. كان زبونا فخورا جدا بذقنه .

زياد الشعلان ـ السعودية

* عنوان مقتبس من قصة ماركيز " أجمل غريق في العالم "


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى