الاثنين ٢١ شباط (فبراير) ٢٠٠٥
بقلم محمد جمعة إبراهيم

أقدار القلوب

ولا فقلبي لغيرك حب....ولا بعدك حبيب يتحب
يا ساكنة فبالى وخيالي....بحبك حب مش عادى

 بابا....أنا خارج.
قالها لي ابني الوحيد بلهجة مقتضبة وهو يقف أمامي مرتديا كامل ملابسة, سألتة في دهشة:
 في هذا الجو؟!...إلى أين؟ .
أجاب في سرعة:
 توفى والد أحد أصدقائي اليوم وأنا ذاهب لأواسية وسأبقى معة حتى انتهاء العزاء....إلى اللقاء.
استدار هاني في هدوء وفتح الباب فاستدركت مسرعا":
 هاني....هل كان والد صديقك مريضا؟.
أجاب هاني في حزن:
 لا..... لم يكن مريضا".
فسألتة مرة أخرى:
 كم كان عمرة؟.
أجاب هاني وهو يغلق الباب خلفة:
 كان في الرابع والستين من عمرة.

اتجهت إلى النافذة لأراقب هاني وهو يسير مبتعدا....لقد مات والد صديقة في ريعان شبابة.... ليتني كنت أستطيع الذهاب معة, ولكن الخروج في جو كهذا بمثابة الانتحار.... كما أنني لدىّ العديد من التخطيطات للحفل الكبير الذي أعد لة منذ شهرين... نعم..... حفل عيد ميلادي ال.... الذي أقيمة هذا العام بالنادي, لأن عدد المدعوين كبير, طبعا بالإضافة إلى أعضاء النادي الذين قد تجذبهم ضوضاء الاحتفال.... مما يعنى المزيد والمزيد من الأصدقاء.
ارتسمت على فمي ابتسامة ماكرة ثم تذكرت هاني ورحلتة المرهقة فشعرت بالإشفاق علية, وارتقيت بعيني إلى السماء فلم أجسر على رفع عيني إلى الشمس التي تمركزت في السماء وأجبرت كل من بالأرض على خفض راسة احتراما ورهبة.....لكم أحب القمر.

ارتفعت الأصوات عاليا" مابين غناء وتهنئة, وعلت الضحكات بعد أن أطفأنا الشمعة الكبيرة في منتصف التورتة وانهمك الجميع في التقاط الصور الجماعية الجميلة, كنت في قمة نشوتي لوجود كل هذا الكم الغير متوقع من الأصدقاء, فقد زاد العدد عن ضعف ما كنت أتوقع...
 ألا تعتقد أننا قد كبرنا على مسألة أعياد الميلاد هذة؟!
قطع صديقي حبل أفكاري بهذة الجملة التي قالها باستياء واضح, فقلت لة في خبث:
 ماذا..... كبرنا...... لا يا صديقي, أنت الذي كبرت, أما أنا فمازلت في كامل صحتي.
قال في سرعة:

 ولكنك في الثامن والخمسين من عمرك وابنك في الرابع والعشرين من عمرة...من منكما يجدر
بة إقامة حفل عيد ميلاد..... بل إن ابنك لم يحتفل بعيد ميلادة منذ التحق بالكلية.
شعرت بضيق شديد كاد أن يفسد بهجتي بالحفل فقلت لة بلهجة من لا يريد تدخلا من أحد في شئونة:
 هذا شئ لا يعنى أحدا" سواي.... ولا أعتقد أنك تريد إفساد فرحتي اليوم.
قال ووجهة يحمل ضحكة صفراء:
 بالطبع يا صديقي ولكني فقط أردت أن أتمنى لك عمرا"طويلا".
سار مبتعدا" وهو يضحك في سخرية, حاولت أن أتناسى الموقف وأستعيد بهجة الحفل ولكن ظل كلامة يتردد في اذنى كطلقات مدفع ضخم, ربما تقدم بي العمر حقا" ولكن منذ وفاة زوجتي وأنا أحاول التفرغ لابني الوحيد ولكني اكتشفت أنة ولد ناضج قلما يحتاج إلى والدة ولذلك قررت مزاولة حياتي الطبيعية ولا أعتقد أنني أمارس ما هو أكثر من حقوقي.

انتبهت من شرودي إلى سيدة تمارس معنا لعبة التنس بالنادي تتجة نحوى وبصحبتها امرأة في الثلاثين من عمرها وتبدو رائعة الجمال, رسمت على شفتي أعذب ابتسامة يمكنني رسمها وأنا أنحنى لهن في رقة, قالت السيدة:
 كل سنة وأنت طيب وعقبال مائة عام
قلت في أدب:
 عاجز" أنا عن شكرك يا سيدتي, ولكم سرني وجودك أنت و...لم أتعرف على الآنسة بعد....
أليس كذلك؟.
ضحكت في نشوة وهى تقول:
 ليست آنسة إنها هدى ابنتي وهى أرملة.
صعقتني الإجابة فقلت مسرعا":
 أرملة....ولكنها تبدو صغيرة السن.
أجابت في فخر:
 لقد تزوجت مبكرا" ومات زوجها منذ عامين.
قدمت لها التعازي وقد اختمرت في ذهني فكرة واحدة, هدى ستكون أجمل هدية لعيد ميلادي.
قلت لها وأنا أودعها:
 هل سنراك مجددا؟.
أجابت في رقة:
 بالطبع....سوف أنتظم بالنادي لفترة.
قلت في سرعة:
 النادي ينظم لرحلة إلى الغردقة في الأسبوع المقبل, مارأيك ؟.
قالت هدى:
 فكرة جيدة, سنرتب أمورنا فربما يمكننا الذهاب.
ضحكت قائلا":
 ستكون تلك أجمل رحلة في حياتي.
وانصرفتا في هدوء وأنا أفكر في تلك الرحلة المنتظرة.

على شاطئ البحر جلست وهدى بجواري, فكرت أنني لن أجد أجمل من هذا الجو والمكان للإفصاح عن حقيقة مشاعري فقلت لها:
 هدى....هل أنت سعيدة؟.
قالت في سرعة:
 سعيدة....بالطبع أنا سعيدة.
قلت لها:
 مضى زمن طويل منذ كنت سعيدا" لآخر مرة, ولكني الآن أشعر بسعادة غامرة.... وكل هذا لوجودك هنا....معي.
قالت في دهشة:
 وجودي.....أستاذ سعيد أ....
قاطعتها في سرعة:
 لا داعي لكلمة أستاذ...أريد أن أسمعك تقولين أسمى مجردا".
ازدادت دهشتها وهى تقول:
 أستاذ سعيد...
قاطعتها مرة أخرى قائلا":
 هدى....منذ ماتت زوجتي وأنا أفتقد طعم الحياة....لا أجد لذة لما أفعل.... ولذلك كنت أبحث عن السعادة في كل مكان, ولم أجدها إلا معك, ولم أكن يوما" سعيدا كسعادتي معك....... هدى...... أريدك أن تظلي بجواري للأبد....أريدك معي طيلة حياتي....هدى..... أريد أن أتزوجك.
قالت هدى في ذهول:
 تريد ماذا؟.
أجبتها في هدوء:
 لا بأس لا بأس...خذي وقتك وسأنتظر ردك لدى عودتنا من.....
قاطعتني هي هذة المرة قائلة:
 أي رد يا أستاذ سعيد وأي زواج هذا الذي تطلبة....ألا تعلم كم فارق السن بيننا؟.
قلت لها:
 فارق السن الآن لم يعد حاجزا" بين المحبين وأنا مازلت بكامل صحتي...وليس للحب سنا".
قالت وهى ذاهلة العينين:
 أي محبين؟! ....أستاذ سعيد...أنت بمثابة والدي....ألم تدرك هذا طيلة الوقت؟ّ!.
و ساد السكون الذي يسبق العاصفة.

 أبى....أنا خارج.
قالها هاني وهو يقف بالباب مستعدا" للخروج, قلت لة في تساؤل:
 إلى أين؟.....الجو شديد الحرارة بالخارج ومن الممكن أن تصاب بضربة شمس.
قال في حزن:
 لقد توفى والد صديقي أحمد وأنا ذاهب إلية.
قلت في دهشة:
 أهو غير الذي مات منذ مدة؟
قال هاني:
 نعم....هو غيرة.
قلت ضاحكا":
 ما بال آباء أصدقائك يتفككون هكذا بسرعة؟! ..أملوا الحياة أم ماذا؟.
لم يبتسم للدعابة وقال:
 قد أتأخر قليلا".
قلت في سرعة:
 لا... بل انتظر سآتي معك.
اندهش هاني من تصرفي, فهو ليس من عاداتي ولكني كنت أرغب في معرفة كيف سيودعون ذلك الرجل.... فلابد لأي شخص من وداع لائق.

اشتدت الحرارة علينا في الطريق مما جعلني أندم على قراري الأخير ولكن التراجع لم يعد ممكنا", فقررت الصبر حتى النهاية.
وصلنا إلى بيت الرجل وفوجئت حين رأيت العشرات من الأشخاص يقفون أسفل المنزل والحزن بادي على وجوههم....هل كل هذا الجمع يشعرون فعلا" بالحزن لفقدان الرجل؟.. أم أنة تصنع؟.
وقفنا مع الواقفين بانتظار خروج الجنازة, وعند خروج جسد الرجل من المنزل محمولا", هرول الجميع إلية وأخذوا يتدافعون علية ويتصايحون في محاولة منهم لحمل ذلك الجسد الراقد بلا حراك.

سألت هاني في دهشة:
 هل كان محبوبا" لهذة الدرجة؟!
قال هاني في أسى:
 نعم... كان رحمة اللة محبوبا" من كل الناس.

انتهت مراسم الدفن وذهبنا إلى السرادق لتقديم العزاء, ولم أتفاجأ حين رأيت السرادق مزدحما" حتى أن بعض الحاضرين لم يجدوا أماكنا".
جلست أفكر في أن وجود كل هذة الأشخاص لهو حقا" وداع مناسب للرجل, نظرت إلى جواري
لأحد أحد أصدقائي القدامى جالسا" والحزن باديا" على وجهة, استدرت إلية بكامل جسدي قائلا":

 مجدي... كيف حالك؟... ما أتى بك إلى هنا؟...هل ابنك على صلة بابن المرحوم؟
نظر إلى وقال باقتضاب شديد:
 بل كان من أعز أصدقائي.
قلت في سرعة:
 هل رأيتة من قبل؟...أعنى ألم يكن يذهب إلى النادي؟.
قال في ضيق واضح:
 لا... لم يكن يذهب إلى النادي....ومن فضلك حاول أن تخفى تلك الابتسامة السخيفة......فلسنا في النادي هنا.
قلت في عصبية:
 أي ابتسامة....
قاطعني في حزم:
 أستاذ سعيد.... من فضلك.

شعرت بضيق كبير وأشحت بوجهي بعيدا" عنة وأنا أتساءل متى ينتهي هذا العزاء فقد مللت الجلوس هكذا, فكرت أن أشعل سيجارة... كنوع من التغيير...فنظرت حولي أبحث عن شخص يدخن, فلم أجد سوى وجوة عابثة, وكأنة مشهد واحد متكرر...كل شخص يجلس عاقدا" بين ساعدية وقاطبا" بين حاجبية ويضم شفتية في حزم...مشهد مضحك حقا", كل" يحاول أن يبدو أكثر الملتاعين لفقدان المرحوم, ولكن ألا يدخنون....لست أعلم لماذا؟, ولكني استجمعت شجاعتي وأخرجت علبة السجائر وأشعلت سيجارة وأخذت أنفث مع دخانها مللي وضيقي, تساءلت مرة أخرى متى ينتهي هذا العزاء فقد فاض بي ولم أعد أحتمل.

صدّق الشيخ على قراءتة فقمت من فوري واقفا" وأنا أنظر لابني هاني الذي أطرق بوجهة إلى الأرض ولم يقف, فعلمت أنة لن يرحل قبل نهاية العزاء, توجهت إلى أقارب المرحوم وقدمت التعازي وانطلقت بأقصى سرعة, وحانت منى التفاتة إلى السرادق لأجد صديقي السخيف يرمقني
بنظرة استياء واضحة ولكني لم أكترث وأخذت أضحك في لامبالاة.

جلست في شرفة منزلي أتناول الإفطار, خرج هاني من غر فتة مصطحبا" اثنين من زملائة وهموا بالخروج فاستوقفتهم في سرعة قائلا":
 إلى أين يا شباب؟
قال هاني:
 سنخرج قليلا" للتنزة ثم سنذهب إلى السينما بالمساء.
قلت في مرح:
 إذن ما رأيكم في أن أدعوكم إلى السينما؟.
قالوا معا:
 تدعونا.
قلت لهم:
 نعم.... أدعوكم إلى نزهة بالسيارة ثم نختم تلك النزهة بالذهاب إلى السينما.
قال هاني في تردد:
 أبى.....
قاطعتة في سرعة:
 سأنتظركم في السادسة مساءا" لنخرج معا".

حل المساء وارتديت ابهى ملابسي وجلست أنتظر, دق جرس الباب ففتحت لأجد هاني وأصدقاءة بالباب, رحبت بهم ثم توجهنا إلى مطعم شهير وتناولنا وجبة لذيذة تتخللها بعض الضحكات المتكلفة والتي حاولت جاهدا" أن أجعلها من القلب وأن أزيل الحاجز الموجود بيننا, حتى نستمتع بوقتنا, ولكن ظل هناك حاجزا" باقيا", ربما كان ناتجا" عن هيبة الآباء, وهذا ما حاولت ازالتة.

شعرت بضيق في التنفس وزيادة في سرعة خفقان القلب ولكني لم أشأ إضاعة لذة النزهة فلم أخبر أحدا".
توجهنا بعد ذلك اللى السينما وجلسنا نشاهد الفيلم ونتطرق إلى بعض الأحاديث الجانبية ونضحك بصوت عالي فارتفعت الأصوات في الصالة مطالبة" إيانا بالصمت فعلت ضحكاتنا أكثر في مرح وكأننا نتحداهم علانية".

انتهى الفيلم وتوجة كل" إلى منزلة واستقل هاني السيارة معي متوجهين إلى المنزل, وأثناء صعودنا السلم انقبض قلبي بعنف واختنقت أنفاسي وشعرت بشئ ما يقف في الحلقوم ولا يسمح بمرور الهواء......أمسكت برقبتي وأخذت أضرب بيدي في الهواء محاولا" التنفس, اندفع هاني نحوى صارخا":
 أبى.....ما بك؟
قلت بصوت مبحوح:
 إسعاف.....أحضر الإسعاف.
اندفع هاني بسرعة إلى الشفة لطلب الإسعاف, أسندت ظهري إلى الحائط في محاولة" منى لاستعادة أنفاسي, ولكني شعرت بعقلي يهوى من حالق وزاغت عيناى....اللعنة.....لم تأخر هاني هكذا؟....أخذت أدفع الهواء بيدي ولكن لا هواء.....لا هواء....ولكن....من هؤلاء....أرى أناسا" يحدقون بي.....هل أرسلكم هاني أم ماذا؟ ...لا....ابتعدوا عنى....لا تقتربوا,
لم أعد أشعر سوى بأيادي كثيرة تمتد نحوى وبدأت الرؤية تتلاشى شيئا" فشيئا".

ولو طال الطريق وانتى.............زعلتى منى وبعدتي

لا يمكن حبي ليكى يقل............ولو تاهت أيادينا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى