أهكذا ننصف التراث؟
(أ) يمثل دور (ب) على مرأى من (ج)
بهذا الإيجاز عرف أريك بنتلي فن المسرح في كتابه الذائع الصيت الحياة في الدراما. ورغم بساطة التعريف وإيجازه البالغ فإنه يشتمل على الأركان الأساسية التي تميز المسرح عن غيره من ألوان الخلق الفني. ففي المسرح لابد من الممثل أولاً، ولابد لهذا الممثل من أن ينتحل اسماً غير اسمه وشخصية غير شخصيته الحقيقية. وأخيراً فلابد له من جمهور يتابع أداءه وينفعل معه أو ضده، لأن المسرح لا يمكن أن يصنع في حجرة مغلقة -كما تصنع القصة أو القصيدة الغنائية- بل هو فن يخلق أمام أعين الجمهور وتسير فيه عملية التذوق جنباً إلى جنب مع عملية الإبداع.
والممثل لا يسرد لجمهوره حكاية بل يمارس فعلاً. إنه ليس كالراوية الذي عرفته مقاهينا القديمة، مجرد وسيط بين الجمهور وبين شخصية روائية ما، وإنما هو هذه الشخصية بالذات، تقدم نفسها إلى الناس دون وساطة، وتكشف لهم عن طبيعتها ونوازعها وأفكارها من خلال الفعل الذي تؤديه على المسرح. والفارق بين هذا وذاك واضح، وهو فارق جوهري وليس مجرد فارق في الشكل، فالراوية الذي يقص على جمهور المقهى سيرة عنترة مثلاً، لا يدعي أمام سامعيه أنه عنترة نفسه ولا يحاول إيهامهم بأنهم يعيشون في الإطار الزمني والمكاني للأحداث التي أحاطت بهذه الشخصية. وإذا كان هذا الراوية يستعير من الممثل بعض وسائله التعبيرية، كالإيماء وتلوين الصوت وحركات الجسم، فإن غايته لا تتعدى إثارة عواطف الجمهور وتقريب صورة الأحداث من ذهنه. أما الممثل الذي يؤدي دور عنترة على المسرح فإنه يواجه الجمهور منتحلاً صفة البطل نفسه، وبمجرد ظهوره تتحول خشبة المسرح في نظر المتفرج إلى ساحة قتال، أو مضرب من مضارب البدو، أو أي مكان آخر تدور فيه وقائع المسرحية المعروضة. ويحدث شيء مماثل بالنسبة إلى الزمن، فالمسرح يضعف عند المتفرج إحساسه الواقعي باللحظة التي هو فيها ليثير عنده بالمقابل إحساساً داخلياً باللحظة التاريخية التي تدور فيها الأحداث، وهذا مالا يحدث عند قراءة قصة أو الإصغاء إلى رواية في مقهى شعبي، لأن إحساسنا بالماضي في الحالة الأخيرة هو إحساس خارجي لا يستغرقنا ذلك الاستغراق الذي تتلاشى معه الحدود بين زماننا وزمان القصة التي نقرأها أو الحكاية التي نستمع إليها.
ولقد كان أرسطوطاليس أول من فطن إلى خصوصية المسرح هذه حين قال في تعريفه الشهير للتراجيديا إنها محاكاة بالفعل لا بالسرد وكان بذلك يميز فن الدراما عن الملحمة، التي تشترك في خصائصها العامة مع الرواية الحديثة والقصة والحكاية وغير ذلك مما يدخل في هذا الباب.
كل هذه مفاهيم أولية سبق أن تطرقنا إليها مراراً عديدة. ولكن المرء لا يجد مناصاً من تكرارها حين يكثر الحديث في الصحافة عن مسرح عربي قديم قوامه نوادر الجاحظ في البخلاء ومقامات بديع الزمان الهمذاني ورواة السير الشعبية في المقاهي وغير ذلك من ألوان التأليف القصصي التي قد يحق للدارسين أن يبحثوا فيها عن جذور للقصة العربية الحديثة، ولكنهم لا يستطيعون الزعم بأنها مظاهر مسرحية وأنها يمكن أن تتخذ بالتالي أساساً لبناء نظرية مسرحية عربية أصيلة. ورغم أن المحاولات المتفرقة التي جرت لإثبات هذه الفكرة بالتطبيق العملي قد منيت بفشل ذريع ولاذ أصحابها بالصمت فإن البعض يواصلون ضجيجهم في الصحافة مصرّين على مواصلة التنقيب عن كنز تشير الدلائل كلها حتى الآن إلى أنه غير موجود في الواقع!
ليست غايتنا من هذا الحديث القطع بأن العرب الأقدمين لم يعرفوا بعض أشكال المسرح، وإن كان التراث الذي بين أيدينا لا يشير إلى شيء من ذلك. ولكن ما يوجب الاعتراف هو أن هذه الأمثلة، التي يكثر الاستشهاد بها، ضعيفة الصلة بفن المسرح، فإذا كان أبو عثمان الجاحظ قد روى لنا بعض الحكايات الطريفة في "البخلاء" و "البيان والتبيين" وغيرهما من مؤلفاته فهذا لا يعني أن الرجل قد ألمّ بفن الكتابة للمسرح. وقصارى ما يمكن أن يقال في هذا الشأن أن الجاحظ ترك لنا مادة أدبية يستطيع المؤلف المسرحي المعاصر أن يفيد منها إذا أراد أن يكتب نصاً مسرحياً عنه أو عن بعض معاصريه. والشيء نفسه يمكن أن يقال -وبدرجة أقل- عن مقامات الهمذاني، التي لا تعدو كونها مجموعة من الحكايات البسيطة، المكتوبة بأسلوب شديد التكلف والتزويق، وإن كان البعض يغالي في تقدير قيمتها الأدبية.
إن وجود الحكايات والملامح الشعبية في تراث شعب مالا يعني قطعاً أن هذا الشعب قد عرف فن المسرح. وجهل معظم الأمم القديمة به لم يمنع أحفادها في العصور الحديثة من اقتباسه وتطويره.
والأمثلة كثيرة يكفيني منها مثال واحد: لقد أنجبت روسيا في القرن الماضي عدداً من أكبر كتاب المسرح، حسبنا أن نذكر منهم غوغول وأوستروفسكي وتشيخوف وليف تولستوي.. فماذا كان التراث المسرحي الذي ورثه هؤلاء عن أسلافهم؟ إن تاريخ الأدب الروسي يحدثنا أن الروس لم يعرفوا الأدب المدون إلا في عهود متأخرة جداً. ويكفي أن نعلم أن أول قصيدة لشاعر روسي معروف تعود إلى النصف الأول من القرن الثامن عشر! أما قبل ذلك فليس في تاريخ الأدب الروسي أي أثر للدراما أو غيرها من فنون الأدب سوى ما يُبدعه الشعب البسيط، عادة، من أدب شفاهي. ولكن هذا لم يمنع الكتاب الروس من اقتباس أصول الكتابة الدرامية عن الغربيين وإتقانها والتفوق فيها. ولم نسمع عن حملة صاخبة قامت للبحث عن أصول هذا الفن في التراث الأدبي الروسي القديم!
مالنا إذن نثير كل هذه الضجة الفارغة حول مسرح عربي قديم مزعوم؟ وأي ضير في أن نأخذ المسرح عن غيرنا ما دمنا لا نجد بأساً حتى في استيراد الجبنة من أوروبا؟
إن أسلافنا أنفسهم يجيبوننا عن هذا السؤال، فقد كانوا عظاماً في موقفهم من تراث الأمم الأخرى، لم يغرهم الاستعلاء بتجاهله والانصراف عنه ولم تدفعهم عقدة النقص إلى الانكماش إزاءه والذوبان فيه. ويبدو لي أن هذا أول ما ينبغي أن نتعلمه من تراثنا، لأن موقفنا من حضارة عصرنا الراهن كثيراً ما يفتقر إلى ذلك التوازن الرائع الذي حققه أسلافنا بين الذات والعالم الخارجي.
ومرة أخرى أجدني مضطراً إلى تكرار ماسبق أن قلته مرات عديدة: إن انتعاش المسرح عندنا لن يتحقق إلا باستيعاب الأسس التي يقوم عليها هذا الفن العريق والإفادة من تجارب الأمم الأخرى التي سبقتنا في هذا المضمار، أما الاجتهادات السقيمة التي تتخذ لنفسها مظهر الاكتشافات الخطيرة فلن تقود مسرحنا الناشئ إلا إلى مزيد من التردي والإسفاف.