الثلاثاء ٤ آب (أغسطس) ٢٠٢٠
بقلم محمد زكريا توفيق

أوديسة الفضاء، 20001

الإنسان الأول الذي كان يعيش في أحراش أفريقيا، أوشك على الانقراض. لم تمنحه الطبيعة المخالب القوية أو الأنياب الحادة أو الأقدام السريعة. لكن عيناه كانتا تومضان ببريق من الوعي، جذب انتباه حضارة كونية متقدمة، أرادت أن تعرف كنه هذا الوعي، وتساعده على التقدم.

في أحد الأيام، وجد الإنسان الأول جسما منتصبا في شكل مستطيل. الجسم غير عادي، يطلق أصواتا غريبة تجذبه إليه مثل المغناطيس. وعندما يحل الظلام ويرخي سدوله، يتوهج هذا الجسم وتظهر عليه رسوم وأشكال غريبة. الإنسان الأول مذهول، لا يعرف أن هذا الجسم الغريب يستكشف قدراته العقلية ويقيس احتمالات تطوره المستقبلية.

ثم يكتشف الإنسان الأول أنه بدأ يفعل أشياء جديدة مثل استخدام الأدوات البسيطة ومطاردة الحيوانات الكبيرة. بذلك، أمكنه الانتصار على الجوع الذي لا نهاية له والخوف من الحيوانات المفترسة. مما أتاح له الفرصة لكي يفكر ويتخيل ويبتكر.

ثم يكتشف العلماء في القرن الواحد والعشرين أول دليل على سطح القمر لا يمكن دحضه يثبت وجود حضارات خارج الكرة الأرضية. وهو وجود طاقة موجة في شكل نبضات صادرة من جسم مدفون تحت سطح القمر على عمق 40 قدما، موجهة إلى كوكب المشتري.

هذه المعلومات قد تسبب صدمة للناس لا يمكن التنبؤ بحجمها. لذلك بقيت هذه الأنباء محصورة في دائرة صغيرة من المسؤولين. في نفس الوقت تم التحضير لسفينة فضاء استكشافية يقودها خمسة من رواد الفضاء والعلماء.

اثنان من طاقم الرحلة، هما "فرانك بول" و"ديفيد بومان"، من واجبهم أداء الواجبات اليومية داخل سفينة الفضاء، بينما الثلاثة الآخرون محفوظون في توابيت زجاجية في حالة بيات شتوي اصطناعي، لن يفيقوا منه إلا عندما تدور المركبة حول كوكب المشتري.

هؤلاء الثلاثة، هم فقط الذين يعلمون الهدف الحقيقي لهذه الرحلة. وهو الاتصال المحتمل بحضارة أخرى خارج الكرة الأرضية، قد تكون أكثر تقدما وأفضل أخلاقيا. أما بول وبومان، فلا يعلمان الغرض الحقيقي من الرحلة، غير أنها مجرد رحلة فضاء عادية.

في الواقع، من يقوم بقيادة سفينة الفضاء والتحكم في كل شيء فيها، هو عضو سادس من طاقمها، "هال 9000"، العقل الالكتروني والجهاز العصبي للمركبة. لقد تم تصميم "هال 9000" حتى يكون كاملا ومعصوما من الخطأ، من خلال عمليات مماثلة لتطور العقل البشري. الآن هو قادر على ممارسة التفكير الحقيقي والتحدث مع البشر بلغتهم وانفعالاتهم، والعناية بمركبة الفضاء وروادها الخمسة.

لكن حجب أهداف الرحلة والغرض من القيام بها عن هال وبعض أعضاء الرحلة، تسبب في تدميرها نفسها. هنا يبدأ هال في ارتكاب أخطاء مقصودة. ثم تأتي الأزمة عندما يقرأ هال حركة الشفاه من خلف شباك زجاجي ويعلم أن بول وبومان يتآمران للتخلص منه كلية بسبب أخطائه.

هنا يأخذ هال الحل الوحيد. لقد تمت برمجته لحماية نفسه من أي خطر يتسبب في إيقافه عن العمل. فيقوم بمحاولة التخلص من أعضاء البعثة كلهم وإنهائها في حد ذاتها.

يقوم هال بقتل الرواد الثلاثة النائمين نوما اصطناعيا في توابيتهم بقطع الأكسجين عنهم. ويقوم أيضا بقطع حبل الأوكسجين عن فرانك بول عندما خرج في كبسولة لإصلاح عطل مفاجئ، ويتركه يهوي في الفضاء اللانهائي.

يرى ديفيد بومان وهو مذهول ذلك على الشاشة، ويفشل في إنقاذ رفيقه الوحيد الباقي على قيد الحياة. ثم يسمع بومان صوت تفريغ هواء المركبة وهو يتسرب مندفعا من فتحة إلى خارج السفينة، لكنه يتمكن من الهرب عن طريق غرفة طوارئ.

ينجح بومان في الوصول إلى مراكز التفكير والذاكرة الإلكترونية ل "هال 9000". فيقوم بإبطالها. لكن جميع المحركات وأجهزت الملاحة في السفينة لاتزال تعمل في حالات جيدة. كمية الأوكسجين المتبقية، ستكون كافية له لعدة أشهر.

وتستمر مركبة الفضاء في سيرها. عندما تدخل مدار كوكب المشتري، يجد بومان نفسه يسقط في فجوة عميقة، متجها نحو أضواء ذات ألوان براقة متعددة، كأنه يسافر في نفق عبر الزمان والمكان، إلى عالم آخر، خارج عالمنا هذا.

أخيرا تهبط المركبة أو ربما كبسولة فضاء وبها بومان على أحد أقمار كوكب المريخ. فيجد نفسه داخل قصر أو فندق. لكنه قد هرم وأصبح رجلا عجوزا، يأكل وينام في عرفة نوم فاخرة. أرضها مضاءة بالنور وحيطانها مزينة باللوحات الزيتية والتماثيل.

بومان، الرجل الذي تغلب على العقل الإلكتروني بذكائه، وقام بإبطاله، يرى لحظاته الأخيرة وقد شارف على الموت. لكنه، مثل القرد كثيف الشعر الذي تطور وقفز قفزة هائلة إلى الأمام في سلم التطور، عندما لامس الجسم الغريب منذ ملايين السنين.

يمد بومان يده وهو على فراش الموت نحو جسم المراقبة الثالث الذي ظهر أمامه فجأة في الغرفة. وهو جسم شبيه بالجسم الذي ظهر للإنسان الأول والجسم المدفون تحت سطح القمر. لعل الانسان الحالي يتطور هو الآخر إلى شيء أفضل.

ثم نرى في نهاية الفيلم وعلى أنغام موسيقى شتراوس، جنين آدمي على وشك الولادة، وأمل مشرق في مستقبل واعد للبشرية.

ماذا يقول الفيلم؟

أولا، خطر التكنولوجيا:

خطر التكنولوجيا يظهر هنا مع سلوك العقل الإلكتروني "هال 9000". يتم تصميم هال كعقل معصوم من الخطأ، ويعمل بشكل مثالي بعض الوقت، لكن ينقلب ذكاؤه الصناعي على الإنسان في مشهد شهير لا ينسى في عالم السينما. عندما ذهب ديفيد بومان لكي يوقفه عن العمل، فأخذ هال يرجوه قائلا: "ديف لا، توقف ديف."

هذا تحذير مبكر جاء مع الفيل منذ أكثر من نصف قرن. يجب أن ننتبه لخطر التكنولوجيا. الذكاء الصناعي للآلة لا ندري ماذا يفعل بنا.

كذلك خطر المفاعلات والأسلحة النووية الذي لا يزال قائما والكفيل بفناء البشرية إذا قامت حرب نووية عن طريق الخطأ أو سوء الحسابات والتقدير.

كما أن هندسة الجينات وفيروس كورونا المستجد، واحتمال أنه قد خرج من المعامل كما تقول بعض النظريات، هو خير دليل على ما يمكن أن ينتج إذا انقلب السحر على الساحر. إذا قامت حرب استخدمت فيها الميكروبات أو الأسلحة الكيماوية وأسلحة الدمار الشامل في المستقبل.

لا يعني هذا أننا يجب أن نتخلص من التكنولوجيا برمتها، ولكن يجب الحذر من التعامل معها بأسلوب عشوائي نفعي أناني، بدون قلب وضمير ومسؤولية وأخلاق.

ثانيا، التطور:
الفيلم يتوقع تطور الإنسان في المستقبل. حتى يتجاوز الحاضر بآلامه وظلمه وحروبه وحكامه، غير الأكفاء والمعاقين ذهنيا وأخلاقيا. ويتنبأ بإنسان نيتشة السوبرمان. وكما أن الإنسان الأول قد تطور مع بداية استخدامه للأدوات، سوف يتطور الإنسان الحالي مستقبلا عن طريق الثقافة والعلوم والفنون والأخلاق.

فيلم أوديسة الفضاء 2001، يعتبر أحد أعظم الأفلام التي ظهرت في تاريخ السينما الحديث. هو أحسن فيلم أنتج في الستينيات، وبالنسبة لبعض النقاد، هو أفضلها على الإطلاق.

لكن البعض، لا يتفق مع هذا الرأي. لماذا؟ لأن الفيلم يفتقر إلى ما قد وضعته هوليوود من قواعد. يفتقر لعناصر القصة والرواية. ليس هناك عنصر نسائي أو جنس أو حبكة أو إشراك للشخصيات في الحوار. تقريبا فيلم بدون كلام. مناظر رائعة ومشاهد لا تنسى، لكن بدون حوار.

من يبحث عن قصة، سيجدها في الرواية، لا الفيلم. القصة ستجيب على الكثير من الأسئلة التي تركت لمشاهد الفيلم لكي يبحث عن إجابتها بنفسه. وهذا هو سر عظمة هذا الفيلم.

ربما يكون فيلم أوديسة الفضاء 2001، هو الوحيد الذي نجد مشاهدته على الشاشة أفضل من قراءة قصته. متعة مشاهدة الفيل تقع في غموض ما يعنيه. غموض الفيلم يظهر منذ البداية.

فمثلا، عندما يرمي القرد بعظمة إلى السماء، فتتحول إلى سفينة فضاء. هذا مشهد غير مفهوم لكثير من المشاهدين، لكنه واضح لقراء الرواية. كما أن الجسم الغريب المدفون تحت سطح القمر والذي تتجه موجاته إلى كوكب المريخ، غير واضح في الفيلم بعكس الرواية.

النهر في الرواية يمثل الأفكار، في الفيلم بركة ماء. يفصل القردة المتقدمة عن الأقل تقدما. فليست كل الشعوب تتطور بنفس الطريقة.

لكن الجسم الغريب، الذي ظهر فجأة على شكل مستطيل، هو بمثابة عهد جديد ودافع لتطور الإنسان الأول حتى تمكن من الوصول إلى تكنولوجيا عالية جعلته يرسل مركبة استكشافية في الفضاء.

ثقة الإنسان المطلقة في التكنولوجيا وجعل "هال 9000" هو الحاكم بأمره والمسيطر على كل أجهزة مركبة الفضاء وقراراتها وحده، يبين لنا خطورة حكم الفرد المستبد.

مجرد حجب هدف الرحلة عنه، جعله يحاول إفسادها. وعندما تقرر عزله وإبعاده عن التحكم في مصير المركبة، نجح في قتل أربعة من طاقمها، ونجا العضو الخامس بومان بأعجوبة. الدكتاتور المستبد يفعل نفس الشيء.

الفيلم من إنتاج شركة مترو جولدين ماير،
مؤلف قصة الفيلم: آرثر سي كلارك
إخراج: ستانلي كوبريك
تمثيل: كير دوللي في دور ديفيد بومان،
جاري لكوود في دور فرانك بوول


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى