الخميس ١٢ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٦
بقلم بشير خلف

إشكالية الحداثة في القصيدة العربية الحديثة

" كما أن الخيال يُجسِّم صور الأشياء الغير معروفة، فإن يراع الشاعر يُحيلها إلى أشكال ويمنح، الأشياء الشفيفة حيزا محدودا ويجعل لها اسما "
ـ شكسبير ـ

لكل عصر همومه، ومشاكله وقضاياه، والإنسان مُطالَبٌ في كل عصر بأن يواجه الحياة بما يلائمها من سلوك، ومن خلال هذه المواجهة تتجذّر قيم العصر وتتبلور مُثُلُـه؛ والمواجهة هنا مُعاصَرة الحياة من ناحية، ومواجهتها بعلاقات، وسلوكات فردية وجماعية تتجدد باستمرار في نسقها.

والتجديد من سنن الكون، والإنسان معني دائما بالتجديد والتحديث والعصرنة لما تنطوي عليه هذه العناصر من تقدم، وتطور تسمح بتحقيق مستوى أفضل من العيش. والتقدم مجالاته عديدة، وغير مقتصرة على الجانب المادي وحسب؛ إنما يطال المجالَ الروحيَّ والنفسيَّ للإنسان، وإحداث التوازن بين المجالين المادي والروحي، وإذ يستهدف أيضا الارتفاع بمستوى العقل الإنساني والمعرفة الإنسانية، لِـمَا تهدف إليه من تحقيق ذاتية الإنسان، وإبراز مواهبه، واحتضانها، وتوظيفها لخير الإنسانية، وتفجير طاقاته الكامنة مما ينتج عنه فرصُ الإبداع والابتكار،واتساع المجالات التي يتجلى فيها ذلك الإبداع وخصوصا في ميادين الإبداع الأدبي والفني.

إن المقصود بالإبداع هنا..الإبداع البَنَّاء الذي يستند إلى جذور الأمة،ورقيها وتطلعاتها المعاصرة، فالتلازم ضروري بين الأصالة والحداثة..وهذا التلازم لا يتحقق إلا بفعل الإبداع،لأن الإبداع هو ماهية الفن،والفن شكلٌ ومضمونٌ، فالشكل هو صيغة التعبير، والمضمون هو الموقف. وما تعبير الحداثة في الأدب والفن إلا مرادف لتعبير الإبداع.والدعوة إلى الأصالة فقط تؤدي إلى تقليد التراث، وتكراره وفي ذلك جمود الفن وزواله، والدعوة إلى المضمون فقط يؤدي إلى إخراج العمل الفني عن معناه.لكي يصبح بوق دعاية لاتجاهٍ فكري، أو سياسي أو عقائدي

الإبداع الأصيل

ما دمنا سنقتصر في هذا المقال على العملية الإبداعية في الأدب وما يعْتوِرُها من دعوات حداثوية لكي تساير عصرها هذا، فإن العملية الإبداعية النظيفة، والصادقة في الأدب هي عبارةٌ عن تشكيل جديد للعالم وللحياة،وفق منظور المبدع، ونوازعه، ورؤاه الخاصة.

ومن العبث أن تتحول تلك العملية إلى تصورات تحمل في طياتها بواعث الهدم،ونوازع الشر في النفس البشرية، ويتحول العمل الإبداعي إلى مِعْول يهدم القيم الإنسانية، والأخلاق الاجتماعية، وتفكيك عُرى الروابط، والضوابط التي تحكم الحياة؛ فالأديب المبدع يُشْترَطُ فيه أن يكون خيّراً ذا عاطفة رقيقة،محبا للإنسانية،مدركا لضعفها البشري، ذا نفس تفيض حبا وحنانا، متذوقة للجمال، وقادرة على إشعاعه لدى الآخرين؛ ومنْ فقد هذه المميزات، لا يستحق أن يكون في صف المبدعين.
وانطلاقا من هذه الخصائص، يمكن القول بأن العملية الإبداعية،هي تلك الحالة المركبة من إحساس،ومشاعر وانفعالات، وعمليات عقلية ونفسية معقدة،يعيشها المبدع ويعاينها،فتفرض عليه اختيارات معينة تظهر في أثَرٍ إبداعي معين.

الفنان المبدع

وقد يقترب هذا الرأي من قول المرحوم المفكّر اللبناني الدكتور "حسين مروة " في وجوب توفير خصائص معينة في الفنان المبدع:

« الفنان المبدع لا بد أن نلاحظ في إبداعه النزعةَ الجماليةَ، الأداة الجمالية، التعبير والصياغة، ثم الأداة المعرفية التي تطور أداة التعبير والصياغة، ثم النبع العاطفي والوجداني الذي يصدر عنه الأدب الإبداعي،هذا شيء أساسي في الفن.. في الفن المكتوب، والمسموع، أو المقروء، أو المرسوم.

الإبداع من خصائصه الإدْهاش

وعلى هذا فالإبداع في الأدب لابدّ أن يتضمن التجديد، فالإبداع من خصائصه الإدهاش، والمفاجأة.. أن يحمل الغيرَ المتوقعَ.. الشيء الجديد الذي يفتح العين، ويدع المتلقي يعيد النظر فيما يقرأ.. الإبداع يفتح عين المتلقي.. يدهشه.. يذهله..يحلق به إلى عوالم أخرى..عوالم فسيحة..

التجديد في الأدب معناه ابتكار ما هو غير مألوف.. إدهاش الغير بالتجديد البنّاء الذي يهزّ النفس، ويغذي الروح. ومن أجل ذلك فإن ظاهرة التجديد، والتحديث في المجال الفني والإبداعي دائما تتجلى أولا في أعمال الأدباء، وتطال ظاهرة التجديد كل الفنون التي يبدعها الإنسان،إلا أنها تبرز أكثر في الشعر – لكونه فنا يأتي في مقدمة هذه الفنون، وليس في الفن تقليدٌ، فالفن جديد ومتجددٌ دوما،لأن الفن ليس علما بالدرجة الأولى، ولكونه موهبة يستمد منها العلمُ نظرياته.

فالأشكال الفنية،والأساليب المتبعة تعبيريا،لا يمكن أن تخضع للقواعد والمناهج النظرية، وإنما تنبع من ذات الفنان فتعبر عن شخصيته، فكم من أعمال فنية رائعة عاشت آلاف الأعوام،في حين ماتت أعمال أخرى يوم رأت النور مباشرة. والعمل الفني لا يعيش إذا لم تكن له شخصية تميزه عن الأشكال الفنية الأخرى، وإنْ تقارب معها في النسق واللون..

عندما يكون الشعر موقفا..!!

إن الشعر حالةٌ وجدانيةٌ فكريةٌ، يتركز فيها الذهن على نقطة معينة من صورة.. من فكرة..من قضية والشعر تعبير عن العاطفة، وما يثير في النفس من دقائق الشعور وما يؤثر فيها من صور الجمال، وحقائق الحياة؛ وهو من أجل ذلك يتأثر بالعصر، وبالبيئة، وبظروف الحياة التي تتطور باستمرار. فالضرورة تستلزم أن يرافق تطورَ الحياة تطورٌ مماثلٌ في الفنون، وخصوصا في الفن الشعري لكونه يأتي في مقدمة هذه الفنون كما سبق. والتجديد في الشعر، والافتتان في إبداعه شكلا ومضمونا يقتضي التحدث عن إشكالية " الحداثة " التي تُُعتبر هاجسا طبيعيا في الأدب والفن.
معْنى الحداثة في الإبداع الأدبي

مصطلح الحداثة وافدٌ علينا في العالم العربي كأغلب الاتجاهات الفنية المعروفة، ويعني المصطلح لدى البعض من المبدعين الأدباء،الدخول في تجاربَ تتعلق بالبناء الشكلي للقصيدة وخصوصا،اللغة وهذا بالطبع على حساب المضمون الكياني للقصيدة،لكوْن القصيدة في رأي هذا البعض،تنتمي إلى تجربة، ولا تنتمي إلى شرح أو تحليل.

المرحوم الدكتور إحسان عباس لا يوافق على هذا الرأي، إذْ يرى بأن عالم الفن والإبداع أكبرُ وأسمى من أن يتحول إلى مختبر للتجارب، فعالم الفن غايته الوصول إلى نَتاجٍ فني إنساني راقٍ،إذ هو أشبه ببناء لشيء جديد من أشياء أخرى،إنما انطلاقا من يقين مسبق بأن هذا البناء سيُفْضي بالتأكيد في النهاية إلى تحفة فنية رائعة،عكس العالم في مختبره،بين يديه مواد مختلفة يجعلها مادة لتجاربه المتكررة دون يقين مسبق بالوصول إلى نتيجة معروفة،أو شيء جديد معلوم بالتأكيد منذ البداية.

والأديبة المعروفة " غادة السمان " تؤكد على أن لكل فنان كل الحقوق بما فيها حق التجربة، وحق المعاصرة،وصولا إلى حق الرداءة.لكنها تقنِّـن هذا الحق، وتضع له قيودا حتى لا يتحول إلى تعسف، والتعسف كما هو معروف في استعمال الحق المضر بالغير،يعتبر جُـرْما.

ولطالما أن الأدباء.. يختلفون في أحقية التمتع بهذا الحق التجريبي، وهم يبدعون فلنبق مع مصطلح الحداثة في مضمونه الشعري، حيث هو مغامرة عفوية تفيض بالحدس والكشف عن إدراك خاص للعالم إدراكا يهدم نظام التصورات المألوفة ليعيد توزيعها، وبناءها من جديد.. فالحداثة تنزِع الأشياء المألوفة من كيانها المعتاد، وتعمل على بنائها من جديد في سياق آخر مدهش وغير متوقع، قد يدهش المتلقي ويثيره من خلال تفجير أقصى طاقة إيحائية وانفعالية لديه، بحيث يدرك معنى إعادة ترتيب التجربة الإنسانية، وإعادة تكوينها وتفسيرها من جديد.

فلا ضيْر ألا يرى البعض من النقاد والأدباء فرقا بين العملية الإبداعية وممارسة الحداثة في العمل الفني والأدبي لكونهما مغامرة عفوية تفيض بالحدس، والكشف عن عوامل أخرى. يعيد الفنان المبدع إعادة صياغتها في تجربة إنسانية مدهشة تفجر طاقات إيحائية وانفعالية لدى المتلقي،فالحداثة تعني حضور التوهج الشعري، ونحن نتكلم عن الشعر

ضرورة التجــديد

إن الوزن والقافية في القصيدة العربية العمودية عملٌ تنظيريٌ تَوصّل إليه الخليل بن أحمد،لأن الشعر العربي كان سباقا على هذا التنظير بمئات السنين، فالأوزان، والقوافي المعروفة لدينا اليوم لا تعدم توصّل العرب قبل الخليل بن أحمد إلى أوزان أخرى.. هذه الأوزان لدينا اليوم، لا تستنفد إمكانات الإيقاع، وإمكانات التشكيل الموسيقي الذي قد يظهر لاحقا في اللغة العربية، وإنما ما هو معرف لدينا يُمثل ما استخدم، واستقر في التراث الأدبي، وما عُـرف في الثقافة العربية المعاصرة.

ويؤكد هذا الرأي وإن كان في سياق آخر الشاعر العراقي شفيق الكمالي الذي يرى:

« أن الشعر العربي الذي وصلنا إلى أيام الخليل بن أحمد ليس كل الشعر العربي الذي قيل، فالكثير من هذا الشعر ضاع،ويجوز أن يكون بين هذا الذي ضاع أعداد كبيرة من هذه القصائد التي تُعتبر ُغير موزونة.وهذه امتداداتها موجودة الآن في شعر البادية. وإذا كان الشعر هو الانتماء للعفوية والبراءة المطلقة والطيران في فضاءات الحرية وولوج الزمن، وإعادة تشكيل الحياة المألوفة في عالم آخر سحري،أليس من حق الشاعر أن يرفض اتجاها يقال: إنه صالح لكل زمان ومكان؟ »

بناء القصيدة الجديدة

وعليه فإن تحرير الشكل الشعري من كل شرط سابق، أو قالب مسبق، يفترض دائما شكلا معينا لكل قصيدة، وأن الشكل لا يعني الوزن والقافية أو انعدامهما بالضرورة. إن الحداثة في الشعر الحديث تقتضي أكثر من وزن وقافية، فالشكل الحديث هو حركة القصيدة، وطريقة تكونها، ومراحل نموها،وعلاقة أجزائها ببعضها البعض، والأصوات الداخلية فيها، والإيقاع الموسيقي فيها.

ولئن كانت الحداثة الشعرية تجديدا في الشكل والمضمون للقصيدة العربية الحديثة، فإنها لا يمكن أن تُـبنى في فراغ تراثي، أو حضاري إنما تجمع بينهما، والفنان المبدع من استطاع حقا التوفيق بين العصر والتراث، وهي إشكالية تباينت فيها مواقف الشعراء والنقاد، إذ يرى البعض من هؤلاء أن الحداثة ذات بعد شكلي ( شكلي لغوي ) وحسبْ، وقد لا يربط البعض بين موقف المبدع من اللغة، وبين موقفه من الحياة، والبعض الآخر يعتبر الحداثة (موقفا) و(رؤيا) شموليتين من الحياة والزمن بأبعاده الثلاثة.

غير أننا نعتقد أن الحداثة كلٌّ متكاملٌ..رؤية شمولية بُنيوية لقصيدة تشمل في الأساس موقف الشاعر، ورؤيته الفلسفية الفكرية من الوجود والمجتمع؛ ولذا فإن أي موقف لغوي شكلي،لا يعني إطلاقا أن الشاعر أصبح حديثا،ما لم يكن له موقف ورؤيا تتسمان بالحداثة، وبقدر ما تنطبق الحداثة في الإبداع من حقائق اللغة، وحيوية الفكر، و تجاوز المبدع لأطر الزمان والمكان، والبيئات، والأفكار السائدة والمستقرة لكون الحداثة الإبداعية متغيرةٌ باستمرار و إلا ما اعتبرت حداثة.

الحداثة لا تعني الفوضى..

والحداثة الإيجابية بالطبع تنْحو نحْو الخير، وتُقاوم الشر في كل صوره،ولا تعني الحداثة أبدا الدخول في فوضى التجريب والعمى عن رؤية الواقع، أو الإعراض عن القيم والثوابت للأمة،إذ لابد من تحقيق الأصالة، والمسؤولية التاريخية، والاستفادة من التراث؛ لأن الرغبة الجامحة والعمياء في تحطيم القيم النبيلة تعسفٌ في استعمال حقٍّ خاصٍ قد يؤدي بالغير إلى الضرر.

والحداثة لا تعني التجردَ من الغائية، فكل إبداع يتم ويتشكل بمعزل عن الحياة ذاتها مآله العدم،لأنه إبداع دون غاية، أو هدف إنساني. ولن ينمو في الآخرين أيضا بل يظل حبيس المغامرة الفردية،لأن الإبداع لا يكون بهذه الصفة ما لم يعبر عن حالات، وأوضاع إنسانية راصدا ومبرزا المتغيرات النوعية التي تطرأ على الحضارة،بما يخدم التطور البشري، ويفتح آفاقا جديدة يرتادها الآخرون من أجل حياة أفضل.

الشاعر الفنّان الأصيل

إن التطلع إلى الحداثة في شتى مجالات الأدب والفن أمرٌ مشروعٌ،إنما يقتضي انتقاء موضوعيا مرتبطا بقيم الأمة وتطلعاتها ومكانتها.والمرحوم الشاعر العراقي " عبد الوهاب البياتي " يشترط في الشاعر الأصيل عدة شروط يحددها كما يلي:

« الشاعر الأصيل يُولد من خلال المعاناة وينمو وينضج ببطء،معانقا الواقع والتحولات في تاريخ أمته وشعبه،لا أن يستعير أزياءه وأدواته من تراث الأمم الأخرى ».

حقا إن الشاعر الأصيل هو الذي قلبه وعقله لتاريخه وثقافته وتراث أمته،حريصٌ دائما على تجاوز الذات،ساعٍ إلى الإضافة لهذا التراث وهو الذي يعتبر نفسه استمرارا لمجد الشعر العربي لا مهدما له،والشاعر الأصيل الذي يعتبر نفسه حداثويا لابد من أن يعترف بأن السابقين له مثّلوا هذه الحداثة بدورهم في زمانهم،وسيصبح هو يوما كالسابقين،مما يتحتم عليه قراءة آثارهم وتمثّلها والتشبع بما تركوه من كنوز فكرية وأدبية،ومعرفة الحد الذي وصلوا إليه في محاولاتهم الأدبية،وإبداعاتهم الحداثوية،حتى لا يعتبر نفسه الرائد الأول في التجديد،إو يبذل طاقات هدرا، غير مستفيد مما قام به غيره.

وكما يقول الناقد الأدبي جهاد فاضل:<< فالشعر وليد حمّى روحية وحريق مشتعل في النفس،فإذا لم يكن الشعر من وحي هذا الجحيم فعبثا يكتب صاحبها (النفس) نثرا وغير نثر>>؛

والشاعر العظيم كالقديس،كالبطل،كالعاشق،كالقمر لا يخفى وهو شاعر بعناية الغير أو بدون عنايتهم،بل إن زهده بالعلاقات العامة وإهماله لها يزيده شعرا ويزيده قدْرا والكلام بالطبع للناقد الأدبي السالف الذكر.

على أن الدكتور خليل حاوي يلخص تلك الحمى الروحية،وذلك الحريق المشتعل في نفس الشاعر فيما يسمى بـ:الرؤيا الشعرية << الرؤيا الشعرية هي نوعٌ من المعرفة التي تتخطى نطاق العلم المحدود بالظاهر المحسوس،وتنافس الرؤيا الشعريةُ الفلسفةَ وتتغلب عليها في مجال الكشف والخلق والبناء ,وهي سمة الشاعر الأصيل الذي لا تلمح وراء نتاجه شبحا من أشباح أسلافه أو معاصريه،وهي القدرة على صهرها بما يستمده من نتاج الآخرين وطبعه بنظرته الخاصة إلى الوجود وطريقته في التعبير >>.

هذه خصائص الشاعر الأصيل،الشاعر المجدد،المدرك لمفهوم الحداثة الحقة،وكل المبدعين والنقاد مُجْمِعون على أهمية التجديد في الفنون الأدبية وعدم الوقوف في وجه تيار الحداثة، فالدكتور"طه حسين" يرى أن النزعة نحو التجديد في الأوزان والقوافي دعوةٌ غير منكرة،بل إنها ليست دعوة جديدة،فقد سبق إلى التجديد شعراء من العرب وشعراء من غير العرب،وإنما الجدير بالبحث في الشعر الجديد هو البحث عن توافر الأسس التي يجب مراعاتها في الفن الشعري،والخصائص التي ينبغي أن تتحقق فيه،ولا يمكن أن نعد هذا الجديد شعرا إلا إذا قام على تلك الأسس،وتوافرت فيه تلك الخصائص واستطاع أن يمتعنا وأن يؤثر في نفوسنا الأثر الذي نعرفه لهذا الفن ونتوقعه منه ويحدد للشعر شروطا هذه بعض منها:

« فالشعر يجب أن يُبهِر النفوس والأذواق بما ينشئ فيه الخيال من الصور ويجب أن يُسحِر الآذان والنفوس معا بالألفاظ الجميلة التي تمتاز أحيانا بالرصانة وتمتاز أحيانا أخرى بالرقة واللين وتمتاز كل حال بالامتزاج مع ما تؤديه من الصور لتنشئ هذه الموسيقى الساحرة التي لا تنشأ من انسجام الألفاظ فحسب،ولا من التئام الصور نفسها، أو بينها وبين الألفاظ التي تجْلوها،بحيث لا يستطيع السمعُ أن ينبوَ عنها،ولا تستطيع النفس أن تمتنع عليها،ولا يستطيع الذوق إلا أن يذعن لها ويطمئن إليها ويجد فيها من الراحة والبهجة ما يرضيه ».

لكن الخوف على الشعر العربي كله قديمه وحديثه من هؤلاء المبدعين للحداثة والعصرنة، الحداثة الرافضة لكل الأصول،حداثة بدون تاريخ،حداثة بدون خصوصية،حداثة ترفض التراث، حداثة تتعالى عن الاعتراف بالشعراء السابقين قديما وحديثا،وهي ظاهرة سلبية برزت في كل البلاد العربية وأصبحت تطلع علينا الصفحات الثقافية كل يوم ببعض من هذا الشعر الذي يخلو من كل مواصفات الشعر الأصيل،حتى سارت ظاهرة ما ليس شعرا هو الشعر.

واستولت الطفيليات على الجوهر،لتغطي الظاهرةُ الشعريةُ الحديثةُ ما أسْموْه بتفجير اللغة وكذا الركاكة والغموض وشعر اللاقول..

شعرٌ كهذا هو الذي أطفأ التوهج الشعري وأوقف تلك الجاذبية السحرية لدى المبدع والمتلقي معا.يقول المرحوم الدكتور " زكي نجيب محمود" في مجال رثائه لهذا الشعر الذي يفتقد كل تواصل بين الناس والخالي من الموقف الإنساني،وعظمة الشعر القديم::<< إنك تقرأ الشعر الجاهلي فتتابع أصحابه بالفهم والتقدير،أما ما هو مصير هذا الشعر الملغّز الرامز بعد أن تكون مرت عليه القرون والقرون، فلا أحد يدري منذ الآن، هل ستظل له قوته وعمق أثره حين لا يكون حول الناس ما يضيء لهم هذا اللغز وذلك الرمز؟...هذا هو السر الكبير. »

ثم كيف يكون الشاعر من لا ينحني متواضعا أمام الأسماء الكبيرة،ومن لا يشعر بالضآلة أمام العبقريات الشعرية الخالدة.. ويعترى الخوف الشاعر الكبير" محمود درويش" وهو يرى هذا السيل الجارف من قصائد ادّعت وتدّعي الحداثة في حين تحمل في خباياها مَعاول الهدم لأسس الشعر العربي،فيصرخ درويش بأعلى صوته:

« ما جرى للشعر العربي؟ إن سيلا جارفا من الصبيانية يجتاح حياتنا،ولا أحد يجرؤ على التساؤل:هل هذا شعر؟ نحن في حاجة للدفاع ليس فقط عن قيمنا الشعرية بل عن سمعة الشعر الحديث الذي انبثق من تلك القيم ليطورها لا ليكسرها،حتى شمل التكسيرُ بدافع الإدراك أو لجهل اللغة ذاتها،فكيف تطور الحداثةُ الشعرَ بلا لغة وهي حقل عمل الشاعر وأدواته،هل شرح لنا الذين لا يعرفون لغتهم ماذا يعنون بالمصطلح الدارج:تفجير اللغة؟ »

ويعزو " محمود درويش " عزوف الناس عن الشعر ومقتهم للشعر الحديث إلى هذا النوع من الإدعاء الشعري،ولأنه شاعرٌ أصيلٌ وعربيٌ يعنيه تاريخه وتراثه،ولا يعتبر التجديد والحداثة مرادفين للعدمية وللثورة المضادة،فإنه يصرخ:

« قد نهدئ من روع الناس بالإشارة إلى أن تاريخ الشعر حافل بالتطاول والادعاء،لولا أن تراكم الركاكة واللاشيء وضياع المفاهيم الخاصة بالشعر الحديث قد أضاعت من الناس مفاتيح القراءة والتمييز،وبخاصة أن الشعر العربي الحديث لم يحقق بعد شرعيته الشعبية ».

وتؤيد هذا الرأي في سياق آخر الشاعرة العراقية " نازك الملائكة " فتقول:

« يعاني شعرنا المعاصر من مجموعة إشكالات منها التعمية والتقليد وأخطاء الوزن وضعف اللغة واستعمال اللغة العامية »

..وهي عيوب تشين القصيدة وتطفئ فيها توهجها الشعري الجذاب.فالشعر الأصيل تعبير عن العاطفة وما تزخر به النفس البشرية من زخم الشعور،وما يؤثر فيها من صور الجمال وحقائق الحياة،وهو من أجل ذلك متـأثر بالبيئة والعصر وبظروف الحياة المتغيرة دوما فكم من قصيدة اكتسبت صفة الحداثة والتجديد في كل عصر وقد مرَّ على قولها مئات السنين بل آلافها...كهذه الأبيات الخالدة لأبي الطيب المتنبئ... الزمن يمر وهي دائما متجددة في بنائها ورؤاها وموقفها من الحياة والناس:

إلى كـمْ ذا التخلـفُ والتـوانـي * وكـم هذا التمادي في التمادي

وشغـل النفـس عن طلب المعالي * بيـع الشعـر في سوق الكساد

فالموت أعذر لي والصبر أجمل بي * والبَـرُّ أوسع والدنيا لمَنْ غَـلَبَا

إنها رجفة الثورة وروح الكبرياء والعزيمة القوية لدحر الذل والهوان والدنيا لمن غلب،أليس هذا هو منطق العصر الحاضر؟ أليست هذه قاعدة العلاقات الدولية حاليا؟ أليست هي المعادلة المختلة التي تحكم علاقات الأقوياء بالضعفاء في عالمنا اليوم؟

وهو صاحب الآمال العظام التي ما أحوجنا اليوم للعمل جميعا قصد تحقيقها:

فـلا تحسبن المجد زقا وقـنينـة * فما المجد إلا السيف والفتكة البكر

وهو القائل:

فـلا مجد في الدنيا لمن قل ماله * ولا مال في الدنيا لمن قل مجـده

وهذا الشاعر السعودي "حمزة شحاته" يتغنى بالربيع الدائم الذي ألفه مجسدا في فتاته الحسناء:

لا تقولي مضى الربيـع وولّـى * إنـه فيـك دائمــا يـتـجـدد

لم يـزل عطـره يفتح خديْـك * ويُلقي عـلى الطبيعـة ظـلـلا

ورؤاه تبـدو بـعينيـك سحـرا * يستفـز الهوى خيـالا مـطـلا

وجمـالا شـاب الزمـانُ هيـاما * بهـواه ولـم يـزل فيـك طفلا

وهذا الشابي أبو القاسم يصيح في الشباب صيحته المدوية التي يستنهض بها الهمم ويشد بها العزائم...صيحة قيلت منذ عشرات السنين وكأنها قيلت اليوم:

أُبـارك النـاس أهـل الطموح * ومَـنْ يستـلذ ركـوب الخطـر

وألـعـن من لا يمـاشي الزمان * ويقـنع بالعـيش عيـش الحجـر

هـو الكـون يحيـا بحب الحياة * ويحـتقـر الميـت المنـدثــر

وهذا الشاعر المصري مرسي جميل في قصيد عنوانه "إيقاعات" غنته المطربة فيروز:

لم لا أحـيا... وظـل الورد يحيا في الشفـاه

ونـشـيد البلبـل الشـادي حيـاة لـهـواي

لـم لا أحيـا وفـي قلـبي وفي عيني الحياة

يا رفيقـي نحـن من نـور إلى نـور مضينا

ومع النجـم سـرينا ومـع الشمـس أتـينـا

أين ما يُـدعى ظـلامـا يا رفيق الليل أينـا؟

إن نـور اللـه في القـلــب وهـذا ما أراه

الشعر الأصيل شعرٌ يستوقفك فورا بنوع من الضراوة،بنوع من التحدي فلا تجد نفسك إلا مجيبا للتحدي ولكنه تحدٍ جميل..وهذا الدكتور الشاعر أحمد الشرقاوي يرفع التحدي في أبيات من قصيد عنوانه، وهكذا نحن افترقنا:

لـم نكن نحفل بالجـرح وأسـوار الحصـار

ولـذا كـنـا نـقـاوم

وحـلـفـنـا أن نبيع الحزن في توق اللقاءات الرحيبة

ونـغـنـي للأمـانـي

ورفـعـنـا بيْـرقا للـشمـس من وعْـد التـحـدي

ونـثـرنــا الحـلـم فـي الأرض الـخـصـبـة

وحـصـدنـا الـفـجـر فـي رجْـع الأغــانـي

الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي عبر عن حزنه منذ عشرات السنين يبكي ما آلت إليه علاقاتنا ببعضنا البعض، أفرادا وجماعات وشعوبا،حالنا يشهد على ذلك:

أحلم يا مديـنتي فيك بـحب هـادئ

يـمـنحـني الراحة والإيـمــان

أحلم يا مدينتي فيـك بـأن نبكي معا

إذا بـكـت عـيـنـان

بــأن أسـيـر ذات يـوم قـادم

تحـت نهـار يـسعـد الإنسـان

أليست هذه المعادلة التي افتقدناها نحن في بلادنا في وضعنا الجديد المتسم بحرية التعبير والسلوك الفردي والجماعي المتعارض مع النُظم الاجتماعية والمُخِل بقيم الحضارة والتمدن،فالديمقراطية المطلقة ألقت بنا في وحل: كل يغني على ليلاه؟

إن التجديد الرائع الذي قام به الشعراء الرواد ومَنْ أتى بعدهم وبمقدرة فائقة خلّدهم، إنما لمْ يرافقه دائما تجديدٌ لمضمون القصيدة العربية عند غيرهم.فالشاعر العراقي بدر شاكر السياب وهو من الرواد يقول:<< لقد ثرنا على القافية والوزن التقليديين لأسباب مِن أهمها تحقيقُ وحدة القصيدة ومنحها وحدة عضوية >>.غير أن هذا قد لا يتحقق دائما حتى للشعراء الكبار.لنقرأ هذه الأبيات من قصيدة " سوق القرية " للشاعر عبد الوهاب البياتي:

الشـمـس، والحُمُـر الهـزيلـةُ والـذبـابُ

وحــذاء جـنـدي قـديـم

وصيـاح ديـك فـرَّ من قفص،وقديس صغير

والعائدون من المدينة: يالها من وحش ضرير

وخوار أبقار، وبائعة الأساور والعطور

فأية وحدة في القصيدة، وحدة يُضحّى من أجلها بالوزن التقليدي والقافية وجزالة الأسلوب؟ أية متعة هذا الهُراء اللفظي؟ وأي إيقاع شعري في هذه الصور المتشرذمة؟

إن الحداثة بهذا الشكل وأْدٌ بشعٌ للفن واغتيالٌ مقزّز للشعر العربي، لكن عظمة الشاعر عبد الوهاب البياتي وريادته في حركة الشعر العربي المعاصر تُعفيه من هذه الكبوة.

أبيات أخرى لشاعر من تونس الشقيقة يلهث وراء الحداثة ولكن أية حداثة؟

حدس أخضر..

يقتفي نصْب عيني

ولا ينتفي أبدا

كالدم المترقرق طوعا

برافد عمري

كوعد عنود

وهذه أبيات أخرى في نفس السياق لشاعر من وطننا الجزائر، من قصيدة له عنوانها:المدينة

حـجــرٌ فــوق الـمـديـنـة

فـوقـــه نـأي .. وطـفـــل

يـتــدلّى بيـن نجمـات حزينـة.

كــل ما في جـبـة الأرض قـتـيـل

رجل الشارع.. أبواب البيوت المستكينة.

وإذ نخلص من النماذج الشعرية التي استعرضناها،إلى أن الشاعر الأصيل بإمكانه أن يبدع،وأن يقدم للإنسانية أروع القصائد الشعرية كيفما كان الشكل الذي يختاره،وأن يسمو بفنه إلى أعلى مراتب الخلود،وأن يرتفع بمتلقّي فنه إلى أعلى آفاق المتعة والتذوق الجمالي. وإذا كانت الحداثة في الأدب وخصوصا في الشعر لا تتوقف عند الظاهرة الإيقاعية ومضمون القصيدة لكونه يرمز إلى غائيتها كموقف حياتي ورؤيا للواقع،فإن المحور الأساسي للتعبير عن ذلك هي اللغة.هذه الوسيلة السحرية لولوج العوالم المغلقة،لأنها الظاهرة الأولى في كل عمل فني يستخدم الكلمة أداة للتعبير؛ فاللغة هي أول شيء يصادفنا،وهي النافذة التي من خلالها نطل على حديقة الفن الشعري ومن خلالها تتفتح حواسنا على هذه الحديقة.والشعر هو استكشاف دائم لعالم الكلمة،واكتشاف مستمر للوجود عن طريق الكلمة،ومن أجل ذلك كان الشعر في رأي الدكتور عز الدين إسماعيل:<<هو الوسيلة الوحيدة لغنى اللغة العربية وغنى الحياة على السواء.والشعر الذي لا يحقق هذه الغاية الحيوية لا يمكن أن يسمى شعراً>>.

الحديث عن ظاهرة العصرنة،وإشكالية الحداثة في الأدب و الفن وخصوصا في الشعر العربي ممتعٌ وشيقٌ وذو شجون..موضوعٌ خصبٌ يبقى دائما مادة ثرية لجلْب اهتمام المفكرين والمبدعين،ومن لهم شغف بعالم الإبداع وسرّ الكلمة،

والخلاصة أن الشعر شعرٌ أيا كان شكله، ولا يمكن أن يكون الشعر جيدا لأنه جديد حر، أو شعرا سيئا لأنه قديم...إن الشعر هو الشعر الجيد بغض النظر عن الشكل الذي يقدم به، والأمر المهم هو إدراك الشاعر لوظيفة الشعر ومعرفته للإيقاع الشعري في أي شكل والذي هو نبض التصور الإبداعي عند الشاعر.ومدى الحرارة،ومدى الصدق الفني، ومدى الفيض الوجداني الذي يعبر به كتابة،ومستوى الأداة التعبيرية القادرة على أن تُخرج هذا الفيض الوجداني بصورة فنية جميلة عالية المستوى سواء كان موزونا أم غير موزون، أم غير مقفى.

الكلمة إن توفرت لها شروط الخلود،وكتب لها القدر أن تعيش تصبح أبدية، وتصير ملكا للتاريخ ومكسبا للإنسانية،وبقدر ما نستوعب مفهوم الإخلاص لهذه الإنسانية، نقترب بالفعل بهذا الكنز الثمين منها،وهو ما تدعونا إليه روح الإبداع لكي نستلهم منه مزيدا من التحرر والتفتح والكشف لخبايا الحياة.. والشعر فن إنساني رائد.

الإحالات

ـ الدكتور عز الدين اسماعيل. الشعر العربي المعاصر.ط2 /1972 دار العودة ودار الثقافة.بيروت.

ـ أ.جهاد فاضل. قضايا الشعر الحديث.دار الشروق /بيروت.

ـ الدكتور بدوي طبانة. التيارات المعاصرة في النقد الأدبي. دار الثقافة /بيروت 1985

ـ مجلة الفكر التونسية – العدد العاشر – جويلية 1984.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى