السبت ٧ أيار (مايو) ٢٠١٦
بقلم أحمد الحارون

إليكِ يا حبيبة

كان الزوجان يعيشان في حياة أشبهُ بالمثالية، كلاهما يتفانى في خدمة الآخر، البيت تغمره ألوان الرضا، وتسير الحياة هادئة هانئة، والأولاد على خير ما يرجوان، وفجأة ودون سابق إنذار...قال الزوج لزوجته: دعيني أرحل بعيداً عنكم، فلم أعد أطيق العيش، لذا أرجو أن ننفصل في هدوءٍ، مادت الأرض بالزوجة وارتبكت وحارت في أمره، حدقت وحملقت في وجهه فلم ترَ ملامح جنون، أو تقاسيم دعابة، وضعت يدها على جبينه علها آثار سخونة مفاجئة فلم تجد، جمعت شتاتها وقالت: ماذا حدث يا زوجي العزيز؟ ألسنا زوجين سعيدين؟ ماذا بدر مني؟ إن كنت قصرت في حقك أو في حق أولادنا فأنا أعتذر، ولا مانع لدي من تقويم ما إعوج، وتعديل ما ترضيه من تصرفاتي أو هيئتي، وإن كنت عازماً على الزوج بأخرى فلا مانع لدي، فأنا أقبل بنصفك، ولا أضحي بكلك، قال: لا هذا ولا ذاك، ولكن هذا قراري وعازم عليه، عشنا بهدوءٍ، فدعينا نفترق بهدوء، ولا بديل عن ذلك ولا تحاولي.

أمام إصراره جمعت شتاتها المبعثرة وقالت له: عشتُ معكَ وكنت أبذل وسعي في سعادتكَ، وإن كان في فراقك تكملة لهذه السعادة رغم ألمها فلن أبخل عليكَ بما تحب، وخرجا معاً لتنفذ له ما أراد والهم فالق كبدها، نعم ... انتابتها الظنون والشكوك، وحارت في أمرها، واستعاذت من شيطانها الذي وجدها فرصة لينفث في روعها بأفكار غريبة، كان يمشي أمامها، وهي تسير خلفه، تتكلم وترد على نفسها وهو غير مكترثٍ، تقول: كيف أُرغمُ على أبغض الطلاق من شريكِ العمر ومصدر سعادتي وظلي في هذا الكون؟ كيف لي أن أستمر دونه؟ وكيف تستقيم بي وبأولادي الحياة؟ ليت الموتَ عاجلني قبل الآن، يبدو أن القدر منحني السعادة كلها، وهو الآن يقسو عليَّ وعلى صغاري لنتجرع الحزن ما بقي لنا حياة.
وقبل أن يصلا إلى إلى مكتب الطلاق بخطواتٍ تعثرت الزوجة ووقعت أرضاً، فجُرحت قدمها ونزفت قليلاً من الدم، وتأوهت وتألمت، انحنى الزوج على زوجته مسرعاً، قدَّ قميصه وضمد جرحها، وكانت دموعه تنهمر من عينيه قلقاً عليها، وتعجبت من تصرفه! كيف به يصرُّ على طلاقها ثم يبكي ويحنُّ ويحنو؟ ثم قال لها: ما أجملك يا شريكة عمري وأم أولادي! لنعد إلى بيتنا ونكمل معاً مسيرة الحياة، فرحت الزوجة بقوله لكنها أبت أن تغادر موضعها قبل أن تفهم، قالت: قبل أن أقع كنت عازماً على فراقي، وبعد أن وقعت وجُرحت قدمي تعود بي كالبلهاء أو السائمة، لا وربي، لن أغادر قبل أن أفهم.

جلس الزوج بجوار زوجته يربت على يديها ويقول: عشت معك طوال هذه السنوات دون أن تتذمري، ودون شكاية، ودون أن تتفوهي بكلمة غاضبة، حتى وقت المرض تتحاملين ولا تخلي بواجبك، ظننتكِ ملائكية الطبع، نسيتُ معكِ متعة اللقاء لأننا لم نتباعد، وحُرمتُ نعمة الرضى لأننا لم نتشاجر، وفقدنا شوق الحصول على شيء لأنَّ كل شيء متاحٌ، فكيف لشخص لا يغضب مع عشرة السنين؟ وكيف لا يمرض إنسان رغم تقلبات الدهر؟ وكيف لا تغير ولا تشك زوجة رغم قدم الزواج؟ الآن قد وقعتِ وغضبتِ، وجُرحتِ وتألمتِ، وشككتِ وتكدرتِ، واحتار فكركِ وضربتِ أخماسكِ في أسداسك، الآن أنت مثل كل الناس، وأنا أريدك واحدة منهم، لا أعاشر ملاكاً ولا يطيب لي العيش مع من هو فوق الآدمية ودون الملائكة. أنتِ الآن من أريد، فهذا يكفيني إن لم يكن يزيد.

وأمنا ثناء شاهين... شمعة تحترق منذ صغرها، وفتيلة المصباح الذي ينير لغيره، تعلمنا منها قوة الإرادة في عز المحن، أليستِ الخارقة؟ وهل لخارقة أن تخور قواها؟ وتعلمنا منها نثر الحبِّ دون انتظار، تعلمنا منها معنى الاحتراقِ والبذل، فهي والشمعة صنوان، الشمعة على ضآلتها تذوب وتحترق لمنح الدفء والنور، تحترق ودموعها على جانبيها تسيل لتنسج الأمان على من حولها، وتنير درباً في ليلة مظلمة، لكنها في النهاية أم وزوجة وإنسانة تتألم، لحم وعظم وبقية من أعصابٍ، تحب وتحزن، تشعر بالعجز لأنها تريد أن تساعد الجميع، وتحل مشاكل الجميع، وحين يكون الألم فوق طاقتها، وتعجز بها السبل لمد العون لابد أن تخور وإن كانت خارقة، ولابد أن تتعصب وإن كانت هادئة، ولابد أن تنسحب في هدوء لأن القهر أتى عليها.

وأقول لها: لن يقبل أبناؤك وأحبابك أن يكونوا من العاقين، ولن يسمحوا لك بالانسحاب من بينهم، لكن لكِ أن تريحي نفسك وتجمعي شتاتك وتعودي إلينا على وجه السرعة، الآن الآن، وليس أمامكِ إلا خياران لا ثالث لهما، أن تعودي إلينا، أو تعودي إلينا، فاختاري أحدهما، فجميعنا يحتاج حضنك، ومستحيل أن تعطي الأم أمومتها ثم تتخلى، فرفقاً بصغارك يا أم، ورفقاً بأحبابك يا حبيبة، ورفقاً بالأثير يا أم الأثير.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى