الاثنين ٢٠ كانون الثاني (يناير) ٢٠٢٠

إن الشعر وجدان

ياسين فخرالدين

أراد يافع قول الشعر، لكنه يحاول ويحاول دون جدوى، المهم أنه كان يحس أن شيئا ما يملأ أحشاءه، وهذا الشيء طبعا هو الشعر، لكم صبر وصبر إلى أن قرر في يوم من الدهر أن يسأل أهل الاختصاص، وعارفي الشعر.

قصد التلميذ أستاذ العربية الذي طالما تحدث لتلاميذه عن الشعر وأهله، فكم تكلم عن أبي تمام والبحتري وأبي العلاء المعري والمتنبي، وكم تحدث أيضا عن حياة وشعر محمود سامي البارودي وأحمد شوقي وحافظ إباهيم ومعروف الرصافي ومحمد الحلوي ومحمد بن إبراهيم، وعن أصدقاء الرومانسية كأبي القاسم الشابي وجبران خليل جبران وإيليا أبي ماضي وميخائيل نعيمة، وعن رواد شعر التفعيلة أمثال محمود درويش وسميح القاسم وصلاح عبد الصبور وغيرهم.

عرف التلميذ من يسأل، سأل أستاذه عن غايته قائلا:"أستاذي، أريد أن أقول شعرا لكني عاجز عن ذلك، فماذا أفعل؟"، رد الأستاذ في لطف:"بني، سأقول لك ما قاله خلف الأحمر للكبير أبي نواس لما سأله السؤال نفسه، قال له اذهب واحفظ ألف بيت من الشعر، ولما فعل أبو نواس المطلوب عاد عند الأحمر وطمأنه أنه حفظ الأبيات الألف، فقال خلف لمريده اذهب وانسها"، رد التلميذ في لين:"أستاذي، ما كانت غاية الأحمر من ذلك كي يطلب من أبي نواس حفظ الشعر ونسيانه؟"، قال الأستاذ والبسمة عل محياه:"إن غاية الأحمر من ذلك أن تلميذه لما سيحفظ الشعر وينساه ستبقى الألفاظ في ذهنه، وبذاك يفوز بمعجم ذهني للكلمات، وإضافة إلى ذلك سيكتسب ثقافة موسوعية، وأنه أيضا سيتعرف أن الجامع المشترك في القصيدة الواحدة بين أبياتها الوزن، وأشياء كثيرة أخرى".

يسأل التلميذ أستاذه من جديد:"هل هذا كل شيء؟" يرد الأستاذ من جديد لا، عليك أيضا القراءة في الكتب، والاطلاع في على حياة العرب وأيامهم، كما عليك القراءة في الجرائد والصحف والمجلات والدوريات، والاطلاع على كل جديد في المعمور، وعليك بأحسن شيء في هذا كله ألا وهو الصبر، الصبر ثم الصبر لأن المتنبي قال:

بقـدر الكـد تكتسب المعالي
ومن طلب العلا سهر الليالي
ومن طلب العلا في غير كد
أضاع العمر في طلب المحال

وقد قال في موضع آخر:

على قدر أهل العزم تأتي العزائم
وتأتي على قـدر الكرام المكارم

إذن يا بني اصبر في طلب هاته الأشياء، وأنا متؤكد أنك سوف تحقق المراد، وخصوصا إذا سخرت شعرك لخدمة الأمة الإسلامية".

كلما قلته أستاذي منطقي للغاية، شكرا على هذا المدخل في قول الشعر، دون شك سأحفظ وأجد وأثابر في تحصيل ذلك إرضاء لنفسي، وخدمة لأمتي التي أحبها حبا لا يوصف، أليس المرء يولد من أجل وطنه؟

ذهب التلميذ فرحا، لقد أشفى شيئا من سقمه الدائم، عرف القليل مما يمكن أن يعرف في هذا الباب، ودون شك أن المستقبل ومصاحبة الكتب سوف تعلمه الكثير الكثير.

بدأ يقرأ ويقرأ، لقد أصبح الكتاب صديقه الوفي، ومحبوب نفسه البهي، وفي كل مرة يتغنى بهذا الشعر:

يا كـتـابـي يا كـتـابـي
أنت لي خير الصحاب
فـيك لي خـيـر أنـيـس
بالأحـاديــث العـــذاب
لـسـت تـحـبـونــيَ إلا
قــول حــق وصــواب
يا رفيقي حيث ما كنـــت
وفي كـل الرحـاب
فـيـك لي بستان زهر
يانـع غــض الشـباب
نـزهـة للـنـفـس فـيه
وارتـيــاح للمـصــاب
أتـمـلـى مـنــه دومـا
باللـذيــذ المـستـطـاب

حفظ من القرآن والحديث، وأدمن قراءة الشعر وحفظه، الموضوعات تذهب عقله، لقد قرأ حتى أحب الحياة، وقد حفظ حتى تنمى ذوقه، وأضحى تهز الكلمات وجدانه، وتحرك الألفاظ فؤاده، وتوقظ المعاني إحساسه حتى يردد:

ألا يا طــائـر الـفـردو س
إن الشـعـر وجـدان

رأى نفسه كثير الخطأ في اللغة، فقرر أن يزور معهدا لتدريس العلم في حيهم، قصد المعهد تحقيقا لغايته، قابل أحد مسؤولي المعهد، رحب المسؤول بطلبه، وصادف ذلك أن هذا المسؤول هو مدرس اللغة – من نحو وصرف وبلاغة وعروض- بالمعهد المقصود، قال المسؤول للتلميذ:" يا بني إن العرب تكلمت، ولم تخطئ عن طريق السجية، أما نحن علينا أن ندرس اللغة تجنبا للحن، ألم تسمع قول القائل:

النحو يصلح من لسان الألكن
والمرء تكرمه إذا لم يلحنِ
وإذا طـلبت من العـلوم أجلها
فأجلها نـفعا مقـيم الألـسن

إذا أردت يا بني تعلم الإنشاء أيا كان نوعه، شعرا أم نثرا، في حقل من الحقول المعرفية، فأنت محتاج إلى هذي الأشياء التي جمعها القائل في بيتين:

نحو وصرف، عروض ثم قافية
وبعــدها لـغـة قـرض وإنـشـاء
خـط بيـان معـانٍ مـعْ محـاضرة
والاشـتـقاق لها الآداب أسماء

عليك بهاته الأشياء، وفي بضع سنوات سيكون لك فضل كبير، واحدة واحدة، النهر قطرة قطرة يصبح كما تعرف، والسد ينبوع من هنا، وآخر من هناك، وهكذا يتجمع شبيها بالبحر، الصبرَ الصبرَ بني".

تأكد للتلميذ ما قاله له أستاذ اللغة العربية فيما سبق، أصبح يتردد على المعهد، بدأ ذهنه يتفتح في فهم علوم الآلة في العربية، بعدما كان يقرأها لوحده في كتب اللغة فلا يفهم إلا القليل، الآن استوعب القول" من كان شيخه كتابه، غلب خطأه صوابه"، وذلك ليس دحضا لقيمة الكتاب، ولكن قائلي هذا القول أرادوا التأكيد على قيمة الشيخ والأستاذ والمعلم.

في المعهد تعرف التلميذ شيئا جديدا عليه، رأى أن المعهد من آن لآن ينظم نشاطات فكرية ثقافية، يدعو إليها مفكرين من مختلف المشارب والحقول الفكرية، يحاضرون محاضرات تحت شعار فكري ما، راح ملتزما على حضور كل الأنشطة المنظمة من طرف المعهد العلمي، أكسبته هذه المحاضرات كثير إفادات، وكثير معارف ومكتسبات، قد وعى وتعلم أشياء عديدة.

لا تظن أن التلميذ توقف عند هذا الحد، لم يتوقف تفكيره عن طرْق باب كل ما من شأنه أن يقوي تجربته، ويغني مداركه، كان كلما سنحت له الفرصة يسافر للتجربة والتدبر في الكون، تعرف عادات وتقاليد كثيرة، والتقى الصالح والطالح، وكان يقول في هذا كلمات الشاعر:

إذا صاحـبـت قـوما أهـل ود
فكن لهمُ كذي الرحم الشفيق
ولا تأخــذ بــزلة كـــل قــوم
فتـبقى في الزمان بـلا رفـيق

زار الأماكن وساح بلاده، سافر ووجد عوضا عما وعمن فارقه، ولأول مرة يقول بيتا على وزن المتقارب، فيبدع قائلا:

تأمل تجد في الوجود سرورا
يزيـد الفـؤاد ضـياء ونورا

في بادئ الأمر لم ينتبه إلى ما قاله، فجأة بدأ يسترجع ما قاله بعد حين، وكأنه أحس أنه نظم شعرا، لما تحسس البيت من جديد ذهنيا طار من شدة الفرحة، وكم كانت فرحته مضاعفة لما تأكد أن بيته الشعري بيت جميل رائع يدعو إلى التأمل في الكون كي يرى المرء آيات الله في الآفاق.

واصل برنامجه ومشروعه الفكري، اطلاع في الكتب وبحث متواصل، اكتسب من خلال محاوراته لمن درسه، ومحاوراته للأسفار مبادئ وفيرة تسهل عليه الاستفادة أكثر وأكثر مما يقرأ، واصل الدرب حتى قال بيتين من الشعر آخرين على مجزوء الوافر:

هـو الفرقان يا عـرب
لـنا بـه بهـجة عـجـب
بـه كـل امـرءٍ يـرتـــا ح
لا تـدنـو لـه الريـب

حول هذا القول من بيتين بعدُ إلى قصيدة رائعة تحت عنوان "الفرقان"، كيف لا يقول قصيدة في أعظم كتاب في الوجود؟ كيف لا يقول قصيدة في القرآن وقد صاحب القرآن؟

أخيرا ارتاح قليلا، بدأ يقول الشعر فارتاح، بدأ المشروع الذي أراده فكرة، ولأن الفكرة أول المشروع بدأها حتى حقق الغاية، لكنه لم ينقطع عن أصحابه، واصل الاعتناء بأصحابه، كان يحبهم كثيرا، أصحابه لم يكونوا ينهرونه، إنه متأكد أنهم لن يفعلوا ما يؤلمه في يوم ما، لأنهم من ورق، فهو الموقن أن الكتاب أفضل صديق، والمتنبي علمه أن:

أحب مكان في الـدنى سرج سابح
وخـير جليـس فـي الزمان كـتـاب

أصبح التلميذ في سنوات من التحصيل شاعرا معروفا، تعرفه المرأة، ويعرفه الرجل، معروفا عند الصغير والكبير، تمكن من أن يدخل بشعره رفوف المكتبات، أصبح يُستدل بشعره الرائع كل امرئ رأى المناسبة مواتية للاستدلال بالشعر.

هكذا حقق التلميذ مجده، وعاد عند أستاذه الأول الذي أعطاه المنهج، الذي أعطاه اللوحة والريشة والأصباغ، لكن اللوحة – لأنها فائقة الروعة والجمال – رسمت واستغرقت سنوات وسنوات، وبإتمام اللوحة ما فرغ الصبي أو أنهى مشواره، استمر في رسم اللوحات - بلغة سليمة رائعة- لوحة بعد لوحة بعد أخرى.

ياسين فخرالدين

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى