الاثنين ٢٠ كانون الثاني (يناير) ٢٠٢٠

إن المعلم للعلياء يحملنا

ياسين فخرالدين

عاش نزار في مدينة فيحاء، في مدينة عُرفت بشساعتها بين خليلاتها من المدن، كم صال في المدينة –في صباه- وجال، وكم كان فيها سعيدا، كبُر فيها فرحا غريدا، وسبب فرحه الطفولة التي تهدي الفرح لكل صغير ابن أنثى، كم كان سليم الفكر أنيق العقل، يفكر تفكير الكبار رغم أنه من الصغار، يضرب أخماسا في أسداس، إذا ما رأيته رأيت طفلا، وإذا ما كلمته كلمت كهلا، علمته الأيام الكثير، علمته الحزم والجد، علمته السرور والفرح وترك الرزايا، لقد تعلم الكثير والكثير حتى صار أبو تمام قدوته في قوله:

لقد جربت هذا الدهر حتى
أفادتني التجارب والعناء

فعلا قد توالت على نزار الأيام حتى أفادته بالشيء الكثير، ونعم المرء الذي تعلم من الأيام، وطوبى لمن خبر الأعوام، ومرحى لمن وضع الأساس والأركان، وبعدها بدأ البنيان، وشيد صرحا عاليا جعله إنسانا.

كان نزار فيما كان كثير الشغب، يحب اللعب مثل أقرانه، وإلى جانب اللعب كان يحب العلم وأهله، كان من المتوسطين داخل الفصل، وكان من الجهابذة إذا تعلق الأمر بالفكر، كان كل من يقابله يدرك أنه ولد نجيب، وفتى لبيب.

ذات يوم قابل نزار صديقا له فقال الصديق لنزار:

 أنا أمقت العلم، لا فائدة منه، لا يفيد الإنسان في الحياة، لا يصنع العلم للمرء شيئا في الوجود.

 فقال نزار:لا تقل هذا يا صديقي، هذا يوحي أنك إنسان بدون فكر.

 لا أنا إنسان فكر.

تذكر نزار شيئا مما يحفظه في هذا الموضوع فقال:

 يا صديقي العلم يحيي البرايا، ويُهذب السجايا، ويجلب الاحترام والتحايا، ألم تسمع قول الله جل وعلا:هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟ ألم تسمع قول القائل:

والعلم يحيي أناسا في قبورهم
والجهل يلحق أحياء بأموات؟

يا صديقي، قد قال أمير الشعراء:

الناس صنفان: موتى في حياتهم
وآخرون ببطن الأرض أحياء

يا صديقي، من أحيى هؤلاء الناس؟ لقد أحياهم العلم، والجُهال أماتهم الجهل في حياتهم، يا أيها الصديق قد قال الناظم:

العلم يحيي قلوب الميتين كما
تحيى البلاد إذا ما مسها المطرُ
والعلم يجلو العمى عن قلب صاحبه
كـما يُـجـلي سـوادَ اللـيلـــة القـمـرُ

لقد انبهر الصديق للكلمات التي خرجت من فاه نزار، وقف صامتا، وقف مبهورا مسمرا في مكانه حائرا، لا يعرف ماذا يقول، أصبح لبه يجول.

 أكل هذا الخير يجلبه العلم؟

 كل هذا وأكثر، أنا لم أقل لك إلا القليل.

 العلم جميل، كيف أتعلم يا أخي وأنا صغير وذهني لا يقبل العلم؟

 العلم -صديقي- في الصغر كالنقش على الحجر، قال الشاعر:

تعلـم يا فتى والعـود رطب
وجسمك لـيـن والطبع قـابـــلْ
فحسبك يا فتى شرفا وعزا
سكوت الحاضرين وأنت قائلْ

عليك أخذ العلم من أهله، وأهله الشيوخ والعلماء، حاول وسترى كم سوف ينيرك وينير دربك.

 غيرت فكري كليا، كنت أمقت العلم، واليوم أصبحت أحبه، من اليوم أود أن أطرق باب الشيوخ والعلماء كي أطلب عنهم العلم.

 أحسنت، العلم سيجعلك امرأ آخر.

واصل نزار المشوار، كان من المتوسطين في الفصل ومازال كذلك، لازال حاضر البديهة مُتوقد الذكاء، كأنه هو الذي قيل في حقه بيت إيليا أبي ماضي:

وصفوك بالتقوى وقالوا جهبذ
عـلامـة ولقـد وجدتـك مـثـلما ..

مكن الذكاء المفرط نزارا من أن يُصبح مدرسا، بعدما حصل على الإجازة الأساسية في الحقوق تقدم لمبارات مراكز مهن التربية والتكوين ثم نجح، دخل مركز مهن التربية والتكوين بمكناس، بعد سنة تكوينية تخرج مدرسا للابتدائي، وعُين في إحدى القُرى النائية، لا ماء فيها -إلا السواقي- ولا كهرباء، لا مواصلات، لا ظروف تُحفز على العيش، تدمر أول أمره وسخط على الجميع، سخط على الدنيا وما فيها، سخط على الوظيفة وعلى الظروف المُزرية التي لم يكن يتخيلها مُزرية بهذا الحجم.

أدرك هذا الأريب خلل التعليم في منفاه، وعى الشاب الذكي خطورة الموقف، ولِمَ لمْ تتقدم البلاد إلى الأمام، علِم لِمَ البلاد في تخلف، مرض ومرض لكنه توقد للخروج من الأزمة، وفي يوم من الأيام صاح:

يا من يُحن إلى غد في يومه
قد بِعْت ما تدري بما لا تعلمُ

بعدما تعرف نزار على تلاميذه أدرك أنه يحمل رسالة، وعليه أداؤها في أتم وجه، وفي أبهى صورة، صاحبهم وعاشروه، صار لهم خير مدرس، وأصبحوا له خير أنيس، يجدهم في القسم، ويلقاهم في السوق، يجدهم في الحقول، ويجدهم في السواقي، ويجدهم أثناء النزهة، ويلقاهم وقت العمل وأثناء الفراغ.

وجد الصديق الفراغ الكبير، وضيع منه الكثير، خمن وخمن حتى أدرك خطأه الفادح، أدرك أن المولى أنعم عليه بنعمة عليه استغلالها، نعمة الفراغ الكبير الذي عليه أن يبدأ استغلاله، لكن فيم يستغله؟ عليه استغلاله في القراءة، وفي المُطالعة، لكن فيمَ يقرأ ويطالع؟ عليه أن يقرأ ويُطالع في كل شيء حتى يُصبح موسوعي الفكر، وهو الحازم المُتيقد الفطِن.

عاشر نزار القراءة، أصبح يقرأ بلهف وجنون، كان يقرأ الكتاب بسرعة، ويُسجل ما بدا له مهما في دفتر مخصص لتسجيل المهم مما قرأه، كان يقرأ الكتاب تلو الآخر، والمجلة تلو المجلة، والجريدة تلو الصحيفة، يُتابع الأخبار حتى يلتقط سمعه كل ما يجري في المعمور، أمضى سنوات هكذا على حاله، وفي يوم من الأيام طرأت عليه فكرة أن يبدأ بحفظ النصوص أيا كانت، قرآنا أو حديثا أو قصيدا أو مثلا سائرا وغيرها، وذلك غاية أن يكتسب محفوظا مهما، وأن يكتسب معجما يُمكنه من التبحر في العلم، وأمكنه ما تمنى، لأن كل ما يتمناه المرء يُدركه.

في يوم من الأيام أتى تلميذ عند نزار فدار بينهما ما دار في هذا الحوار الطريف:

 أستاذي، لِمَ أنت أستاذ مميز؟

 أنا لا أرى نفسي مميزا على الإطلاق.

 لا، أستاذي أنت موسوعي الفكر كلما أتى موضوع إلا أفدتنا، ما السبب وراء هذا النبوغ؟

 لا تسمي معرفتي المتواضعة نبوغا، إن كل ما أعرف بسيط للغاية، وكل ما أفيدكم به أتاني نتيجة قراءاتي الكثيرة في شتى العلوم والمجالات، وإذا أردت أن تصل وتترقى عليك بكثرة القراءة، ستمر عليك أعوام على هذا الحال، فاصبر نفسك في هذا الوضع، وداومْ عليه، وسوف تفوز فوزا عظيما.

 الآن علمتُ سبب تفوُقك، علمتُ أنك بالقراءة فُزت، ولم تفز هكذا، لأن حاصد الزرع سبق أن وضع الحَب، وأن صاحب المَجْد له كَعْب، وأرى نفسي الذهاب على نهجك لنيل العُلا.

 يُشرفني أن يكون طموح تلامذتي كبيرا، أنا أتمنى مثل كل مُدرس أن يكون تلاميذي فوقي في المعرفة بكثير، أريدُ أن أطمئن عليهم، أريدهم أن يقطعوا الوادي دون بلل، وأود أن يرتقوا عملا دون كلل، وأن يتمسكوا –في حياتهم- بالأمل.

بعد هذا الحوار ذهب المُدرس لقضاء بعض أشيائه واتجه نحو المنزل، إنه لا يُضيع الدقائق، يراوح يومه بين حفظ وقراءة، ومُشاهدة برامج مهمة مكنته هي الأخرى من نيل كثير من الأشياء.

شاهد نزار على التلفاز برنامجا حول التربية والتعليم، ويتعلق الأمر بضعف التعليم، هذا الضعف الذي يعترف به الجميع، ولاحظ أن كل واحد من المدعويين لهذه الحلقة من البرنامج يدلي بدلوه، منهم من يرى أن ضعف القطاع متعلق بضعف الأطر التربوية، ومنهم من يرى أنه متعلق بالعولمة التي ضررها أكبر من نفعها، والتي أمرضت العالم، والتي جعلت القيم تجد صداما حادا يجعلها لا تلق أرضية في توظيفها وتطبيقها على مستوى الواقع.

كان المدرس يرى أن إصلاح هذا الضعف متعلق بالأساس في إرادة سياسية من طرف الجميع، آباءً وأطرا ودولة، ويرى أن الأمر أيضا يتعلق بالمال لا بالتصاميم والمُخططات التي أرقت البلاد، يتعلق بمضاعفة الجهود، وذلك عن طريق الزيادة في عدد مؤسسات التعليم، والزيادة في حجم الأطر والرفع من تعويضاتها وسد الخصاص المُهول، وإقامة شراكات ما بين الوزارة الوصية وباقي الوزارات الأخرى، وأهم شيء الإرادة الإرادة والعزيمة العزيمة، لأن الأمر يخص قطاعا حساسا إذا صلُح صلحت باقي القطاعات.

بعد البرنامج الذي لم يُقنع حضوره الأستاذ حول القضايا التي أثيرت نام نومة هنيئة، فهو محب للنوم، أصبح يحبه ويهواه في البادية، أعطته البادية السكينة والهناء، وجعلته في راحة وكبرياء.

حاور المدرس مدرسا آخر معه في نفس المؤسسة، لكن هذي المرة حول مشاكل المدرسين، وجرى بينهما ما يلي من حوار:

 صاحبي نزار، المدرس يعاني الويلات والويلات.

 ماذا تقصد خليلي؟

 عند تعيين أو انتقال يجد الإنسان نفسه أمام واقع بدون مواصلات، ومن أبسط التجهيزات، فالمؤسسات من دون ماء، ومن دون كهرباء، وأغلبها بجدران تقادم عليها العهد، وربما يعود أغلبها إلى عهد عاد أو ثمود.

 معك حق، الواقع هكذا، وعلى المرء أن يُكابد ويصبر.

 كيف يصبر؟ ألم تسمع بقول القائل:

قـم للمـعـلـم أعــطــه مـنـديلا
يـبـكي المعلم بكـرة وأصيلا
ما عـادت الدنـيـا تقـر بفضله
وتـبـدلــت أحــواله تـبـديـــلا
لم يرفـعـــوه كما يليـق بشأنه
لـم يحفـظـوه وأهـمـلـوه دليلا
وأخـو الجهالة أكرموه لمــاله
ويـرَوْن قبحـا إن أتـاه جميـلا
ما عاد أهل العلم سادة قومهم
بـل سـادنا من أتقنوا التجهيلا
أنا تكون لنا الصـدارة أمـتـي
والجهـل يكتم صرخة وعويلا؟

 كم أضحكتني صاحبي، أراك متشائما.

 لا، أنا غير متشائم، لكن الواقع هكذا يشير إلى هذا.

 أنا لا أقول لك أني لا أريد أن يكون الوضع أحسن مما هو عليه، ولكن على الإنسان أن يتسلح بالصبر الصبر، فالواقع كما أكدت هكذا، وعلى المُدرس أن يتمنى الأحسن، وفي الوقت نفسه ألا يتدمر، وأن يبحث عن الحلول كي يتعايش مع الوضع.

 هل يتعايش مع الذل؟

 ليس هناك أي ذل، وإنما هناك واقع مرير علينا أن نتعايش معه كي لا نمرض.

 المهم عندي هو أن الأستاذ يدرس خمسين تلميذا، وفي بعض الأحيان أكثر، فما هي القيم التي سيُدرسها والبيداغوجيا التي سيُطبقها؟ قال الشاعر:

شوقي يقول وما درى بمصيبتي
قـم للـمـعـلم وفــه التـبـجــــيــــلا
اقـعـــد فـديتك هل يكون مبجـلا
مــن كـان للنــشء الصغير خليلا
ويـكـاد يفـلـقـني الأميـر بـقـوله
كـــاد الـمـعــلــم أن يكـون رسولا

 لا تستشهد إلا بالكلام الذي يحطم النفوس، القيم التي يوصلها المدرس إلى عشرين تلميذا يُوصلها إلى الأربعين، ولا تفهم من كلامي أني أنا أيضا لا أفضل أن يكون لدي في القسم عشرون تلميذا.

 لم تقنعني، كلما في التعليم مريض للغاية، المدرس يعمل دون كرامة ودون شرف.

 المدرس أصل كل شرف وعلياء، قال القائل:

إن الـــمـعـلـم للـعـلـيـاء يـحـمـلـــنـا
وفـي يـديـــه غــراس العــلـم والأدب
هو الشجاع وفي روض الهدى علم
نـور يـضيء بـلا زيـــت ولا لــهــب
فالله أعــطـــاه نـــــورا مــن هدايته
مشكـاته مـن سـنـا الأقـــلام والكـتــب
يعـطـي الكـثـيـر ولا يـرجو له ثمنا
فـهـو المـحـب وغــيــث دونما سحبِ

عليك بالتفاؤل وترك التشاؤم لأهله، لأنك أهل للتفاؤل ولست أهلا للتدمر من الواقع، فإنك لن تزيد الطين إلا بلة بهذه الشكوى، اصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، إذا لم تصبر عشت عيشة أليمة، واكتسبت نفسية حزينة، وإلى حوار آخر صديقي لعلي أجدك غيرت شيئا من هذه النفسية المنكسرة الحاقدة المحطمة.

ياسين فخرالدين

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى