الأحد ٨ آذار (مارس) ٢٠٢٠

ابتسمي يا قدس... نبيه القاسم

صفا فرحات

نبيه القاسم، هذه القامة الشّامخة الرّاصدة لحركتنا الأدبيّة، في أكثر من أربعين عملا، بين النّقد والإبداع، سأحاول اختصارها في مداخلة لا تتجاوز بضع دقائق، فكيف لي أن أوفّق في هذا؟

صعوبة ووعورة في التّناول، لكنّ الأمر وهو يدور في فلك القاسم حريّ بالمحاولة.

سأخوض غمار المداخلة في حديثي عن الدّكتور نبيه القاسم، من زاويتين، تتعلّق الأولى بإنتاجه القصصيّ، وتتمحور الثّانية في ما قدّمه على مدار سنوات طويلة، من نقد أدبيّ غطّى مجال الإبداع الفلسطينيّ، في الدّاخل وامتدّ على مساحة الوطن العربيّ ليتجاوزه إلى بعض الأعمال العالميّة.

وفي متابعة ما أنتجه الدّكتور نبيه القاسم من خلق فنيّ أدبيّ ، تطالعنا مجموعته القصصيّة: آه يا زمن، وقد طبعها عام ألف وتسعمائة وسبعة وتسعين، ومجموعته الثّانية، وهي الأقدم، وعنونها ب: ابتسمي يا قدس، وتمّت طباعتها عام ألف وتسعمائة وثمانية وسبعين.

وفي هذه المجموعة الثّانية، استوقفتني القصّة الّتي كانت عنوانا لها.

وهي تروي حكاية " بشرى" الفتاة الفلسطينيّة، الّتي قامت بعمليّة انتحاريّة، ضدّ الغريب في حيّ " الجبشة"، انتقاما لوالدها الّذي قتله قبل خمس سنوات.

هذه هي الحكاية المركزيّة، ولتجلية جوانبها، أنارها الكاتب بحكاية داعمة، تروي حبّه لبشرى وما حملته من علاقة، تنشد المغامرة بداية، إلى تعلّق قهريّ وصل حدّ الجنون.

هذه العلاقة الجامعة بين بشرى والرّاوي، لملمت تشعثّها بعد حرب حزيران، فأثمرت لقاء بين ما يّسمّى بعرب الدّاخل وبين الأهل في الضِّفّة، توحّدهم قدس حزينة، يأمل لها الكاتب أن تبتسم ولا يكون هذا إلاّ بقهر اليد الغريبة الّتي تحاول بقوّة بطشها أن تمزّق هذا اللّقاء.

وفي التّقابل بين الحكايتين، تطفو المواقف المتباينة بينه وبينها، أي بين الدّاخل والخارج وهي اختلافات من منطلق منظور الرّؤية، فهو لا يتقبّل فكرة موتها، وهو منبثق من تعلّق فطريّ محموم بالحبيبة" بشرى" الّتي تبشّر بالقادم الأفضل، وتتماهى بكليّتها مع القدس المعشوقة، عطفا على التّوحّد بين الحبيبة وبين الوطن الأم.

وهي بالمقابل، تختار طريق المقاومة، علما أنّه ارتدى بداية، ثوب الانتقام البدائيّ، لكنّه تسامى في ما بعد إلى مبدأ مسلكيّ يكتنف القضيّة كلّها.

وتبريرها في اختيارها هذا المسلك، يتّكئ على أنّ الموت من أجل الهدف الأسمى، لا يمكن أن يكون النّهاية، بل هو انتقال إلى الخلود، وقد تتغيّر الأسماء وتتغيّر الصّورة: وماذا سيتغيّر إذا كان اسمي بشرى أو عائشة أو رجاء أو حتّى منتهى؟ (63).

ويعلو من باطن الإدراك بعض من المواقف النّقديّة، كتلك الّتي وجّهت إلى المتقاعسين المتخاذلين الّذين بهرتهم النّقود البرّاقة، أو كالّتي وجّهت إلى أولئك الّذين اكتفوا بالتّعليقات المحايدة الّتي تدلّ على خوف قائليها من :" الخطر المتربّصّ بكلّ واحد منّا"(47).

كما تطفو إلى السّطح قضيّة من خان الوطن، وكيف اغتُصبت الأمّ مرّتين، وعندما استيقظت من غيبوبتها، وأدركت واقعها الجديد، انتحرت، والأمّ هي الوطن، وهي القضيّة، وبانتحارها أصبحت بشرى هي البديل، فهي الجزء الثّاني من الوطن، وهي البيت الجميل الرّائع الّذي حلمت به طوال سنوات غربتي العشرين(60).

فهو كان اسما بلا عنوان، وكان جسدا بلا روح، يبحث عن ذاته، ويحاول التّعرّف إليها، وعندما وصل إلى ما بحث عنه بعد عشرين عاما، حّرم من بشرى بقتلها وهدم بيتها، وهكذا تغلق الدّائرة، بقتل أمّه مرّتين في الخارج والدّاخل، وهو ما كان يخشاه بداية وأدّى به إلى ذاك التّعلّق الفطريّ المحموم الرّافض لفكرة تغييب بشرى الحبيبة الوطن.

وفي الانعطاف نحو فنيّة القصّة، نلمح اتّكاء الكاتب على تقنيّة تغيير حجم الخطّ في ثلاث محطّات:

الأولى كانت عندما علم الرّاوي بهدم بيت حبيبته بعد استشهادها، فتلاطمت الأفكار في رأسه، وتزاحمت المشاعر الضّاغطة الخانقة، فكفر بكلّ شيء، وهام على وجهه في شارع صلاح الدّين وأراد أن يبصق في وجهه، ورغب في إزالة أسماء الأنبياء فقد أصبح يتيما مجدّدا وأصبح لا شيء.

هي المشاعر في حدّة عنفوانها وانهزامها أمام الواقع الّذي غيّب بطولات صلاح الدّين، وهمّش دور الأنبياء فجاءت نقمته معبّرة عن انكساره وضعفه أمام القوّة العاتية.

والثّانية جاءت لإثبات مصداقيّة وجوده وحبيبته في أعلى السّور، وكلّ التّفهاء والغرباء من تحتهما وهما في الأعلى يعانقان التّأريخ في نظرة تحدّ صارخة. والتّغيير هنا، كما في المرّة السّابقة، مقصود، لقطع الّتسلسل السّرديّ للأحداث وللإشارة إلى تدخّلات الكاتب المراوغة في تحدّ لنظرية موت المؤلّف، مقتفيا تقنيّات الرّواية الجديدة.

أمّا الثّالثة فقد جاءت في مدار حديثه عن اغتصاب الأمّ وانتحارها، وكيف أنّه وجد البديل عنها في بشرى، من خلال تقنيّة التّداعي الّتي أشارت إلى نقاط التّقاطع والتّلاقي بين فقد الأمّ واكتشافها مجدّدا في شخص "بشرى".

لم يكن تغيير الخطّ في هذه القصّة اللّافت الوحيد، فقد جاء السّرد متمرّدا هو الآخر على التّقنيّات الكلاسيكيّة المعروفة، من خلال إدخالنا إلى مشهد النّهاية منذ البداية، ومن خلال تقنيّة التّداعي والارتداد، بدأنا في كشف عوالم القصّة.

هذه التّقنيّة المعتمدة على تفكّك الزّمن، وتفتيته وعلى القفزات في الأمكنة، تدلّ دون أدنى شكّ على توظيفها لتصبح جزءا من مضمون العمل، في إشارة واضحة إلى التّفاعل الجدليّ بين الأسلوب والرّؤية، وهذا بقصديّة تعرية الحقائق الموحية والدّالّة على تفكّك المجتمع الفلسطينيّ أمام المغريات، إلّا من بعض بارقات أمل تشعّ بين ظهرانيه.

والأمل صفة ملازمة للكاتب الفلسطينيّ، وبخاصّة لكتّاب الدّاخل، وأقتبس من أقوال نبيه القاسم، في تعليقه على قصّة محمّد نفّاع: حميد، أحمد وآخرون:

"لا ينفرد محمّد نفّاع في إبراز هذا الموقف التّفاؤليّ، وإنّما هذا مزيّة كلّ أدبنا المحليّ الجيّد، شعرا كان أو نثرا... وفي هذا الموقف الشّجاع، يمتاز على أدبنا خارج الحدود، فنحن رغم النّار الكاوية المحرقة والمحيطة من كلّ الجوانب، حافظنا على البسمة، واحتضنّا الأمل، وأبعدنا اليأس والتّشاؤم"

وكي يبقى المؤلّف في " ابتسمي يا قدس، ملتزما بمنهجيّة التّفاؤل، سمح لقصّته التّمدّد والانزلاق بعد اكتمال دائرتها، ليضيف ما كان بالإمكان حذفه وهو الخبر الّذي جاء في جريدة الصّباح:" إنّ الغريب قرّر بناء سور مرتفع حول داره الكبيرة، وذلك أنّه رأى في منامه مخلوقا مخيفا يتسلّل إليه في مخدعه برفقة هرّة قصد اغتياله، إنّ أهالي" الجبشة" قابلوا الخبر بالابتسامات العريضة".

لا شكّ أنّ هذه القصّة قابلة لوجهات نظر نقديّة مغايرة، تتناول جوانب أخرى هامّة، لم أقاربها نقديّا في عجالتي هذه.

وأمّا الزّاوية الأخرى في حديثي عن الدّكتور نبيه القاسم، فهي حول آرائه النّقديّة في الإنتاج الأدبيّ، شعرا كان أم نثرا، يمتدّ على رقعة العالم العربيّ والعالميّ.

وهذا الجانب هو الأهمّ في مساهمات القاسم، وللمفارقة، سأوجزه بما قلّ ودلّ لكثرة ما كتب حوله، وهذا من خلال ما قاله هو نفسه، في معرض الحديث عن أسلوبه النّقديّ فيقول: " أنا أدّعي أنّني أكتب النّقد المنهجيّ، ولكن مفهوم المنهجيّة يتحدّد في انطلاقي من رؤية سياسيّة وفكريّة واجتماعيّة، تعتمد الفكر الاشتراكيّ العلميّ، وهذه الرّؤية، أخضعها لوضعنا كأقليّة قوميّة تواجه سياسة مبرمجة لسحق هويّتنا القوميّة ودفن كلّ أمل وطموح لنا في المستقبل، ودفعنا بأسلوب هادئ وتدريجيّ لكره وجودنا وترك ديارنا وهجر وطننا"

لكنّه لا يغفل جماليّة الإبداع فيدعو الكتّاب إلى الالتزام بها وهذا من خلال توجيه نصيحة إليهم بقوله: " لا يكفي أن يطرح لي الكاتب شعاراته الّتي أقبلها، وإنّما كيف يقدّمها لي وبأيّ ثوب جماليّ وإلى أيّ مدى ينجح في ذلك".

حقّا ومن خلال الاطّلاع على دراسات القاسم النّقديّة، يجبهنا المنهج النّقديّ بكلّ جلاله وعظمته، بتغليب المنهج الواقعيّ الاشتراكيّ في حتميته الماديّة والتّمحور حول الفرديّة الإيجابيّة المتفائلة الّتي تتكامل في ظلّ العمل الجماعيّ لإنتاج مجتمع أفضل، في غمرة الانتصار على الطّبيعة بكلّ معوّقاتها.

علما أنّه لا يتغافل عن التّلميح والإشارة إلى التّقنيّات الفنيّة في بعض الأعمال الأدبيّة، ولو على استحياء.

دمت صديقي الدّكتور نبيه القاسم، ودام عطاؤك لتبقى الرّافعة في تقويم وتصويب وتحريك الإبداعات العربيّة الفلسطينيّة في الدّاخل والخارج.

(ألقيت الكلمة في أمسية الاحتفاء بالناقد د. نبيه القاسم في نادي حيفا الثقافي يوم 27.02.2020)

صفا فرحات

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى