«اصعد إلى عليائكَ فيّ» للشاعرة فاطمة نزال
الفرق بين صوت المرأة وصوت الرجل لا يقتصر على الشعر وحسب، بل أيضا في أنواع الأدب الأخرى، كما هو في الواقع، فلكلّ منهما مزاياه، ألفاظه، مصطلحاته، حتى في الغناء والفنون نجد التباين بينهما، في هذا الديوان نجد صوت الأنثى واضحاً وجلياً، فالعنوان وحده يشير إلى أن هناك صوت أنثى تتكلم؛ فعل الأمر "اصعد" يشير إلى حاجة/ رغبة الأنثى للذكر/ للرجل، ونجد عبارة "فيّ" تحمل معنى الاحتواء، الدخول، الضم، الانعزال عن الآخرين، فمعنى العنوان: "اصعد أيها الرجل إلى مجدك الكامن فيّ أنا".
هناك العديد من الألفاظ والكلمات والعبارة والفقرات تؤكد أن المتحدثة أنثى، وليست ذكراً، امرأة، وليست رجلا، تقول الشاعرة في قصيدة "ضياع":
ورحلتَ دون سلامواكتفيت بالصمت رسولاكيف لي أن أغتال ذاكرتيحتى لا تحبل بألم جديدوحتى لا تلد سرابا آخر؟ (ص79)
ففعل "تحبل وتلد" ما كانا ليكونا بهذه الصيغة لو أن المتحدث ذكر، ولأنها أنثى جاءت بهذا الشكل. تقول في قصيدة "فيء النرجس":
..غابة عذراء لم تمسها سوى قبل الندى
وظل السحاب (ص18)
نجد لفظ "عذراء" الذي تفاخر به الأنثى وتغري به الرجل. وفي قصيدة "وفاء" كان صوت الأنثى كاملا وشاملا:
تستأنس الأرض بساكنهافتجري له لباء صدرهاجداولا تسقيهفإن هجرجف منبعهاوتصحرتحتى لا تهبمن لا يستحقوصالهاإلا غربة وتيه (ص36)
فعل "تستأنس" يشير إلى الأنثى، وكلمة "صدرها" كذلك، و"منبعها، تصحرت، تهب، وصالها، غربة" كلها مؤنثة، ونجد في القصيدة فعل "الخصب والنماء/ الحياة" لا يكون إلا بوجود عنصري الحياة، الذكر والأنثى، من هنا وجدنا فعل "الهجر" يواكبه التصحر والجفاف والتيه".
ونجد صوت الأنثى واضحا في المقاطع التي جاءت في نهاية الديوان "لا مستور بين طيات الكلام". فالشاعر كانت في هذه المقاطع تتحدث عن رغبتها/ حاجتها/ غريزتها كأنثى، وكأنها بهذه المقاطع كانت تعد لثورة نسائية على الواقع، فأول المقاطع جاء يؤكد فعل التمرد والخروج عن المألوف العادي والانتقال إلى ما هو أكثر وأهم ممن هو موجود/ معمول به:
سأمتطي صهوة فكرة جامحةأروضها بطلاوة الحرفأصوغ منها نصايوقظ البنات الغافيات في خدر الخياليهرعن على شرفاتهراقصات على المعنىمنتشياتوسابحات في ملكوت من أثير (ص85)
بعد هذه الفاتحة سنجد هناك مقاطع تتحاوز صوت الأنثى الشرقي الخجول، وتقدمنا من حاجاتها/ رغباتها/ همومها، الشاعرة تعتبر نفسها كالرجل، حاملة قضية، وهل هناك قضية أهم من التحرر، تحرير الذات قبل التحرر من الآخر، إن كان المجتمع أم الاحتلال، فهي تتمرد على صورتها الشرقية الخجولة وتتكلم عنما تحمله من رغبات بشكل أدبي راق، يوصل الفكرة بشكل فني مثير، فهي تتقن فن الإثارة والإغواء، من هنا سنجدهما في هذه المقاطع، وإن كانا غير صريحين، فالإشارة والتورية تكون جاذبيتها أكبر وأهم من السفور الكامل:
كيف للشغف أن يصل إلى منتهاهفأدرك بلحظة تعر مع ذاتي أنني أهبك كليطواعية ناسكة لا تطمع إلا بالرضا من إلهيسكن عينيك؟ (ص88)
ألفاظ "شغف، منتهاه، تعر، أهبك، كلي، طواعية، بالرضا، يسكن" كلها تبين حاجة الأنثى ورغباتها للرجل، ناهيك عن المضمون الذي يتحدث عما تريده من الرجل، فهنا تجتمع الألفاظ والفكرة والمعنى لتخدم جميعها فكرة الثورة التي دعت إليها الشاعرة في البداية، فهي تحدثنا عن ذاتها بطريقتها الخاصة.
كما قلنا المرأة تجيد فن الغواية، فغوايتها لا تأتي بشكل فج منفر، لكن بشكل مؤثر، حتى لو كانت متوارية خلف الستار، فهي مؤثرة وفاعلة فينا نحن الرجال:
موجع هذا الشوقوبيتك على قيد خطوةطرقت دقات قلبي بابكوعادت إلى خيبتها أصابعي (ص89)
كلام جميل معبر عما تحمله الأنثى من مشاعر حساسة تجاه الرجل، فهي ـ بطبيعتها خجولة ـ لكنها توصل الفكرة:
تلك الشهقةالتي لفحت أذن الشجرةوشوشت خد أغصانهاأشعلت الصيف في الحديقةوأطفأت بشتاء دافئ... (ص90)
كل الأفعال فيما سبق تتعلق بالأنثى، "لفحت، وشوشت، أشعلت، وأطفأت" وتجعل المتلقي يتأثر بها، ففعل التأنيث له وقعه على الرجل. وهناك مقاطع تتجاوز هذا الشكل من التقديم، وتقدمنا أكثر من حاجتها ورغباتها:
لا مستور بين طيات الكلامأبقر بطن السطرودع دمه يسيل على المجاز (ص96)
من أكثر المقاطع ثورية وتمرد، فهو يدعو إلى فعل محرّم، لكنه حاجة أساسية بالنسبة للمرأة.
اعتقد أن الشاعرة في هذه المقاطع استخدمت التدرج في تقديمها للفكرة التي تريدها، فكرة الثورة والتمرد على صورة المرأة الشرقية، من هنا، نجدها في كل مقطع تتجاوز السابق، وتتقدم أكثر نحو نضوج ثورتها/ فكرتها/ ما تريد طرحه، هذا ما كان في هذا المقطع:
دنوت حتى لامست روحيسكبت كلك فيّفأينعت سنابلهاآن الحصادوملأت خزائنيللسنين العجاف (ص107)
إيحاء بالعلاقة الجسدية بين الرجل والمرأة، لكنه إيحاء جاء بصوت المرأة وليس الرجل، لهذا سيكون له تأثير مضاعف على المتلقي، إن كان رجلا أم امرأة.
امتداد روحك فيّوآدمنسل منكِناجيهفسعى إليّفهل غويت أن أغويت (ص111)
تتقدم الشاعرة أكثر في طرحها فتقول :
كل ما أعيهأنني أخلد إلى حلميأجده متوسداً ذراعكفإن صحوتتلفحك أنفاس عطريابتسموالعق ما علق على شفتيكمن شهد العناق (ص 118)
قد يكون هذا المقطع من أكثر المقاطع وضوحا بالتصريح، عما تريده المرأة، لكنه أيضا يحمل إيحاء مثيرا وفعالا، فهي تتعمد ألّا تكشف رغباتها فتبدو منفرة لنا، لهذا تتعمد هذا التستر المثير، التستر الذي يحفز المشاعر والرغبة أكثر. كما نجد في هذا المقطع:
وأعلمأن شغف البداياتيحملنا على أثير ساخنفنحلق بخفة ريشةوعندما يبرد في الأعالينسقط كحجر... (ص119)
إذن الشاعرة قامت بثورتها كما أرادت، وتحدثت عما تريده بشكل فاعل ومؤثر، ففكرتها وصلت، لكن هل تكتفي الشاعرة بهذه الثورة أم ستعمل على إحداث تخلخل/ شك/ تصدع في فكرتنا ـ نحن الرجال ـ عن قدرتنا على غواية النساء؟
الشاعرة تقلب فكرة قصة النبي يوسف وما تحمله من إغوائه لامرأة العزيز بحيث نجدها تتمرد على ما جاء في هذه القصة، فنجدها بشكل مغاير:
ما أنا بامرأة العزيزولا أنت بيوسفوما إغواء حرفيقد قميص كلماتكفإن استبقت الباب فهو مشرّعلكن لا ترجو إيابا لقلبأوصدتُه بوجه الريحكي لا تثرثربابتهالاتكأغلقتُ سمعيوالجوارح كلهاولست راغبةبوصل قطعته بانهزامك (ص37 و28)
أعتقد أن ذروة الثورة تكمن في هذه القصيدة، فهي ترفض فكرة الركض خلف الرجل/ يوسف، وتدعو إلى اغتنام الفرصة التي أتيحت، فلا مجال لتكرارها في المستقبل، فهي تأتي مرة واحدة، إن اغتنمها كانت له، وإن تركها كانت عليه.
وتعيدنا الشاعرة إلى التاريخ، إلى زمن الأسطورة، وتقربنا من القرآن الكريم أيضا:
يا عناتأعيديني إلى سيرتي الأولىأنثريني أماميلملمينيوفي ذاتي دثرينيلا غيث "إنكي"في زمن كهذامن قحطيقيني" ص(114)
فالشاعرة تريد أن تأخذ مكانتها في المجتمع كما الربة الكنعانية "عنات" أخت الإله "بعل" وأكدت هذه الدعوة من خلال التناص مع الآية القرآنية من سورة طه" التي جاء فيها "قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَىٰ"، فهنا الآية تخدم الفكرة التي طرحتها الشاعرة، وكأنها بهذا التناص تريد أن تجعل دعوتها ـ أخذ مكانتها الاجتماعية كاملة ـ دعوة مقدسة، دعوة من الله، من التاريخ، من التراث، من الأسطورة، فهي تجمع كل العناصر لتضفي شرعية وقوة لما تريده، وعندما جاء استحضار الإله "إنكي" رب المياه العذبة وإله الحكمة عند السومريين، أرادت بذلك أن توغلنا في التاريخ لكي تدفعنا بقوة إلى الأمام، إلى فكرتها، من ضرورة أن تأخذ مجدها السليب.
وللأم مكانة خاصة عند كلّ منا، فالشاعرة تتحدث عنها في أكثر من قصيدة كما هو الحال في قصيدة "آلهة" التي تبدأها بهذا المقطع:
حين كانت أمي ترتق الوقت بخيط صبرها
وتهيل على الوجع تراب قلبها (ص30)
فعلى الرغم من أن هذه القصيدة تتحدث عن الأم وعن أعمالها، إلا أنها تخصها بقصيدة تحدثنا عن مشاعرها، وعن علاقتها الروحية بأمها، وكأن الشاعرة ما زالت تلك الطفلة التي تحن إلى طفولتها وإلى لمسة أمها أيضا، هذا ما جاء في قصيدة "دفء":
تمر يمينك على جبيني المحمومتضعين رأسي على حجركتقرئين المعوذتينوبعض التراتيلفي يدك الأخرى رشة الملحتنثرينها على جمر الكانون وتشهقين ثلاثا..."ملحة بعين الي شافك وما صلى على النبي" (ص33)
الحنين للأم، الحنين للماضي وما فيه من بساطة، في التفكير، وفي أخذ مسببات الأحداث، والبساطة في علاج المشاكل، بعيدا عن التعقيد، كل هذا يخدم فكرة الأم البسيطة التي تتعامل بسلاسة وسهولة، وعندما أسمعتنا صوتها في المقطع الأخير كانت ترينا ردة فعل الأم على من ألحق الضرر بابنتها، فهي لا تريد له الموت أو الشر، بل فقط أن يتعلم من أخطائه، وعليه ألّا يعود هذا الخطأ مرة أخرى، فالملحة غير مضرة/ مؤذية، لكنها تؤلم بعض الشيء.
الديوان من منشورات مكتبة كل شيء، حيفا، الطبعة الأولى 2017.