الأحد ٨ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٩
بقلم رامز محيي الدين علي

الأديبُ والفيلسوفُ العالميُّ: جبران خليل جبران

(في ذكرى ولادته (السّادس من يناير عام 1883 م)

كلّما تأمّلت صورتَك على غلافِ كتابك، تذكّرتُ تاريخَ ميلادك وصفحاتٍ من حياتك، ونسيت أوراقَ أبحاثي مبعثرةً جانباً؛ وغفلتُ عن مصادري ومراجِعي وكتاباتِي متناثرةً على منضدتِي مثل أوراقِ الخريفِ، ورأيتنُي حائراً مثلك، لا أدرِي ماذا أقرأ، ولا أعرفُ ماذا أكتبُ، وتظلُّ الكلماتُ تحاصرُني، ويبقى خيالُك يأسرُني، وتقودُني فلسفتُك إلى فضاءاتِ العالم التّائهِ في متاهاتِ الفكر..

وسرعانَ ما تثورُ نفسِي، وتنتفضُ أفكاري من رقادِها حمماً بركانيّة، وتتطايرُ كلماتي بأجنحةِ الخيالِ بحثاً عن أعمقِ المعاني؛ للّحاقِ بمواكبِ تأمُّلاتِك، والإمساكِ بأطرافِ خيوط خيالاتِك، والالتحامِ بومضاتِ فكرك، والغوصِ في بحارِك وأنهارك التي تفيضُ فلسفةً ورؤىً ووجداناً وإنسانيّةً ونبوءاتٍ تتجاوز حدودَ زمانِك ومكانك وعالمِك الذي وضعكَ بعد مخاضٍ عسير؛ وكأنّك مولودٌ قبل أن تُبصرَ عيناك شعاعَ نورِ الحياة، وقبل أن ينبضَ فؤادُك بالحياةِ وتنسابَ أنفاسُها في كيانِك..

حينما احتضنَتْنا الطّفولةُ في مهدِها صغاراً، كنّا نلهُو بما تصنعُه أناملُنا البريئةُ من ألعابٍ ودمىً ممّا نجدُه في الأزقّةِ والشّوارعِ، وممّا تجودُ به الطّبيعةُ من عناصرَ وموادّ تسدُّ حاجاتِنا من الصّناعةِ الطُّفوليّة التي تركنُ إلى مخطّطاتِها في الخيالِ، وتنْبذُ أفكارَ شياطينِ التّجّارِ في التِّجارةِ والاحتكارِ، وتدنو من برامجِ إعادةِ التّدويرِ من أجلِ خلق بيئةٍ نظيفة، دون أن نُدركَ أنّنا سنصلُ يوماً إلى هذه المراحلِ المثقلَةِ بالجشعِ والطّمعِ والاستئثارِ التي أنهكتِ الحياةَ بكلّ مكوّناتِها، ودمّرتِ الطّبيعةَ بشتّى مظاهرِها البيئيّةِ الجميلة!

حينما كنّا صغاراً، كانت أحلامُنا تتوقُ إلى الشّبابِ فالرّجولة، كانت أفكارُنا ورؤانا تصْحو فتصحو للنُّهوضِ من مهدِ الطُّفولة؛ وكأنّنا قد ارتويْنا من ينابيعِها العذبةِ الصافية، وكأنّ أرواحَنا انتشَت من خمرةِ براءتِها، وغدت أجسادُنا في ثورةٍ للخلاصِ من أثوابِنا الصّغيرةِ النّاعمة كفروِ الأرانبِ، مللْنا من عشِّنا الطّفوليِّ الذي تحفُّ به العنايةُ الأسريّة من كلِّ جوانبِه، وتمرَّدْنا على القصصِ والحكاياتِ التي يّرويها لنا الكبارُ، وصرْنا نتشوَّفُ إلى الشّبابِ والرُّجولة بمحاكاتِهما في الأقوالِ والأفعال، ورحْنا نتأمّلُ وجوهَنا في المرآةِ لعلّنا نستبشِرُ خيراً بنُموِّ شُعيراتٍ في شتّى خرائطِ أجسادِنا، وذهبْنا نتطلّعُ إلى الخلاصِ من مقاعدِ الدِّراسةِ الخشبيّة والكتبِ الموشّاةِ بالرّسومِ والصّور، وفي ذواتِنا حنينٌ إلى المستقبلِ كيفما أطلَّ، وكيفما نكونُ فيه، المُهمُّ أن نقفزَ فوق حواجزِ الطّفولة، وأن نتسلَّقَ حيطانَ الشّباب، وأن نسعدَ بنشوةِ هدهدةِ الشّاربين وجلجلةِ نغماتِ الصّوتِ المتدفِّق من نكهةِ البلوغِ، وفي خيالِنا قصصٌ غراميّةٌ تتأجَّجُ، كلّما لمحْنا بلبلاً يغرّدُ أو أزهاراً تُهدهدُها نسماتُ الرّبيعِ أو جداولَ تتراقصُ مُويجاتُها تحت أشعّةِ ذُكاء الدّافئةِ أو في ظلالِ الأشجارِ الحانيةِ..

ومرّتِ الأيّامُ، وانقضتِ السّنون، فتتوَّجَت ثورتُنا على الطّفولةِ بإكليلِ الشَّبابِ، وتحقّقَت أحلامُنا برؤيةِ براكينِ القوّةِ تتصاعدُ حمماً من النّشاطِ والشّهوةِ الطّاغية، كلّما لمحْنا خيالَ شواربِنا أمام وجوهِنا، أو شاهدْنا ظلالَها أمام خيالاتِ أجسادِنا المرتسمةِ على صدرِ الطّبيعة، أو كلّما استيقظَت لذّاتُنا في حرمِ الجمالِ أو في أحلامِ اليقظة أو في جِنانِ النّومِ في هزيعِ اللّيلِ إلى غسقِه فسُدفتِه فسحَرِه، أو حين تأمّلِ النّجومِ المتلألئةِ في حنايانا، أو في اللّحظاتِ التي يأسرُنا فيها القمرُ، فنتخيّلُ في طلعتِه البهيّةِ جمالَ العاشقةِ الذي تهفُو إليه نفوسُنا، وتذوب فيه أرواحُنا، وتنحلُّ فيه جوارحُنا وأجسادُنا..

في هذه المرحلةِ عشِقْنا أجسادَنا، واستبدّت بملذّاتِنا صورُ الجمالِ وخيالاتُ الأحلامِ، وكلُّ صوتٍ أنثويٍّ يترنَّم وثيراً إلى أسماعِنا، ونحن على مقاعدِ الدّراسة، فشبَّت في أوصالِنا لهفةُ الجلوسِ على مقاعدِ الدّراسة التي تشدُّنا إليها كلّما وقع خيالُنا على صورِ الحبيبةِ التي تتربّعُ عرشَ الجمالِ في كلِّ ركنٍ من أركانِ الصفِّ وفي كلِّ نافذةٍ من نوافذه، ونذوبُ كالجليد كلّما انبعثَ بريقُ عشقٍ من أشعّةِ ناظرَيها إلى حنايا نفوسِنا، ونهتزُّ مثل أوتارِ العود كلّما دندنتْ حنجرتُها بصوتِها السّاحر، ونذوقُ لذّةَ الموتِ الرّومانسيِّ كلّما همسَت بحرفٍ يُشبهُ حروفَ أسمائِنا..

ومرّت أيامُ الشّبابِ، وانقضَت ملذّاتُها الجسديَّةُ والرّوحيّةُ، وانتشَت عضلاتُنا قوّةً، وغرقَت خيالاتُنا بالأحلامِ، وتأجّجَت في ذواتِنا بيارقُ الرُّجولة، وانبعثَت من أخيلتِنا هِممُ البطولةِ، وارتسمَت أمامَنا معاركُ الحقيقةِ ومواجهةُ الواقعِ؛ من أجل صناعةِ الحياةِ، كما كنّا نحلمُ بها أطفالاً ويافعينَ، وربّما بأشكالٍ أكثرَ تطوّراً وصورٍ أرفعَ حضارةً.. وانتهتْ مرحلةُ الشّبابِ لعلَّ الآتيَ أجملُ؛ لأنّه واقعٌ وليس خيالاً؛ ولأنّنا أصبحْنا قادةً لا منقادينَ، ولعلّنا غدوْنا وسيوفُ التّحدّي تتراقصُ في قبضاتِنا..

وجاءتْ مرحلةُ التّحدّي والرّجولةِ من أجلِ قيادةِ الحياةِ بأنفسِنا، دون أن تُملِي أنماطَها علينا قوّةٌ أو سلطةٌ من غيرِ أن تحسبَ لعزيمتِنا وانطلاقتِنا وتفجُّرِ طاقاتِنا ألفَ حسابٍ، ففتحْنا أبوابَ الحياة بسواعدِنا، وشققْنا طرقاتِها بمعاولِنا، وعبَّدناها بقوّةِ هِممِنا، ورصفْناها بلبِناتِ صبرِنا وتحدِّينا، فابتسمَت لنا الحياةُ، وفتحَت أسرارَ خزائنِها، فملأْنا مآقِينا من بريقِ الذَّهب والمالِ، وأسكرْنا نهمَنا بكلِّ ما لذَّ وطابَ، وبنيْنا منازلَنا على أحدثِ طرازاتِ البناءِ، ووشَّيناها بأجملِ زخارفِ العصر، وأحلْنا حقولَ الذُّرةِ والقمحِ والشّعيرِ إلى جنانٍ خضراءَ تتربَّعُها أشجارُ التّفّاحِ والكرزِ والدُّرّاقِ والمشمشِ والتّينِ واللّوزِ والعنبِ وكلِّ نوعٍ من الفاكهةِ التي ألِفَت ذرّاتِ ترابِنا، وهامَت في حبِّ إكسيرِ الحياةِ الذي يمدُّها بأسبابِ النّموِّ والبقاءِ؛ لتتربَّعَ كلُّ شُجيرةٍ خلال هُنيهةٍ من العمرِ ملِكةً تبسطُ أغصانَ عرشِها باسقةً كالطّاووس الذي ينفُجُ ريشَه كلّما لمحَ في أنثاهُ دعوةً لتجديدِ الحياة، ويأتي الرّبيعُ؛ لتجدِّدَ كلُّ شجرةٍ أثوابَها، وتوشِّيها بأبْهى ألوانِ الأزاهيرِ، معلنةً حفلةَ زفافِها وليلةَ دخولِها حينما تستقبلُ ذرّاتِ غبارِ الطّلعِ؛ لتعلنَ نهايةَ عذريَّتِها الأنثويّةِ وبدايةَ فجرِ مخاضِها الذي تُتوِّجُه بأشهى ثمراتِ حملِها التي سوفَ ترى النُّور يانعةً في فصلِ الصّيف!

لقد أشرفَت مرحلةُ الرُّجولةِ والبناءِ على نهايتِها، ووقفتْ أشعّةُ شمسِها خلفَ التِّلالِ؛ لتُسلِّمَنا صاغرينَ رغمَ أنوفِنا إلى مرحلةِ الكُهولةِ، وارتسمَت أمام مخيّلتِنا خيوطُ المستقبلِ الواهيةُ مثلَ خيوطِ العنكبوتِ، ونحن نتطلّعُ إليها لعلَّها تحملُ إلينا بركاتِ حياةٍ جديدةٍ، فنسِينا حاضرَنا في غَمْرةِ تأمُّلِنا للمستقبلِ، واستيقظَت في نفوسِنا أحلامُ الطّفولةِ من جديد، ولكنْ هيهاتَ لشمسِ الأصيلِ أن تعودَ القهْقرَى على خطِّ المسيرِ ذاتِه؛ لتُشرق ثانيةً دونَ أن تلفَّ أعمارَنا في جَعبةِ الرّحيلِ ودونما أن تحرثَ على أجسادِنا خطوطَ الطّولِ والعرضِ ومن غيرِ أن تُنهِك كواهلَنا بسنين الجدِّ والتّعبِ والشّقاء، ومن غيرِ أن تُلقي ملذّاتِنا ولحظاتِ السّعادةِ من حياتِنا في حاويةِ النِّسيان..

انتهتْ أجملُ مراحلِ العمرِ، وجنيْنا ما جنيناهُ، وحان الوقتُ لدفعِ فواتيرِ ما استهلكْناهُ من طاقاتِ أبدانِنا.. لكنّنا نتركُ العربةَ ليقودَها أبناؤنا.. ولم يبقَ في نفوسِنا سوى الحسراتِ على مراحلِ البراءةِ والطّاقةِ والحيويّةِ والنَّشاط، ولكن هيهاتَ للتّمنِّياتِ أن تُعيدَ المياهَ إلى مجاريْها، وهيهات للرِّياحِ أن تجريَ كما تشتهِي السُّفنُ كما في حكمةِ المتنبِّي:

مَا كُلُّ مَا يَتَمَنَّى الْمَرْءُ يُدْركُهُ
تَجْري الرّيَاحٌ بمَا لَا تَشْتَهي السَّفَنُ

وهيهات لكلِّ أصباغِ العالمِ ولكلِّ عمليَّاتِ التجميلِ المتطوِّرةِ من شفطٍ أو نفخٍ، من تقصيرٍ أو تطويلٍ، من تصغيرٍ أو تكبيرٍ، من اشتقاقٍ أو نحتٍ أو نسبةٍ، من رفعٍ أو نصبٍ أو خفضٍ، من تسكينٍ أو تحريكٍ، من قصٍّ أولصقٍ أوحذفٍ أوإخفاءٍ، ومن كلِّ ما ابتدعَه علماءُ النّحوِ العربيِّ، وكلِّ ما ابتكرَه جرّاحُو العالمِ، وكلِّ ما اخترعَه علماءُ التّكنولوجيا، أن يُعيدواِ الشّيخَ إلى صِباه، على نحوِ ما جاء في كتابِ (رجوعُ الشّيخِ إلى صباه في القوّةِ على الباه)() لمؤلّفه: أحمدَ بنِ سليمانَ بنِ كمال باشا، أو كما جاءَ في دعايةِ اللّبان (العلكة) السُّوريّة ذاتِ النَّكهةِ الوطنيَّة على لسانِ الباعةِ والمتجوِّلّين في محطّاتِ الحافلاتِ بين المحافظاتِ (الهُوب هُوب): "علكةُ التّحدّي لعودةِ العجوزِ إلى مرحلةِ التّصدّي). وصدقَ شاعرُنا أبوالعتاهيه إسماعيلُ بنُ القاسمِ بنُ سويدٍ حين قال:

بكيْتُ على الشّـــبابِ بدمعِ عينِي
فلم يُغـــنِ البُـــكاءُ ولا النّحيبُ
فَيا أسَفاً أسِـــفْتُ على شَـــبابٍ،
نَعاهُ الشّيبُ والرّأسُ الخَضِيبُ
عريتُ منَ الشّبابِ وكنتُ غضّاً
كمَا يَعرَى منَ الوَرَقِ القَضيبُ
فيَا لَيتَ الشّـــبابَ يَعُودُ يَوْمــاً،
فأُخبرَهُ بمَــا فَعَـــلَ المَشــــيبُ

وها هي فلسفةُ جبران خليل جبران تختزلُ طبيعةَ البشرِ في أنصعِ حقائقِها، وترسمُ مسيرةَ حياتِنا في أصدقِ لوحةٍ معلنةً ناموسَ النّفسِ البشريَّة التي جُبِل عليها كلُّ آدميٍّ، ورضعَ من حليبِ أثداء الحياةِ، فكلُّ نفسٍ تتوقُ إلى الكمالِ، وتهفُو إلى الأبديّةِ، وترنُو إلى الخلودِ.. ولكنّنا سنظلُّ حائرينَ نعلِّقُ آمالَنا على مشجبِ أعمالِنا وآثارِنا في الحياةِ متمسِّكينَ بمفاتيحِ إيمانِنا التي ربَّما تفتحُ لنا أبوابَ السّماءِ، وكلُّ طائفةٍ آدميّةٍ تحملُ مفتاحَ عقيدتِها مغنّيةً على ليلَاها، غيرَ عابئةٍ بما يغنّيهِ سواهَا:

"البشرُ! يملُّون من الطُّفولةِ، يسارِعُون ليكبُروا،
ثمَّ يتوقُون الى أنْ يعودُوا أطفالاً ثانيةً " .
"يضيّعونَ صحّتَهم ليجمعُوا المالَ،
ثمّ يصرفونَه ليستعيدُوا الصِّحّةَ " .
"يفكِّرون بالمستقبلِ بقلقٍ، وينسَونَ الحاضرَ،
فلا يعيشونَ الحاضرَ ولا المستقبلَ" .
"يعيشونَ كما لو أنّهم لن يموتُوا أبداً،
ويموتُون كما لو أنَّهم لم يعيشُوا أبداً"

أليستْ هذه الكلماتُ آياتٍ بيّناتٍ تصوِّرُ طبيعةَ البشرِ أصدقَ تصويرٍ، وتكشفُ عن نوازعِ النَّفسِ الإنسانيّةِ دون مواربةٍ، ودون خيالٍ لاهوتيٍّ يربطُ كلَّ حركةٍ آدميّة بكائناتٍ سماويّةٍ لا تملكُ من عملٍ سوى التّحريضِ على الشرّ أو إثارةِ الدافعيّة لفعلِ الخيرِ؛ وكأنّ النّفسَ البشريّةَ ملعبٌ يتبارَى فيه فريقَا الخيرِ والشّرِّ، والغلبةُ في النّهايةِ للفريقِ الذي تميلُ إليه النَّفسُ، والنّتيجةُ خطايا أو أوسمةٌ تُسجَّل في سجلِّ فواتيرِها على لوحةٍ رقميّةٍ صغيرةٍ جدّاً لا تُرى بالعينِ المجرّدة، ولا تستطيعُ شركةُ (مايكروسوفت) أوغيرُها من فكِّ شيفرتِها، إلى أن يأتيَ موسمُ إعلانِ النّتائجِ بعد نفخةٍ من الصُّور، وحينَها يعجزُ جميعُ عباقرةِ التّكنولوجيا الحديثةِ عن إضافةِ سطرٍ أو محوِ كلمةٍ أو حذفِ حرفٍ واحد أونقلِ فعلٍ أو تحويلِه من حسابٍ إلى آخرَ؛ لأنّ التّعديلَ إذْ ذَاك لعبٌ في الوقتِ الضّائع، ومستحيلٌ قد فاتَ أوانُه!

جبران خليل جبران فلسفةٌ إنسانيّةٌ متكاملةٌ، اجتمعت فيها كلُّ تخيُّلات النفسِ البشريّة فيما وراءَ الطّبيعةِ، وكلُّ تأمُّلاتِها في أحضانِ الطّبيعةِ، يجدُ فيها الفيلسوفُ ضالَّتَه في فلسفتِه، ويأنسُ فيها الشُّعراءُ إلى صورِها وأخيلتِها، ويُمسك فيها المؤمنون بأطرافِ خيوط ِتأمُّلاتِها السَّماويّة، ويتوكَّأُ فيها الباحثُون عن الأرواحِ المتقمَّصةِ على أجهزةٍ سينيَّةٍ تكشفُ بأشعَّتِها فوقَ الحمراءِ عن كلِّ الأرواحِ التي انتحلَت شخصيَّاتٍ جديدةً تحملُ أفكارَها مع اختلافِ صورِها الخارجيَّةِ، وتركنُ إليها مذاهبُ الطَّوائفِ الكبرى التي أخذَ كلٌّ منها بناصيةِ مذهبٍ ابتدعَه المبتدِعون وصارُوا هم الشَّريعةَ العُظمى الذين يمتلِكون مفاتيحَ الغيبِ، وغدتِ الطّوائفُ الكُبرى بين أخذٍ وردٍّ أو شكٍّ ويقينٍ..

في فلسفةِ جبرانَ ثمّةَ تجلِّياتٌ من فكرِ فلاسفةِ اليونانِ والرُّومانِ، وروحانيّاتٌ من فكرِ (بوذا وكونفوشيوس وأوشه وزرادشت) وغيرِهم من أصحابِ الفكرِ غيرِ السّماويِّ..

في فلسفةِ جبرانَ أحاديّاتٌ لا تقبلُ القسمةَ على اثنينِ، وفي فلسفتِه ثُنائيَّات تأبَى التَّثليثَ، وفي فلسفتِه ثلاثيّات لا تجدُ إلى التَّربيعِ سبيلاً، وفي فلسفتِه رباعيّاتٌ وخماسيّات وسداسيَّات وسباعيّاتٌ.. يقفُ الفكرُ عاجزاً عن مدلولاتِها وبلاغةِ صياغتِها وطلاقةِ حبكتِها، وفي فلسفتِه كلّياتٌ تنْأى عن الفهمِ العامِّ، وتدنو من الفهمِ المتبحِّرِ في شتّى ميادينِ الفلسفةِ والعلومِ الوضعيّة والعلومِ العابرةِ للقارّاتِ زماناً ومكاناً.. وفي فلسفتِه جزئيّاتٌ تَعْمى الفلسفاتُ الكبرى عن إدراكِ مرامِيها.

وإليكم شذراتٌ من تلك الفلسفاتِ: الكلّياتِ والجزئيّات، والفراديّاتِ والثنائيّات، والثلاثيّاتِ والرُّباعياتِ.. على نحوِ ماوردَت في ثنايا فلسفتِه المتكامِلة:

• أنا لا أعرفُ الحقيقةَ المجرَّدةَ، ولكنّي أركعُ متواضعاً أمام جهلِي وفي هذا فخرِي وأجرِي.
• يظلُّ العالِمُ عالِماً ما تعلَّمَ، فإذا قال: علِمتُ، فقد جهِلَ.
• ليست حقيقةُ الإنسانِ بما يُظهِرُه لك، بل بما لا يستطيعُ أن يُظهرَه، لذلك إذا أردتَ أن تعرفَه فلا تُصغِ إلى ما يقولُ.
• الحبُّ كلمةٌ من نورٍ خطّتْها يدٌ من نورٍ على صفحةٍ من نورٍ.
• إنّ الأيديَ التي تصنعُ أكاليلَ الشّوكِ هي أفضلُ من الأيدي الكسُولةِ.
• مجتمعُنا لا يَرى بالعينِ، بل يرى بالأذنِ.
• الحقُّ يحتاجُ إلى رجلينِ: رجلٍ ينطقُ به ورجلٍ يفهمُه.
• إن لمْ يجرِ بينكم التّبادلُ بالحبِّ والعدلِ، شرِهَت فيكم نفوسٌ وجاعَت أخرى.
• حين يغمرُك الحزنُ تأمّلْ قلبَك من جديدٍ، فستَرى أنّك في الحقيقةِ تبكي ممّا كان يوماً مصدرَ بهجتِك.
• أين تبحثُون عن الجمالِ وكيف تجدونَه، إن لم يكنْ هو الطّريقَ والدّليلَ؟
• ليُحبَّ أحدُكما الاَخرَ، ولكن لا تجعَلا من الحبِّ قيداً، بل اجعلَاه بحراً متدفِّقاً بين شواطئِ أرواحِكما.
• ليس من يكتبُ بالحبرِ كمن يكتبُ بدمِ القلبِ.
•إنّ أطفالَكم ما هم بأطفالِكم، فقد وَلَدَهُم شوقُ الحياةِ إلى ذاتِها. بكُم يخرجُون إلى الحياةِ، ولكنْ ليسُوا منكم..
• تسلكُ المرأةُ طريقَ العبيدِ لتسودَ الرّجلَ، ويسلكُ الرّجلُ طريقَ الأسيادِ لتستعبِدَه المرأةُ.
• ربّما عدمُ الاتّفاقِ أقصرُ مسافةٍ بين فكرينِ.
• منبرُ الإنسانيّة قلبُها الصّامتُ لا عقلُها الثَّرثارُ.
• الحبُّ لا يُعطي إلا ذاتَه، ولا يأخذُ إلا من ذاتِه، وهو لا يَملِك ولا يُملَكُ، فحسْبُه أنّه الحبُّ.
• الأمُّ هي كلُّ شيءٍ في هذه الحياةِ، هي التّعزيةُ في الحزنِ، والرَّجاءُ في اليأسِ، والقوّةُ في الضَّعفِ.
• فَما أحلى أيّامَ الحُبِّ! ومَا أعذَبَ أحلامَها! ومَا أمرَّ ليَاليَ الحُزنِ ومَا أكثرَ مَخاوِفَها!
• في الأمسِ أطعْنا الملوكَ وحنَيْنا رقابَنا أمامَ الأباطرةِ .. لكنّنا اليومَ نركعُ فقط أمامَ الحقيقةِ.. ولا نتّبعُ سوى الجمالِ، ولا نطيعُ سوى الحبِّ.
• أولادُكم ليسُوا لكم.. أولادكم أبناءُ الحياةِ المشتاقةِ إلى نفسِها، بكم يأتُون إلى العالم، ولكن ليس منكم .. ومع أنّهم يعيشُون معكم، فهم ليسُوا مُلكاً لكم .. أنتم تستطيعون أن تمنحُوهم محبَّتَكم، ولكنَّكم لا تقدرُون أن تغرسُوا فيهم بذورَ أفكارِكم، لأنَّ لهم أفكارأً خاصّةً بهم .. وفي طاقتِكم أن تصنعُوا المساكنَ لأجسادِهم .. ولكنّ نفوسَهم لا تقطنُ في مساكنِكم فهي تقطنُ في مسكنِ الغد، الذي لا تستطيعُون أن تزورُوه حتّى ولا في أحلامِكم .. وإنّ لكم أن تُجاهِدوا لكي تصيرُوا مثلَهم، ولكنّكم عبثاً تُحاولون أن تجعلُوهم مثلَكم.

في الختامِ أقولُ: الحياةُ جميلةٌ بكلِّ مراحلِها، لكنَّ أجملَها مرحلةُ البراعمِ، وأروعَها مرحلةُ الزُّهور، وأقواها مرحلةُ البلوغِ والنّضجِ والإثمارِ، وأحكمَها مرحلةُ الجمعِ والقطفِ، وأعقلَها وأوزنَها مرحلةُ الكُهولةِ، وأمرَّها مرحلةُ الشّيخُوخة رغمَ أنوفِنا، ولكنْ دعْنا نتركُ فلسفةَ التّشاؤمِ إلى فلسفةِ الحكمةِ والتّفاؤلِ.. فالعباقرةُ والفلاسفةُ والمفكِّرون والأنبياءُ والرُّسل جميعُهم رحلُوا.. وما نحنُ سوى ظلالٍ ستنحسِرُ عندما تميلُ الشّمسُ إلى الأصيلِ..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى