«الأرملة» بين مطرقة المجتمع وسنديان عاداته
عن مكتبة كل شيء في حيفا صدرت رواية "الأرملة" للأديبين جميل السّلحوت وديمة السّمّان عام2023، تقع الرواية في مئتين وثمان وعشرين صفحة من القطع المتوسط، وقد أخرجها ومنتجها شربل إلياس.
هي رواية اجتماعية تتناول بشكل رئيس قضية الأرملة وما تعانيه في المجتمع من نظرات الشفقة أو الطمع من قبل الرجال، أو الخوف من قبل الزوجات على أزواجهن.
عرضت الرواية نموذجين متباينين للأرملة من حيث الشعور في بداية رحلة الترمّل، لكنهما يلتقيان في رحلة العناء في المجتمع بما يحمله من أفكار عنها: وردة التي كانت تحب زوجها عودة حبّا شديدا؛ لانسجامهما معا في أبواق الحياة كلحن حب متناغم، ولم تتقبل حقيقة فقدانه بسهولة، وندى التي فرحت من أعماقها بوفاة زوجها، الذي قادتها إليه ظروفها الصعبة، وتحكّم زوجة أبيها، ورغبتها في التخلص منها بعد وفاة أبيها؛ إذ شعرت بموته وكأن طاقة البشائر فتحت لها من أوسعها؛ لما كان يتسم به من فظاظة وسوء عشرة معها ومع أبنائه، تلك الفظاظة التي كانت ربما تعزى لكونه عاش حياته بدور البطل الذي يدافع عن أمّه الأرملة من شرّ الأعين المتربصة بها، بكل ما أوتي من قوة.
تتلقى وردة الأرملة الشابة الجميلة عروض الزواج بدءا من أبي زوجها، الذي أراد أن يزوجها لابنه فترفض، ومن ثم تأتيها عروض من أشخاص لا يناسبونها أبدا كزميلها المدرس الذي يكبرها بعقود من الزمن ظنا منه أنه يفعل بها خيرا لكونها أرملة.
يعود سامر الذي أحبها في أيام الدراسة الجامعية من الخليج، ويعرض عليها الزواج، فتعده بالتفكير بالموضوع.
تكمل ندى تعليمها الجامعي مع ابنتها بعد وفاة زوجها، وتوطد علاقتها بوردة معلمة ابنتها التي التقتها حين ذهبت لبيت عزاء والدتها، في وقت كانت تعاني فيه من تخلي جيرانها عنها، وخوفهم من التعامل معها، وخاصة جارتها المقربة أمّ عارف التي كانت كأخت لها، إذ قطعت علاقتها بها لتخويف جاراتها الأخريات من أن تسرق زوجها منها، رغم أن علاقة أمّ عارف بزوجها كانت لا تشوبها شائبة، وهنا رسالة بأنّ الله ما يغلق بوجهنا بابا إلا ليفتح لنا بابا خيرا منه، وأن المواقف غربال العلاقات، فلا أسف على أي علاقة تذهب، وهذا ما أدركته ندى مع الأيام بتشجيع من ابنتها الكبرى.
تعقد ندى صفقة تصالح مع ذاتها وتبدأ بتعويض ما فاتها من نجاحات وئدت بزواجها على الرغم من أنه ترك له إرثا يكفيها، لكنها تصرّ على تحقيق ذاتها، فتنشئ مشروع روضة نموذجية مع وردة، وتنجحان معا، ويظهر كنان الذي أحب ندى قبل أربعة وعشرين عاما، ويخبر أخته برغبته بالارتباط بندى لتكلمها في الموضوع، ويبني علاقة طيبة مع ابنتها براء، فتجد فيه حنان الأب المفقود وسنده، مما جعل ذلك دافعا له ليصارحها برغبته بالارتباط بأمّها، لكنها كحال بعض الأبناء الأنانيّين تجاه أمهاتهم المضحيات استهجنت الأمر، وقالت له أن أمّها لا تفكر بالارتباط، وهنا بدا الدور الإيجابي لخطيبها الذي أخبرها أنه ليس من حقها أن تقرر عن والدتها، التي كانت بالفعل لم تشفَ بعد من آثار عقدها تجاه الرجال، التي سبّبها زوجها المتوفّى صخر، الذي كان له من اسمه كل النّصيب، ثم تدخل براء صراعا بينها وبين أفكارها حتى قررت بالنّهاية إقناع والدتها بالتفكير بشأن ارتباطها من عنان، فهو رجل بمعنى الكلمة، يستحقّ أن تخرج من جمود مشاعرها لأجله، ومن حقّها أن تختار من تكمل معه حياتها.
وردة وندى جسّدتا مثالا للمرأة الأرملة القويّة، التي واجهت الصعاب ولم ترضخ لسخافات المجتمع واتهاماته، ومن الجدير بالاهتمام أن تفكيرهما بموضوع الارتباط من جديد جاء وهما بموضع قوّة، فقرارهما لن يكون من باب الاضطرار أو الحاجة أو الهرب من مواجهة مضايقات المجتمع، إنّما هو قرار ناجم عن وعي وتشافي من آثار الماضي.
ومن أركان قوة هذه الرواية إضافة لكونها مشتركة بين أديب وأديبة-ما جعلها تبحر في وجدان المرأة وروحها أكثر، فتبدع بوصف مشاعرها وإيصالها للقارئ- أن أحداثها اتّخذت من مدينة القدس وضواحيها مسرحا لتفاصيل الرّواية، مسلّطة الضوء على معاناة أهلها من إغلاق للحواجز، واعتقال، واعتداء على الشّباب من قبل الاحتلال، إلى جانب تعريفها بالكثير من المعالم الإسلاميّة في المدينة، وبالطبع لا يمكن أن تكتمل أركان أي عمل أدبي في وطن محتل إن انسلخ عن واقعه، ومعاناة كافة أطياف شعبه.
كما تنتقد الرواية دور الدراما العربيّة التي كثيرا ما تسيء للمرأة، والأرملة هنا بشكل خاص إذ تصورّها ضعيفة مغلوبة على أمرها، تائهة في دربها بلا رجل.
وفي الرّواية رسالة ضمنية للنّساء أن المجتمع مهما كان قاسيا، لكنّه في النهاية يحترم المرأة القوية التي تفرض نفسها ونجاحاتها ويهابها، وأن الرّجل إضافة لحياة المرأة وليس أساسا لها.
كل ذلك كان بلغة سلسة مدعّمة بالآيات الكريمة والأحاديث الشريفة والأمثال الشعبيّة، وأسلوب سرديّ لا يخلو من التشويق والإثارة.