الأساطير الصهيونية المؤسِّسة لإسرائيل
«الدكتور» أحمد شحلان أديبٌ متميِّز، وعالمٌ فذّ، ومترجِمٌ متمرّس. فهو كاتبٌ ذو أسلوبٍ جزلٍ رصين، يتجلّى في تناسق ألفاظه المنتقاة بعناية، وفي تراكيبه الرشيقة المحكمةِ البناء، وفي جمالِ صوره المجازية. وتزدان كتاباته بحمولاتٍ معرفية تُغْني المتلقّي علماً، وتزيده ذكاءً، وتهذّب ذائقته. وهو لا يكتب إلا إذا تأجَّجت نار المحبّة بين الضلوع، وازدحمت الأفكارُ في الذهن. عندها، ينتضي قلمه ليسطّر الدَّرر وينظم الآلئ، إيماناً منه برسالة الأديب، ودور العالِم في المجتمع، وقيمة الكلمة التي تنغرس في أرض موات، فتثمر فكراً، ونماءً، ومجداً.
بيدَ أنَّ هذا العالم الأديب محبطٌ متوجّعٌ في وطنٍ عربيٍّ لا دورَ يُذكر فيه للمثقَّف المخلص النزيه، فيظلُّ عاجزاً عن تغيير الأوضاع إلى الأفضل، وهو يرى أُمّته تنزلق إلى هاوية التخلُّف والهوان، والفقر. فتكوينه النفسي لا يمكِّنه من حمل البندقية، وأصحاب القرار لا يستفيدون من رأيه ومعرفته، بل يفعلون ما يصبُّ في مصلحتهم الشخصية، مدجَّجين بفتاوى وعّاظ السلاطين، وتطبيل طغمةٍ من المتزلِّفين أشباه المثقَّفين. في هذه الظروف القاسية، لا يجد المثقَّف المخلص ملاذاً له إلا الورق الناصع البياض. فيستلّ قلمه من غمده، يبثُّ الورق الأبيض البريء خيباته وهمومه، وتطلعاته وشجونه؛ آملاً أن يكون القلمُ أَمضى من البندقية، وصوتُ الحقِّ أعلى من دويِّ المدافع، والفكرُ الحقُّ أقوى من جحافل العدوان وأبقى. وبعبارةٍ أُخرى، إنَّ الدكتور شحلان فارسٌ محاربٌ شجاع، ولكنَّه لا ينازل الأعداء ويقاتلهم بجسده وسيفه، وإنما بفكره وقلمه، ويفنِّد مزاعمهم وأساطيرهم بعلمه ومعرفته.
يقول الدكتور شحلان:
"إنّي أكتب، أحمي حياض عشقي بمُحَزَّز القلم، وهو الأقوى لو كانوا يعلمون. إني أسقي رياحين عشقي بزكيّ المداد، وهو الأروى لو كانوا يعلمون. إني أَبْري من ثورة فكري رمحَ الرفض، وهو الأشد نفاذا لو كانوا يعلمون.
إن الكلمة لا تموت، وإن أخْفََتََ من رجِّها تقاعُسُ الأهل وتجاهلُ الأعداء. فهي صدى يعود من وراءِ مخبوءِ السحاب، عندما يُغاث الغيث." [1]
والدكتور شحلان عالمٌ باحثٌ بعيدُ الغور في ثقافات اللغات العروبية، خاصًة اللغتين العربية والعبرية، وفي الديانة اليهودية، والفكر الإسرائيلي بشكلٍ عامٍّ. وهو في هذا المضمار، لم يكُن يجاريه إلا عالمان انتقلا إلى رحمة الله، أحدهما، المرحوم الدكتور أحمد نسيم سوسة (1900ـ1982) وهو عراقي يهودي، أصْله من قبائل بني سواسة التي كانت تقطن في نواحي حضرموت في اليمن [2]. درس هندسة الري والأديان المقارنة في أفضل الجامعات الأمريكية، وحاز على الدكتوراه من جامعة جون هوبكنز، إحدى أرقى الجامعات، سنة 1930، وأسلم في أمريكا. وتُعدُّ كتبه " تاريخ جزيرة العرب" و " العرب واليهود في التاريخ" ، و" تاريخ يهود العراق" من أرفع المراجع في مجالها. والآخر هو المصري المرحوم الدكتور عبد الوهاب المسيري ( 1938ـ2008) صاحب "موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية"، من أوفى المراجع وأوثقها في الموضوع.
وفي نظري، إن صديقي الدكتور أحمد شحلان يتميّز عنهما معاً بتخصُّصه في التراث اليهودي المغربي. وفي هذا المجال كان أوّل الكُتب التي ألّفها هو " المدخل إلى اللغة العبرية"، فاللغة هي مدخل الثقافة وأساس الإلمام بها، وإتقان العبرية يفتح للباحث أبواب الفكر اليهوديِّ على مصراعيه. ثمَّ ترجم الدكتور شحلان كتابيْن للباحث المغربي اليهودي حاييم زعفراني هما " ألف عام من حياة اليهود في المغرب" الذي ترجمه بالاشتراك مع الدكتور عبد الغني أبو العزم، و " كتاب يهود الأندلس والمغرب" في مجلَّدين الذي نال جائزة المغرب للترجمة سنة 2000. وترجم من اللغة العبرية إلى اللغة العربية كتاب " الضروريّ في السياسة" وهو مختصر ابن رشد لكتاب "السياسة" لإفلاطون، المفقود بنصِّه العربي، فأعاده إلى مزاولة الحياة في المكتبة العربية. ونقل من الحرف العبري إلى الحرف العربي مع التحقيق "كتاب النفس لأرسطو من تلخيص ابن رشد". ثمَّ حقّقَ نصَّ الترجمة العبرية الوسطوية لكتاب " الكشف عن مناهج الأدلّة في عقائد الأُمّة لابن رشد". ونشر بحثه الأكاديمي " ابن رشد والفكر العبري الوسيط: فعل الثقافة العربية الإسلامية في الفكر العبري الوسيط". ثمَّ ألّفَ كتابه " التراثُ العبريُّ اليهوديُّ في الغرب الإسلاميِّ: التسامح الحقّ"، وكتاب "مجمع البحرين من الفينيقية إلى العربية"، ونشر كتابه " التوراة والشرعية الفلسطينية". وشارك في تأليف كتاب "لغات الرُّسُل وأصول الرسالات"، وأخيراً نشر كتابه القيم" اليهود المغاربة: من منبت الأصول إلى رياح الفرقة".
في هذه الورقة الوجيزة، سنتناول قضيتيْن عالجهما الدكتور أحمد شحلان بدراية وعمق، هما:
– الأولى، اليهود المغاربة،
– والثانية، إسرائيل والأساطير المؤسِّسة لها.
اليهود المغاربة:
قبل كلِّ شيءٍ، ينبغي أن نشير إلى أنَّ العالِم الحقيقي أوالباحث الموضوعي يمتاز بصفتيْن أساسيتيْن:
– الأولى، عدم التعصب ضدَّ أيِّ طائفة دينية، أو قومية عرقية، أو لون يدلّ على جنس بشري معيَّن. وإِنَّما ينظر إلى الناس جميعاً بصورةٍ متساوية، أو كما قال الرسول (ص):
" الناس سواسية كأسنان المشط....لا فضل لعربي على عجمي ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى."
ومبدأ المساواة المطلقة بين الناس في الخَلق والقيمة الإنسانية، ورد في أوَّل آية من سورة النساء في القرآن الكريم: ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء)، والتزم به علماء الأُمة وقادتها جميعاً، فقد طرحَ الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب على أحد ولاته سؤالاً استنكارياً، قائلاً:
" متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أُمهاتهم أحراراً؟."
وورد في عهد الإمام علي إلى مالك الأشتر الذي بعث به والياً على مصر، قوله:
" فالناس إما أخٌ لك في الدين أو نظيرٌ لكَ في الخَلق"
– الثانية، إنَّ الباحث الموضوعي، لا يوجِّهه في بحثه هدفٌ مسبقٌ أو غايةٌ مرتجاة، فهو يبحث من أجل الوصول إلى الحقيقة فقط. أو كما قال الإمام الشافعي: " ما ناظرتُ أحداً قط، إلا أحببتُ أن يوفق ويُسدد ويعان، وتكون له رعايةً من الله وحفظه. وما ناظرتُ أَحداً إلآ ولم أُبالِ بَيَّنَ اللهُ الحقَّ على لساني أو لسانه " [3].
هاتان الصفتان ماثلتان في شخصية الدكتور أحمد شحلان في بحوثه القيمة عن اليهود واليهودية. بيدَ أنَّ هنالك مشكلةً صغيرة في مسألة موضوعية الباحث، تتلخَّص في أن الدكتور أحمد شحلان يتحلّى بوطنيَّةٍ عارمة، وحبِّ عميقٍ للمغرب وأهله. وبما أنَّ اليهود المغاربة هم جزء من الشعب المغربي النبيل، فإِنَّ الدكتور شحلان، يفضّل اليهود المغاربة على غيرهم من يهود العالم، شرقيّين كانوا أم غربيّين. فبالنسبة إليه، فإن مذهب اليهود المغاربة في قراءة التوراة أفضل من المذاهب الأخرى، لأنَّهم التزموا باللغة العبرية، ولم يأخذوا بالترجمة الآرامية (التركوم)؛ وعلوم اليهود المغاربة التقليدية هي أفضل من علوم غيرهم من يهود العالم؛ ومؤلَّفات أعلام اليهود المغاربة، أرقى من مثيلاتها؛ وأولياء اليهود المغاربة أشهر وأرجح شعبية من أولياء اليهود الآخرين؛ وإنَّ موسى بن ميمون (1135ـ1204) أشهر فلاسفة اليهود في التاريخ الوسيط، الذي تعلم ونضج وبرز في فاس، هو أعظم مفكِّر يهودي منذ النبي موسى حتى قيل فيه " من موسى إلى موسى لم يظهر مثلُ موسى"، لأنّه رضع في المغرب لبان المعارف اليهودية العربية والإسلامية.
قد يبدو أوَّل وهلة أنَّ وطنية الدكتور الكامنة في قلب أحمد شحلان، قد تغلّبت على موضوعيّة الباحث الماثلة في عقله. ولكن التعمُّق في دراسة كتابه القيم " اليهود المغربة: من منبت الأصول إلى رياح الفرقة " وما اشتمل عليه من حفرٍ في كنوز تراث اليهود المغاربة، المكتوب منه والشفهي، يدلَّنا على أنَّ الدكتور شحلان لم يخلع جلباب الباحث الموضوعيّ عندما اعتمر سلهام الوطني الغيور، وكأنه يؤكّد مقولة مي زيادة: " رضيت حيناً بأنه ليس للعلم والفلسفة والفنِّ من وطن، أمّا اليوم فصرتُ أعلمُ أنَّ للعالِم والفيلسوف والشاعر والفنان وطناً." [4].
في كتابه هذا " اليهود المغاربة"، يعرض الدكتور أحمد شحلان، بأسلوب مشرق سلس، لأصول اليهود المغاربة، وتاريخهم، وكتاباتهم، ومؤلَّفاتهم التي أغنت التاريخ المغربي العامّ، وتراثهم الديني والثقافي الذي حفل بعلمائهم، وأدبائهم، وقضاتهم، وأوليائهم، ومتصوفتهم. ويتطرّق إلى نظام التعليم الديني لديهم، ودورهم التاريخي في تجارة المغرب والمكوس. ويورد جملةً من أمثالهم وأقوالهم السائرة التي يتعاطونها، فبعضها يعكس الفكر المغربي العام, وبعضها يمثل خصوصيتهم [5].
يلخّص الدكتور أحمد شحلان نتائج بحثه عن أصل اليهود المغاربة في افتتاحية الكتاب بقوله:
" ما كان يهود المغرب في أصولهم إلا مغاربة أقحاحاً في قديم العهود الوثنية، واعتنقوا التوحيد الموسوي لما بلغتهم الرسالة " أحمد شحلان، اليهود المغاربة: من منبت الأصول إلى رياح الفرقة [6].
وعلى هذا الأساس فاليهود المغاربة ليسوا جالية، وإنّما من أهل البلاد الأصليين. فهم لا ينتمون إلى يهود بلاد الكنعانيين، ولم يُجلِهم الملك البابلي نبوخذ نصر مع الشعب اليهودي الذي أجلاه من بلاد الكنعانيين إلى بابل عام 586 ق.م.، طبقاً للأسطورة الصهيونية التي لم تخضع لبحث علمي نزيه بعد؛ فنحن نحسب أن الملك البابلي نبوخذ نصر لم يُجلِ اليهود جميعاً من بلاد كنعان إلى بابل، وإنما قام بإجلاء أحبارهم وقادتهم الذين كانوا يشعلون الحروب الأهلية في بلاد الكنعانيين، وهؤلاء في حدود 500 إلى 600 شخص بحيث لا يتجاوز عددهم مع عوائلهم 3000 فرد كما ذكرت بعض المراجع [7]؛ فإجلاء شعب كامل من مساكنه إلى مكانٍ بعيد، يتطلَّب وسائط نقل سريعة وإمكانات بناء واستقبال لم تكن متوفِّرة في ذلك الزمن؛ مع العلم إنَّنا نستنكر إبعاد فرد واحد بدون ذنب.
اليهود المغاربة ليسوا جالية وإنّما مغاربة أقحاح. أمّا الدراسات التي تدَّعي غير ذلك، فتحرِّكها غاياتٌ سياسيةٌ استُحدثت. ولا ينفي الدكتور شحلان أنَّ مجموعاتٍ يهوديةً وصلت إلى المغرب في فترات لاحقةً عن طريقيْن:
أ ـ مجموعةٌ يهوديّةٌ وصلت مع الفينيقيين الذين أسَّسوا مستوطناتٍ تجاريةً في شمال أفريقيا ابتداء من القرن الثاني عشر قبل الميلاد، والذين استمرَّ وجودهم في المغرب حوالي ألف عام ثم انصهروا في تربته السمحاء.
ب ـ مجموعاتٌ وصلت مع الأندلسيِّين الذين طُردوا من ديارهم في الأندلس ولجؤوا إلى المغرب، خاصّةً بعد سقوط غرناطة سنة 1492؛ وبعضهم من أحفاد المغاربة اليهود الذين هاجروا إلى الأُندلس، وبعضهم ممن وردوا على الأندلس من المشرق.
وهذه المجموعات اندمجت في أرض المغرب العطوف السمح، ولوّحتهم شمسه بلونها البهيج، وتماهوا في بقية مكوِّنات المجتمع المغربي، " وتشاركوا في ماء البئر الواحدة، وشقّوا الأرض بنفس المحراث وتساكنوا إلى حدِّ أن تشارك الأطفال في حليب الأمهات" [8].
وإضافةً إلى ذلك، فإنَّ اليهود المغاربة لا يتميزون عن بقيّة اليهود في العالم من حيث مدرستهم الفكرية الدينية وعاداتهم وتقاليدهم المغربية الأصيلة فحسب، وإنَّما كذلك يختلفون عنهم في قُدسهم. فقدس اليهود المغربة لم تقتصر على القدس الكنعانية، بل أيضاً " اعتبروا فاس " قدساً"، واعتبروا تطوان " قدساً" واعتبروا دبدو "قدساً"، واعتبروا تخوم الصحراء "سيناء"، فعُرفت بـ " زواياها" : "القبلية" (التصوفية)، وذاعت شهرتها وتزهّد فيها كبار زهّادهم" [9]. والسبب واضح في ذلك، لأنّهم ليسوا من اليهود الذين استوطنوا بلاد الكنعانيين، وإنّما هم مغاربة أقحاح، اعتنقوا اليهودية عندما بلغتهم الدعوة، فقُدسهم أو أقداسهم في وطنهم.
الثانية، إسرائيل والأساطير المؤسِّسة لها:
عندما ننتقل إلى بحوث الدكتور أحمد شحلان المتعلّقة بإسرائيل، نلمس فيه، بكلِّ وضوح، صرامة الحق، ودقّة الباحث الناقد، وحماسة الوطني الغيور. فعندما يتحدّث عن إسرائيل، تفارقه تلك الرقّة، وذلك الحنان، اللذان رافقاه في أحاديثه الحميمة عن اليهود المغاربة الذين يعدّهم بعض أهله وعشيرته ووطنه.
الأساطير المؤسِّسة لدولة إسرائيل:
في كتابه " التوراة والشرعية الفلسطينية"، الذي خصَّص ريعه لأطفال فلسطين، ممن اسْتُشهد آباؤهم على يد الصهاينة أو يرزحون تحت قيود الأسر في السجون الإسرائيلية، يفنّد الدكتور أحمد شحلان الأساطير التي أقامت عليها الصهيونية دولة إسرائيل. وكانت بعض فصول هذا الكتاب قد نُشرت قبل جمعها ونشرها في هذا الكتاب بوقتٍ طويل.
ولم يتناول الأساطير الصهيونية بالتفصيل غيره إلا فيلسوف فرنسي، ومؤرِّخ إسرائيلي. وكلاهما كتب في هذا الموضوع بعد الدكتور أحمد شحلان، ولم يكتب قبله في جزء من هذا الموضوع إلا صحفي مؤرّخ هنغاري بريطاني ومؤرّخ سياسي أمريكي ( وطبعاً المرحومان سوسة والمسيري).
الفيلسوف الفرنسي هو روجيه غارودي (1913) الذي نشر كتابه " الأساطير المؤسِّسة للسياسة الإسرائيلية" بالفرنسية أولاً سنتي 1995 و1996 [10]، ثمَّ تُرجِم إلى عدد من اللغات العالمية من بينها العربية. وتناول فيه أساطير " الوعد" و" الشعب المختار" و" أشعيا الذي قتل الفلسطينيين وأخذ أرضهم" و " معاداة الصهيونية للفاشية"، و " قتل ستة ملايين يهودي على يد النازيّين"، و " أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض".
أمَّا المؤرِّخ الإسرائيلي، فهو شلومو ساند، الذي ولِد من أبوَيْن يهوديَّيْن بولنديَّيْن، في النمسا سنة 1946 وهاجر به والداه إلى فلسطين طفلاً، وكان في طفولته صديقاً للشاعر محمود درويش عندما كان طفلاً في حيفا. ثمَّ أصبح شلومو أستاذاً في جامعة تل أبيب، ونشر سنة 2008 كتاباً بالعبرية عنوانه " متى وكيف اخْتُرِِع الشعب اليهودي" تُرجم إلى الإنجليزية سنة 2009، بعنوان " اختراع الشعب اليهودي" [11]. أكد فيه أنَّ اليهود لا ينتسبون إلى " عرقٍ " يهوديٍّ واحد، فاليهودية دين اعتنقه أناس من شعوبٍ مختلفة، شأنها شأن المسيحية والإسلام بعدها. وأنَّ الوثائق التاريخية لا تؤيّد أسطورة نفي الرومان لجميع اليهود من فلسطين، وإنَّما لمجموعة منهم، وأنَّ نخبةً من المثقَّفين اليهود الألمان، أخذت على عاتقها إطلاق الحركة الصهيونية ومهمة اختراع " قومية يهودية" كردِّ فعلٍ أو تقليد للقومية الألمانية المتوقّدة في القرن التاسع عشر. وأن فكرة عودة اليهود إلى أرض " الميعاد" ظهرت مع مولد الصهيونية، ولم تكن (القدس) إلا أرضاً مقدّسة تُزار ولكن لا يسكن فيها اليهود، تماما مثل مكّة التي يحجّ إليها المسلمون ولكن لا يستوطنونها.
أمَّا المؤرِّخ الصحفي الهنغاري البريطاني فهو آرثر كويستلر (1905 ـ 1983) ، وهو يهودي هنغاري ذهب إلى فلسطين سنة 1926 وعاش في مستوطنة يهودية زراعية، ثمَّ غادرها إلى فرنسا، وبعدها استقرَّ في بريطانيا، ونشر سنة 1976 كتابه " القبيلة الثالثة عشرة: إمبراطورية الخزر وتراثها " [12]، بعد بحثٍ دقيقٍ استمرَّ سنواتٍ طويلةً في المصادر الإسلامية والمسيحية والتركمانية، وكأنّه يبحث بأمانةٍ عن أصله ونسبه هو. وأثبتَ فيه أنَّ الخزر هم من القبائل التركية التي كوّنت إمبراطورية ممتدّة من البحر الأسود إلى بحرِ القرم، وفي القرن الثامن الميلادي ( سنة 740م على وجه التحديد) اعتنقوا الديانة اليهودية. وعندما انهارت إمبراطوريتهم، نزح كثيرٌ منهم خلال القرنيْن الميلاديّيْن الثاني عشر والثالث عشر إلى بلدن أوربا الشرقية المحاذية لأراضيهم، وعلى وجه الخصوص إلى أوكرانيا، وبولندا، وبلوروسيا، ولوثوينيا، وهنغاريا، وألمانيا. ومن يدقِّق النظر في صورة شخصية التقطت للمؤلِّف كويستلر نفسه سنة 1948، ومنشورة على الشابكة، يتأكّد من أنَّ ملامح وجهه أقرب إلى الخزر الذين استقروا في هنغاريا، منها إلى وجوه أحفاد القبيلة العروبية التي هاجرت مع سيدنا إبراهيم من مدينة أور جنوبي العراق في اتجاه الشام ومصر وأُطلق على أبنائها اسم " العبرانيِّين" لعبورهم نهر الفرات.
أمّا الأمريكي، فهو المفكر والباحث القانوني والأستاذ الجامعي والدبلوماسي الدكتور الفريد ليلينثال (1915ـ2008)، وهو يهودي من مدينة نيويورك، حاز على الدكتوراه من جامعة كولومبيا الشهيرة، وحارب في صفوف الجيش الأمريكي في الحرب العالمية الثانية، وأعلن عداءه للصهيونية وإقامة دولة إسرائيل خوفاً من أن يتسبّب ذلك في ازدواجية الولاء لدى اليهود الأمريكان، وخوفاً من مشاعر العداء في الشرق الأوسط ضد الولايات المتحدة الأمريكية. ولهذا كثرت كتبه ومقالاته ضد الصهيونية، وإسرائيل قبل إنشائها وبعده، مثل " إسرائيل، أي ثمن؟"، و " الرابط الصهيوني" . وما يهمنا هنا كتابه " اليهود ليسوا عرقاً" [13] الذي برهن فيه ـ استناداً إلى مراسلات ثبتتْ صحتها جرت بين سنتي 936 و 950 بين خاقان يوسف من مملكة الخزر وبين اليهودي الأندلسي هسداي ابن شبروت الذي كان يعمل في قرطبة مساعداً في الشؤون الخارجية لخليفة الأندلس عبد الرحمان الثالث (277ـ350هـ، وحكم من 912ـ961م) ـ على أنَّ ملك الخزر المسمى بولان اعتنق اليهودية حوالي سنة 740م، ثمَّ تبعه بعد ذلك نبلاء البلاد ثم الشعب الخزري. ويستدلُّ الدكتور ليلنثال من ذلك ومن أدلة تاريخية أخرى، أنَّ اليهودية هي ديانة اعتنقتها جماعاتٌ مختلفةٌ في أصلها وعرقها.
وكان الدكتور أحمد نسيم سوسة قد أثبتَ كذلك، اعتماداً على المؤرِّخين العرب وعلى الوثائق اليهودية، أنَّ الدين اليهودي انتشر بعد النبي موسى بين الأُمم والأجناس، وإنْ ظلَّتْ محتفظة بلغاتها، وبقيتْ تعيشُ في أوطانها، وواصلتْ ممارسة عاداتها وتقاليدها، وأنَّ التبشير بالدين اليهودي، بدأ بعد كتابة التوراة في بابل، فانتشرت اليهودية في الحبشة والجزيرة العربية وبلاد القوقاز، وبلاد المغرب وغيرها، حتى قرَّر أحبارُ اليهود غلقَ باب التبشير في منتصف القرن الثالث عشر الميلادي. ويستند في ذلك كذلك على المؤرخين العرب ومنهم ياقوت الحموي الذي ذكر في كتابه " معجم البلدان " أن بني قريظة وبني النظير كانوا من القبائل العربية التي اعتنقت اليهودية في جزيرة العرب، وهم ليسوا من قوم موسى في مصر.
وقد أوردنا هذه الإشارات إلى هؤلاء الباحثين لنثبت فيما بعد كيف يختلف الدكتور أحمد شحلان عنهم في منهجيّته المتعلِّقة بتفنيد الأساطير الصهيونية؛ فهو يستخدم التوراة ذاتها في دحض تلك الأساطير.
الدكتور أحمد شحلان والأساطير الصهيونية:
يفنّد الدكتور أحمد شحلان، في كتابه " التوراة والشرعية الفلسطينية"، الأساطير الصهيونية، وأهمّها:
إنَّ أرض فلسطين هي مهبط الديانة اليهودية.
إنَّ الربَّ وعد اليهود بأن تكون أرض فلسطين لهم.
إنَّ جميع اليهود ينتمون إلى تربة فلسطين قبل أن يجليهم منها الملك البابلي نبوخذ نصر. ولهذا فإن لكل يهودي الحقّ في العودة اليوم إلى موطنه الأصلي فلسطين. طبقاً لـ " قانون العودة الإسرائيلي".
تستند الإدعاءات الصهيونية إلى العهد القديم. ويتكوّن العهد القديم من "التوراة" التي لا تشكّل إلا ثلثه، ومن "التلمود" الذي كتبه أحبار اليهود في بابل أثناء نفيهم في القرن السادس قبل الميلاد، وما بعده. وهذا التلمود هو مرتكز العقيدة اليهودية اليوم، ولكنه موضع خلاف بين اليهود أنفسهم. إذ انقسم اليهود إلى ربيِّين وسامريّين. فالربّيون يؤمنون بالعهد القديم كلّه بقسميه: التوراة والتلمود؛ في حين يرفض السامريّون والمتنورون من اليهود مثل الفيلسوف اليهودي سبينوزا الأخذ بالتلمود، ويميزون بين العقيدة اليهودية الصرف وبين التلمود الذي يعدّونه تاريخاً كتبه البشر، وهو كأي تاريخ آخر يصيب ويخطئ.
ومع أن العهد القديم في معظمه من وضع أحبار اليهود وليس نصّاً مقدَّساً، فإنَّ الدكتور أحمد شحلان يستخدمه في تفنيد أساطير الصهيونية التي استندت إليه، على الوجه التالي:
– أولاً، إنَّ فلسطين ليست مهبط الديانة اليهودية. فاليهودية بدأت مع النبي موسى (ع) عندما تجلّى له الربُّ، طبقاً للتوراة نفسها. فقد ورد في سفر الخروج 3/1ـ2:
" أمّا موسى فكان يرعى غنم حميه يثرون كاهن مدين. فقاد الغنم إلى ما وراء الطرف الأقصى من الصحراء، حتى جاء إلى حوريب، جبل الله. وهنا تجلّى له ملاك الربّ بلهيب نار وسط عليقة."
ومدين ليست في فلسطين، وإنَّما في صحراء سيناء، كما هو واضح من النصّ أعلاه. وقد توفّي موسى ولم يدخل أرض فلسطين مطلقاً، كما هو واضح من سفر التثنية، الإصحاح 34/4ـ5:
" وقال له الربّ: هذه الأرض التي أقسمتُ لإبراهيم وإسحاق ويعقوب إنني سأهبها لذريتهم، قد جعلتك تراها بعينيك، ولكنّكَ إليها لن تعبر. فمات موسى عبد الرب في أرض مؤآب..."
– ثانياً، إن الربّ لم يعِد اليهود بأرض فلسطين، وإنما طبقاً لتوراتهم، وعد إبراهيم ونسله كذلك. والوعد طبقاً للتوراة لا يشمل فلسطين فقط، وإنما أرضاً أوسعَ منها بكثير، فقد ورد في سفر التكوين، الإصحاح 15/18:
" سأعطي نسلكَ هذه الأرض من وادي العريش إلى النهر الكبير نهر الفرات.."
ومعروفٌ أنَّ لإبراهيم ولدَيْن هما: إسماعيل وإسحاق، ويتكوَّن نسله ممن خلَّفه ولداه، كما هو واضحٌ من سفر التكوين، الإصحاح 15/3ـ4:
" وقال إبرام أَيضاً: إنك لم تعطني نسلاً. وها هو عبدٌ مولودٌ في بيتي يكون وارثي. فأجابه الربّ: لن يكون هذا وريثاً، بل الذي يخرج من صلبك يكون وريثك."
وإسماعيل هو من صلب إبراهيم، فهو من نسله ووريثه كذلك.
– ثالثاً، إنَّ القول بأن جميع اليهود ينتسبون في الأصل إلى أرض فلسطين، مخالفةٌ صارخةٌ لكل الوقائع التاريخية، سواء تلك التي وردت في التاريخ العام أو في العهد القديم ذاته. فالعبرانيون ـ وهم من قبيلة سامية (عروبية) عبرت نهر الفرات، بعد أن غادر جدّهم إبراهيم بن عابر بلده أور البابلية التي ولد فيها، واتّجه إلى مصر، واستقر في جاسان التي تقع في دلتا النيل شمالي مصر ـ هم الذي اُطلق عليهم فيما بعد اسم اليهود السفردين.
أمّا اليهود الأشكيناز، وهم المسيطرون على الأمور في إسرائيل اليوم، فهم ليسوا من هؤلاء العبرانيين، وإنّما في الأصل من الخزر الذين سكنوا بلاد القوقاز بين بحر قزوين والبحر الأسود، جنوبي روسيا الحالية. وقد تهوّدوا في القرن الثامن الميلادي. فهم لا علاقة تاريخية لهم تربطهم بفلسطين مطلقاً.
أمّا وجود ضريح إبراهيم الخليل في فلسطين، فسببه أنَّ الرجل استقرّ فيها في أواخر حياته بمفرده، إذ بقي حفيده يعقوب في جاسان المصرية مع ولده يوسف. ولم يكُن إبراهيم يهوديّاً، لأنَّ اليهودية بدأت مع النبي موسى الذي هو من نسل إبراهيم، كما بدأ الإسلام مع النبي محمد الذي هو من نسل إبراهيم كذلك.
– رابعاً، إنَّ الادعاء بأنّ " قانون العودة" في إسرائيل هو تصحيح لفعل الملك البابلي نبوخذ نصر الذي أجلى اليهود من فلسطين إلى بابل سنة 586 ق.م. ، فإنه ادعاء متهافت، لسببين، كما تذكر التوراة:
تشير التوراة إلى أن الملك الفارسي كورس ( الذي احتل بابل سنة 539 ق.م.) قد سمح بعودة اليهود من بابل إلى فلسطين. وواضح أن جلاء اليهود من فلسطين آنذاك لم يشمل الأشكيناز، لأنهَّم لم يكونوا يهوداً ولم يكونوا في فلسطين آنذاك، وإنما كانوا في أوروـ آسيا، ولم يتهوّدوا حتى القرن الثامن الميلادي، كما ذكرنا.
وإذا قيل أن " قانون العودة" هو تصحيح لفعل الأمبراطور الروماني طيطوس الذي حاصر القدس ودمَّر هيكل اليهود سنة 70م، فإن الخليفة عمر بن الخطاب عندما دخل القدس سنة 15هـ / 636م قد أعطى " العهدة العمرية" للمسيحين ضامناً لهم الحرية في ممارسة عقائدهم، وأعطى الأمان لليهود وسمح لمن أُبعِد منهم عن فلسطين بالعودة إليها [14].
بهذا المنطق السليم، المستند إلى العهد القديم نفسه، يفنّد الدكتور أحمد شحلان أساطير الصهيونية، دفاعاً عن الحق والحقيقة. وتُظهر لنا مؤلفاته القيمة جوهر الباحث الموضوعي وصلابة الوطني الغيور في آن واحد.
بقي أن نضيف إلى ذلك، أنَّ تحرّي الدكتور أحمد شحلان الصدقَ في بحوثه، والأمانة العلمية في نقله، دليلٌ على نبل أخلاقه وسموّها، وكرم نفسه ونقائها؛ فنحن نؤمن بالمبدأ الفلسفي القائل بوحدة الأخلاق.
(*) دراسة قُدِّمت في ندوة «الدكتور أحمد شحلان» التي أقامتها كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، لتكريمه، بوصفه أحد أساتذتها المبرّزين