الثلاثاء ٢ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٨
في الذكرى الأربعينية لوفاة المشمول برحمة الله

الأستاذ عبد اللطيف الشادلي

عثمان المنصوري

تحل بنا الذكرى الأربعينية لوفاة أستاذي وصديقي وأخي المرحوم بكرم الله عبد اللطيف الشادلي، ونحن لم نفق بعد من شدة الصدمة التي حلت بنا لوفاته في عز عطائه، ونحن أحوج ما نكون لإسهاماته المتميزة في مجال البحث التاريخي. ومنذ تلقيت نبأ وفاته وأنا أرغب في كتابة كلمة تأبين، في حق الفقيد، للتعريف بأفضاله على البحث التاريخي، وريادته ومواقفه المتعددة، لدى هذه الأجيال من الباحثين الجدد الذين لم يسعفهم حظهم بالتعرف عليه والاستفادة من خبرته، وأيضا لتذكير زملائه من طلبة وأساتذة وغيرهم بمكانته وببعض مآثره وسجاياه، إلا أنني كلما هيأت نفسي للكتابة، تنثال علي الذكريات والصور والمواقف دفاقة، وتنكأ جرح الأسى، وتأخذني معها، فأجد أن أي كلام أو تعبير أصغر بكثير من أن يشي بصدق عن صداقة عمرت نصف قرن تقريبا، وعن مشاعر تلميذ إزاء أستاذه، وأخ إزاء أخيه الأكبر، وباحث صغير أمام قدوته ومرشده وداعمه في مجال البحث.

أحتاج في كلامي عن أستاذي إلى صفحات طويلة، ولا يمكن لي أن أتكلم عنه بدون أن أتكلم عن نفسي، لأن مساري ارتبط به ارتباطا وثيقا، وقد عبرت عن ذلك في مقدمة الكتاب الذي أنجزته الجمعية المغربية للبحث التاريخي تكريما له، بعنوان: التصوف والمجال والإنسان. لكنني سأحاول في هذه الكلمة استحضار بعض ملامح شخصيته من لحظتين اختزنتهما الذاكرة، وحافظت عليهما : الأولى تعود إلى أكتوبر من سنة 1968، والثانية منذ حوالي سنة. وبين اللحظتين تغيرت أشياء كثيرة في حياتينا، ولكن الأستاذ عبد اللطيف الشادلي لم يتغير!

أذكر جيدا تفاصيل اللحظة الأولى، لحظة التعرف على المرحوم لأول مرة، وكان ذلك في ثانوية النهضة بمدينة سلا، وكان حينئذ شابا بل فتى في مقتبل العمر، لا يتعدى سنه الواحدة والعشرين، حديث عهد بالتعيين أستاذا لمادة التاريخ والجغرافية، وكنت في السابعة عشرة من عمري، وفي قسم الباكلوريا، بنفس الثانوية، وأتذكر الفصل الذي كان في الطابق الأعلى من الثانوية، وعند صعودنا من الاستراحة، كنا ننتظر بشغف معرفة الأستاذ الجديد الذي سيدرسنا المادة ولا نعرف منه إلا الاسم. بعد لحظات من دخولنا قدم إلينا مدير الثانوية المرحوم الأستاذ أبوبكر القادري، ومعه شاب صغير السن، اعتقدنا أنه تلميذ جديد، وفي الفصل من هم أكبر منه سنا. وقفنا احتراما كالعادة، وظل الفتى واقفا إلى جانب المدير، وتأملناه فوجدناه في كامل الأناقة، بالبذلة وربطة العنق، وينظر إلينا نظرات حازمة. أما المدير فقد قدمه لنا قائلا إنه الأستاذ الجديد لمادة التاريخ والجغرافية، وأنه خريج الجامعة، ومجاز، وأوصانا بالتعاون معه والجد من أجل كسب رهان الباكلوريا في نهاية السنة.

بعد خروج المدير، انتظرتنا مفاجأة ثانية، فالأستاذ الجديد لم يتركنا نلتقط أنفاسنا ونستوعب الموقف، لأنه وعلى غير المعتاد، شرع في إلقاء الدرس، بدون مقدمات التعارف المعتادة، وبدون إضاعة للوقت. بل وفرض على الجميع احترامه والانتباه إلى ما يقدمه من شروح وتوضيحات، بجدية وتركيز، وضبط لفصل ألف أن يتخذ من حصة التاريخ والجغرافية فترة للاستراحة من وعثاء المواد الأخرى. ربح الأستاذ رهان الحصة الأولى، وفرض علينا إيقاعه، وعلمنا الاهتمام بالمادة التي يدرسها، وحببها إلينا بالتدريج، ولم يكن فظا غليظ القلب، ولكنه كان مهابا ومحترما، وأكثر من ذلك محبوبا. لأننا لمسنا فيه حرصا على مصلحتنا وتفانيا في خدمتنا وتشجيعا لنا على بذل أقصى ما نستطيع لتحقيق طموحاتنا البعيدة. فكان إلى جانب أساتذة من سنه وطينته مثل الأستاذ مصطفى زباخ ومحمد سبيلا، مشاعل أنارت طريقنا في تلك الفترة الهامة من حياتنا.

ظلت صورة الفتى عالقة بذاكرتي دائما، رمزا يحيل دائما على أستاذي، وزاد من تعميقها أنه ظل دائما، وفي كل المناسبات التي التقيته فيها، أنيقا نضرا، وكأن المرض الذي أنهك جسده من الداخل، لم يستطع أن ينال من صبره وعزيمته. وكان حريصا دائما على أناقته وحسن مظهره، ومتجلدا لا يبدي ضعفه ولا يبث أحدا همه وألمه، ويتحامل على نفسه، حتى في السنوات الأخيرة التي بدأ المرض يكسب عليه النقطة تلو الأخرى، ويفرض عليه التكيف مع الواقع الجديد لأحواله الصحية.

يمر أمام ناظري شريط حياة الأستاذ عبد اللطيف الشادلي، وهو دائما متوهج النشاط، طموح، سباق ومتجدد، أراه أستاذا بثانوية النهضة، يبث في تلامذته بعضا من طموحه، ويغذيهم بالأمل، ويمحصهم النصيحة. أراه وهو يهون عليّ التسجيل في شعبة التاريخ والجغرافية، ويحثني على ارتياد هذا العالم الذي لا صلة له بالأدب الذي كنت شغوفا به، وأتذكر المرات التي كنت أتصل به فيها بالقرب من بيته في حي الرمل بسلا، وأستمع بإمعان إلى توجيهاته، ويفرح لنجاحاتي، ويشاركني الفرحة كأنني ابنه. أراه وقد أصبح أستاذا بكلية الآداب، وعضوا نشيطا في شعبتها ومحررا من محرري مجلتها، ثم أراه وقد ناقش رسالة دبلوم الدراسات العليا عن المجاهد العياشي، وافتخارنا نحن تلامذته بهذا الإنجاز، ففي ذلك الوقت، كان حاملو هذه الشهادة يعدون على أصابع اليد، وأراه أستاذا في السلك الثالث في تخصص التاريخ الحديث، حيث درست عليه، وكان دائما منبع أفكار لا تنضب، وشعلة نشاط، ومحفزا قويا للعمل الجاد.

اراه مؤسسا للجمعية المغربية للبحث التاريخي مع أستاذه محمد زنيبر وآخرين، وهو يستقبل في بيته زمرة من رواد البحث التاريخي في المغرب، في فترة عصيبة من تاريخ المغرب. أراه بعد ذلك عميدا لكلية الآداب عين الشق، في مبنى ليس له من الكلية إلا الاسم، وأتابع خطواته وإصراره، والجهود المضنية التي بذلها ليحول تلك الأبنية القديمة إلى كلية مرموقة، ويضع لها مكانة بين كليات الآداب المغربية، وفي هذه الفترة، ظهرت شخصية العميد، الإداري الحصيف، المتمكن من عمله، التي لم تخفِ شخصية الباحث والأستاذ، وتعايشتْ معها جنبا إلى جنب. في هذه الفترة أشرف على رسالتي الجامعية عن التجارة بالمغرب في القرن 16، وفيها أيضا أنجز أطروحته المتميزة والرائدة عن التصوف والمجتمع. أراه وقد انتقل إلى مكناس رئيسا لجامعة مولاي اسماعيل، ولم تشغله مهمته الجديدة عن المشاركة في التظاهرات العلمية ومناقشة الأطروحات الجامعية، ونشر الكثير من المقالات والكتب.

وأراه عضوا في لجنة مناقشة أطروحتي التي اقترح علي موضوعها، وأشرف عليها، وأذكر أساريره المتهللة، وابتهاجه الذي ضاهى ابتهاجي بحصولي على شهادة الدكتوراه، ولا عجب في ذلك، ألست ابنه الروحي؟ وصديقه في مسار طويل؟ وأراه وقد عاد إلى الرباط، ليبدأ مسارا آخر في مديرية الوثائق الملكية، تميز بإصدارات هامة، متنوعة، وتتطلب صبرا ومثابرة، وتتسم بالتجديد، وقد أشرت إليها جميعها في الكلمة التي قدمت بها كتاب التصوف والمجال والإنسان. أراه وقد أجرى عملية جراحية على القلب، لا يستسلم للراحة، وينظم حياته لتتكيف مع واقعه الجديد، بدون أن يترك رفيق عمره، الذي توله في حبه، وأعطاه كل طاقاته: البحث التاريخي الذي مارسه إلى آخر حياته.

يمر أمامي هذا الشريط المفعم بالنشاط والحيوية، والعطاء وغزارة الإنتاج، ونكران الذات، فأجد أستاذي دائما بنفس الصورة: صورة الفتى الأنيق، المنظم المفعم بالحيوية، بابتسامته الخفيفة، ورصانته الطبيعية، ومهابته، وحرصه – حتى في ساعات غضبه- على اختيار كلامه، بصراحة وبدون جرح أو خدش، مع أن مسؤولياته المتعددة تتطلب الصرامة في أحيان كثيرة.

أصل إلى اللقاء الأخير، كنت بصدد إعداد كتاب جماعي تكريما للأستاذ عبد اللطيف الشادلي، وقد لاحظت أنه لم يحظ بتكريم مماثل، واتصلت ببعض طلبته وأصدقائه وبعض الباحثين في الفترة الحديثة، وتجمعت لدي مادة غنية كافية لإصدار الكتاب، وحين أفصحت له عن الفكرة، رفض بشدة، ولدي مراسلات معه، حاولت فيها إقناعه عن التخلي عن موقفه. قلت له إن الكتاب ليس ملكا لك، إنه هدية، وليس من شيمتك أن ترفض الهدية، وخاصة أنها من أصدقاء يحبونك ويقدرونك، وضرب لي موعدا بالرباط، في مقهى في وسط المدينة تعود أن يقضي بها بعض الوقت قبل الذهاب إلى البيت في ساعات مضبوطة لا يتأخر عنها. لقيته وقدمت له بعض المنشورات، ووجدته هاشا باشا كعادته، وفي أناقته المعهودة. كانت وطأة المرض قد بدأت تشتد عليه، ولكنه ظل إلى آخر أسابيع حياته يصر على الذهاب إلى العمل. في هذا اللقاء كان مشرقا، وتحدث معي عن موقفه، فقال لي إنه لا يستطيع تحمل اللقاءات الزاخرة بالمشاعر، ولا يرتاح للمناسبات العامة، لم يذكر لي شيئا عن حقيقة مرضه، ولم أفهم ذلك لأنني رأيت أمامي فتى جلدا نضرا، لم تنل منه الأيام، ولم يدر بخلدي أن أستاذي يعتذر اعتذارا خفيفا بدون أن يفصح عن حقيقة عذره. واحترمت رغبته، وصدر الكتاب ولم نقم لصدوره الاحتفال المطلوب، لأن الكتاب احتفاء ولا يمكن أن نحتفي بدون المحتفى به. كان لقاء عابرا أقنعته فيه بفكرة الكتاب، وأرجأنا الحديث عن حفل التكريم. حين ودعته اتفقنا على لقاء آخر، فلدي دائما كلام كثير أبادله معه، وأفكار أستشيره فيها، ووعدني بذلك، وكانت المرة الوحيدة التي أخلف فيها الموعد معي، لأن المرض ضيق عليه الخناق.

لحظتان متباعدتان في الزمان، لكن الشخص هو نفسه، والفتى الذي تعرفت عليه في أكتوبر 1968 ظل نضرا على الدوام، ذلكم أستاذي عبد اللطيف الشادلي، الفتى الذي لا يشيخ، والذي بوأه ولعه بالتاريخ مكانة بين الشماريخ.

أختم برجاء إلى كل أصدقاء ومحبي أستاذي عبد اللطيف الشادلي، وكل من يقرأ هذه الكلمة، أن يقرأ، بمناسبة أربعينية الفقيد، الفاتحة على روحه الطاهرة، وأن يدعو الله له بالرحمة والمغفرة والرضوان وأن يسكنه فسيح جنانه ويلهمنا جميعا الصبر والسلوان إنه سميع مجيب.

عثمان المنصوري

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى