الجمعة ١٣ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٦
بقلم بشير خلف

الإبداع الأدبي أهو نقْمة ، أم نعمة على مبدعه ؟ !!

يوم أطلق الجاحظ كلمته المأثورة منذ قرون ، ما أطلقها عفْويا إنما بعد تروٍّ وتجربة ميدانية وخبرة حياتية معيشة :
» ... المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والبدوي والقروي و ...« وذلك إثر استماعه إلى كلام منظوم فيه عظة ، وحكمة أعجبت بعض العلماء يومئذ ،وأعجبت الجاحظ عينه من ناحية ما اشتمل عليه هذا الكلام من ثراء المعاني وتنوعها ؛إلا أنه لم يجعل صاحب هذا الكلام المنظوم شاعرا،لأن الإجادة كانت إلا في المعنى وحده .. والمعاني مطروحة في الطريق أمام كل الناس .. وما أكثرها ! المعاني مطروحة
إن المعاني إذا كانت مطروحة في الطريق لا محالة فإن الذي يلتقطها بذكاء ، ويقدمها لغيره ثمرة ناضجة ، نضرة ،طيبة الطعم ،لذيذة المذاق هو " الفنان الأصيل الموهوب " .

إن الأدب ليس معاني وأفكارا فقط ،وليس صورا وتراكيب وحسب ،وإنما هو نتاج لعبقرية كامنة في نفس صاحبها ،تبدو في تأليف المعاني الممتازة ، والعبارة الجيّدة،والاهتداء إلى أفكار غير معروفة وغير متداولة .ومن يقدر على هذا غير الأديب الفذ المبدع الصادق في إبداعه .
غير أن معاناة المبدع الحق وهو يقدم عصارة أفكاره للغير ليست بالأمر الهين أو بالشيء السهل ،خصوصا إن كان المبدع وكيفما كان إبداعه يحيا بين ظهراني قوم تسود فيهم الأمية بأوسع مدلولاتها وآخر ما يفكرون فيه :المعرفة والثقافة ..إن معاناة الفنان المبدع وليكن رساما أو نحاتا .. موسيقيا .. شاعرا .. مسرحيا .. روائيا .. فالأمر سيان .. إن معاناة الفنان في هذه الحالة قد لا تتأتى في كثير من الأحيان نتيجة صعوبة عملية الإبداع فقط ، ولكن تكْمن المعاناة في المحيط الاجتماعي بكلّ مكوّناته ، وصُوره ، وتأثيره في الفرد المتلقّي .

معاناة المبدع

إن الكثير منا يغفل ، أو ينسى وهو في غمرة نشوته بقراءة عمل أدبي ما ، أو التمتع بعمل إبداعي ما ،أن كان وراء هذه النشوة وذلكم التمتع ،تقف شخصيةٌ أدبيةٌ ونفسٌ تبدع قد تكون سعيدة ، وقد تكون تحترق ألما وتتضور معاناة ،وتتمزق عذابا في سبيل هذا العمل الفني الجميل الذي نسعد به ونتلذذ بقراءته.
ولئن كان الطريق إلى المجد محفوفا بالأشواك ، وتعترضه الأهوال والمخاطر،فإن المجد نفسه إلا جحيما يضع المبدع في أتون هذا الجحيم .ومن أصـــدق الذين عبروا عن هذا النوع من المبدعين الفنان الأديب الراحل جبران خليل جبران بقوله :
« لــم أدر ما يحسبه الناس مجدا – واحرّ قلباه – جحيما.. من يبيعني فكرا جميلا بقنطارمن الذهب ؟ من يأخذ قبضة من جواهرَ لبرهة من حبّ ؟ من يعطيني عينا ترى الجمال ويأخذ خزانتي ؟ »

ولعل أحد الفلاسفة الألمان يلتقي مع جبران في ذلك لمّا يقول :
« الحياة قصص ،أجملها ما يكتب بالدماء ».

لكن هل يعرف الناس درجة هذه المعاناة وقيمة الدموع المنسابة ..سيّما في مجتمعنا العربي وبطبيعة الحال فالجواب بالنفي . ومن هنا فالمبدع في هذه البلاد على امتداد رقعتها الشاسعة كثيرا ما يقضي نحبه ضحية الجوع البيولوجي ، أو يختفي رويدا تحت شراسة معول الفاقة والاحتياج مودعا الدنيا غير مأسوف عليه ، والقليل من هؤلاء المبدعين قد يُـرفع شأنهم ، وتُـمدح مآثرهم ، وتُحي ذكراهم فيما بعد ، أو يُكرّمون بعد رحيلهم عن هذه الدنيا كما هو الحال في بلادنا .والشواهد في ذلك كثيرة ....ولقد تطرق إلى هذه المأساة قبل عشرات السنين الفيلسوف الفرنسي الشهير "فولتير" حينما صرخ بحرقة وألم يستنهض ضمائر المجتمعات حتى تلتفت لعباقرتها ومفكريها ، وتقدر قيمتها في حياتها قبل مماتها :

« كلمة واحدة رقيقة أسمعها وأنا حي ، خيرٌ عندي من صفحة كاملة في جريدة كبرى ،حينما أكون قد متُّ ، ودُفنت ».
هذا من الجانب التقديري والمعنوي ،أما إذا تعدّى الأمر إلى الجانب المادي فالمأساة تكون أشدَّ وقعا على نفسية الفنان المبدع .وتبعا لذلك فقضية موارد رزق الأدباء والفنانين والمفكرين مطروحةٌ اليوم مثلما كانت مطروحة في الماضي البعيد أو القريب ،وتأكيدا هي باقيةٌ دوما في الكثير من البلدان المتخلفة التي تضع المعرفة وأهلها في آخر اهتماماتها .
إن عدد المفكرين والمبدعين الذين يعيشون من مردود التأليف الأدبي والفكري في العالم المتقدم ليس بالكثير ، وحتى هؤلاء إبداعاتهم لا تحتضنها دور النشر الكبرى إلا إذا تيقنت أنها ستٌدرّ عليها أرباحا طائلة .وفي كل الحالات فإن المبدع أو الكاتب ما يتقاضاه قليلٌ بالمقارنة مع ما يبقى لدُور النشر .وفي البلاد العربية فالكتابة لا تُطعم خبزا ، ولا تسدُّ رمق متعاطيها مِن الكتاب والمبدعين العرب المعروفين والمجهولين ، ومَنْ يرتزق من مردود قلمه إلا القليل وغالبا ما تكون لهم دورٌ نشر خاصة بهم كالشاعر الراحل نزار قباني ، والشاعرة الكويتية سعاد الصباح ، والكاتب الموسوعة عندنا الدكتور أحمد بن نعمان صاحب دار الأمة للنشر ،وهذا على سبيل المثال فقط .

وحتى المبدعون العرب الكبار في كل البلاد العربية ، والمعروفون بمكانتهم ، وتأثيرهم في الفكر العربي المعاصر ، والذين رحلوا عن دنيانا كانوا موظفين ، أومن رجال التربية والتعليم،ومن هم أحياء اليوم إما موظفون أو دبلوماسيون أو متقاعدون يرتزقون من هذه الوظيفة أو من ذاك العمل ومن اعتقد أنه بقلمه يمكن أن يحيا الحياة الكريمة ،بل العادية فقط أخطأ الاعتقاد.

في بلادنا العربية إن كان المبدع يدرك جيدا أن الكتابة لا تطعمه خبزا ، إنْ لم ينتحرْ احتجاجا على جوع البطن ؛ فإنه قد ينتحر احتجاجا على حرية مصادرة الفكر ، وحرية التعبير.وليس بالضرورة أن يكون الانتحار إنهاءً للحياة الفردية للمبدع،وإنما قد يكون الصمتُ الأبدي والإعراضُ عن القلم ،أو الهجرة إلى فضاءات أخرى أكثرَ حرية ، وأفضل اعتبارا وأحسن تنفسا .

المرحوم توفيق الحكيم يرى أن المشكلة قائمة على أشدها ، فالحكومات العربية أبعدُ ما تكون على الاعتناء بأهل الفكر والتأليف ، مع أن عدد هؤلاء قليلٌ وخاصة مَن انقطعوا لحرفة الكتابة حبّا فيها وشغفا في الإبداع ، إذ الحكومات ترى أن هؤلاء عليهم تحمّل نتيجة اختيارهم ، ليدبّروا لأنفسهم أمر معاشهم . ويذهب في تشخيصٍ موضوعيٍ للمشكلة واضعا فرضية : لو أن السلطة في أي بلد عربي وفرت المعاش لهؤلاء المفكرين والمبدعين ، وانقطعوا كل الانقطاع للتأليف،فالعواقب ستكون وخيمة على الفكر:

« إذا فعلت الحكومة ذلك ثم اقتضت من الأدباء بعدئذ الثمن،وأرادت تسخيرهم في خدمة أهدافها السياسية ، أو أهوائها الحربية،فإن الحال تنقلب شرًّا مما كانت » .

ويخلص توفيق الحكيم إلى النتيجة التالية :
« لخيرٌ للأديب أن يموت جوعا من أن يبيع روحه لشيطان السلطان ».

وإذا كان البعض من أهل الفكر لا يرى الخطر في الجوع البيولوجي – جوع البطن - لأن الكاتب المفكر ... الفنان قد يحيا بالقليل والبسيط من الغذاء ،فإن هناك جوعا أخر أشرس وأفتك به إنْ تعرض له .. إنه الجوع إلى حرية التفكير وحرية التعبير ..جوعه الدائم لتحقيق رؤاه على أرض الواقع .. جوعه المستمر لزرع الكلمة الهادفة .. حلمه الأبدي في عالم جميل ينعم فيه الجميع بالأمن والأمان والكلمة إنْ كانت صادقة ،كانت أحدّ من السيف ..وأمضى من السهام الحادة .والرأي عندنا أن كلا الجوْعين خطرٌ على المبدع ويقضيان عليه نهائيا .

الإنسان من قديم رهين الثنائية

إن الإنسان كيف ما كان وأينما هو..وهو يحيا الثنائية الملازمة له منــذ وجوده على وجْه المعمورة :
البؤس والنعيم .. الرضا والسخط .. الرحمة والقسوة ..الإنسانية والوحشية ..الظلم والعدل .. النفس السمحة .. الطبع الجاف الغليظ ... هذا الإنسان ذو الثنائية في كل شيء ..مجالٌ رحبٌ بدون حدود ..لقلم الأديب وريشة الفنان يستمد منه فنه .. نثره وشعره. ولكن أبمقدور الفنان المبدع كشْف خبايا هذا الإنسان المتناقض إن لم توفر له الشروط الضرورية المساعدة : عيش كريم .. حرية .. اعتبار اجتماعي ومعنوي؟ .والحرية في مدلولها الشامل هي التحرر من كل ما يفرضه الغير بدون حق .
فالمبدع وجوده مرهون بتوفر الحرية ..وبطبيعة الحال ليست الحرية المطلقة .. الحرية التي تسيء إلى الآخرين .. بل الحرية التي تقف حيث تبدأ حرية الغير . فالإشباع البيولوجي ، والإشباع الكينوني – إن صحت العبارة – للمبدع كلاهما يكمل الآخر .

الأديب المبدع بين أنياب الفاقة وذلّ التكسّب

إن ظاهرة الفاقة أدركت الكثير من أهل الأدب منذ الأزمنة الغابرة ولا تزال.وهي في الحقيقة ليست لعنة انصبت على رؤوسهم طالما أنهم احترفوا الأدب أو احترفهم هو .. واتخذوا القلم أداة لنشر أفكارهم ورؤاهم في الناس .. وعلى الناس .وبنظرة أعمق ، إن هناك عوامل محيطية وموضوعية وأخرى ذاتية ترتبط بظاهرة الاحتياج المادي التي لازمت هؤلاء،ومن الواجب والحالة هذه طرح السؤال التالي:

ـ هل هناك علاقة بين الأدب ، وفاقة الأديب المبدع ؟ أو بين الأدب وإقبال الدنيا ولين العيش عنه؟

إن هذه العلاقة قد لا تظهر جلية إذا كان الأديب لم يتخذ من الأدب وسيلة للعيش .. ولا مطية لتحصيل المال .. فقد يكون ذا سعة من الرزق ، وعلى قدْر وافٍ من يُسْر الحال ، وسعة المال يُغنيه عن التكسب بأدبه .ولكن إذا كنا نعرف أن الأدب فكرٌ وموقفٌ ..ورأي شخصي ناضج ..ورؤية شخصية متميزة ومتفردة تبرز إلى النور بعد تفكير وتروٍ عن نفس سامية في شكل عملٍ فنيٍّ جميل؛ فإن أصحاب الأفكار والآراء بعامة مُستهْدفون من أصحاب القرار ، ومن المحيط الاجتماعي في البعض من فئاته ممن يشكل الفكرُ والمعرفةُ والتنويرُ خطرا على مصالحهم آجلا أو عاجلا ..وبلادنا في محنتها الأخيرة نموذج لمعاناة الكتاب ، والمفكرين والمبدعين ..نموذجٌ في التنكيل والتعذيب .. نموذج في الاغتيال البشع لكُتّاب ، ومبدعين ، وإعلاميّين من خير رجالات الجزائر ، ذنبهم أنهم ذوو مستوى رفيع من الفكر والمعرفة ، وأهل مواقف حرّة فيما كان يجري بالوطن أيّامها .

التكسّب بالأدب ظهر من قديم

إن التكسُّب بالأدب لم يبدأ مع ظهور الشعر السياسي ، ووجود السلطة الحاكمة سواء في بساطة الحكم أو في تعقيده،حيث بدأ التكسب قبل ظهور الإسلام بكثير،واحترف الشعرَ الكثيرُ من الشعراء،ونجد في مقدمة هؤلاء:الشاعر المعروف زهير بن أبي سلمى الذي عُرف بشاعر الحوليات .انقطع لمدْح جماعة من سادة غطفان وأثريائها وبخاصة هرم بن سنان ، والحارث بن عوف .

وقد اتسع التكسب بالشعر فيما بعد ليصبح ظاهرة في العصور الإسلامية المتتالية، فكانت الحاجة المعيشية تدفع الشاعر إلى ركوب متون القوافي ليحطّ الرحال أمام أبواب الممدوحين من أهل السلطة والجاه وذوي اليسر .
وبتغيّر الحال في زمننا هذا ، واتساع فنون الأدب ، وتنوع مجالات الفكر والتعبير ، وانتشار وسائل المعرفة والترفيه،وانصراف أغلبية الناس عن الفنون الأدبية وخصوصا المقروءة منها إلى الفنون المرئية والمسموعة ،نرى أن العلاقة بين الأدب وبين ما أصاب جلَّ الأدباء الذين نُكبوا في حياتهم لا تعود إلى الأدب وحده ، وإنما تعود أيضا إلى دور النشر لاهتمامها بجانب الربح المادي على اعتبار أنها مؤسسات تجارية بحتة ..علاوة على أساليب ذاتية عائدة للمبدع نفسه ، وتخلّي الدّولة عن دعْم الكتاب ، وطبعه ، ونشره ، وتوزيعه.

احترافٌ للأدب دافِعُـه التكسّب

لا بأس إنْ تعرضنا في الفقرات الموالية إلى أشعار بعض الذين احترفوا الأدب تكسبا للقمة العيش،أو شغفا بالأدب قبل أي اعتبار آخر.. غير أن عوادي الزمن كانت قاسية عليهم..ولعل من أوائل الأدباء الذي شرح سوء حاله ..باكيا حظه العاثر "جحظة البرمكي " وهو من بقية البرامكة قد عمَّر طويلا حيث تخطى المئة سنة،وكان صديقا لأبي فرج الأصفهاني صاحب كتاب الأغاني .

كان جحظة خزانة أدب ،وظرافة ، ومناظرات فكرية وأدبية في زمانه ..كان متعدد المواهب وشاعرا رقيقا.هاهو يصف- في أبيات شعرية مؤثرة – فاقته ، وسوء حاله ، وسوء مسكَنِه وإرهاقه بكراء هذا المسكن ..فيقول :

الحمـد للـه ليـس لي كاتب * ولا على بـاب منزلي حاجـب
ولا حمـار إذا عـزمت على * ركوبـه ..... جحظـة راكــب
ولا قميص يكون لي بــدلاً * مـخـافة من قميصي الذاهـب
وأجرة البيت فهي مُقرحة * أجـفان عيني بالوابـل الساكب
ويثور على نفسه ، وعلى الأدب وما جرّه عليه من الويل ، فنسمعه يقول :
حـسـبي ضجرت من الأدب * ورأيـتـه سـبـب العـطـب
وهجرت إعراب الكــــلا * م ، وما حفـظت من الخطـب
ولعل أبلغ رثاء للنفس ..وعرْضا لسوء الحال في هذه الأبيات لجحظة نفسه :
ما أنصفتني يـد الزمـان ولا * أدركـتني غير ( حرفة الأدب )
لا حفـظ اللـه حيثما سلكتْ * أمـي ولا جـاد الغيثُ قبرَ أبي
مـا تركا درهـما أصون به * وجهـي يـوما عن ذلّة الطل

سجلاّت التاريخ عامرةٌ بمعاناة أهل الفكر والإبداع

معاناة المفكرين والأدباء ثقُلت بها سجلات التاريخ الإنساني ، ومآسيهم في الشرق والغرب وعبر كل الأزمنة .وإن الذين درسوا تاريخ مسيرة الفكر العربي خصوصا يذكرون جيدا تراجيديَا المفكر الطبيب الفيلسوف ابن رشد في طريقة نفيه ، واضطهاده ، وحتى إحراق كتبه التي تمجّد العقلَ ، وتسبٍِّح بمكانة الإنسان في الكون ، وبعظمة خالق هذا الإنسان ..
إن الدارس لتاريخ الفكر لَواجدٌ لا محالة الكثيرَ من أولئك الذين شكّلوا نقاطا مضيئة في تاريخ الفكر الإنساني بما في ذلك تاريخ الفكر العربي.. وأصابهم من الويل ما أصاب كلَّ من حمل القلم بشرف عبر التاريخ ،دفاعا عن الحق بالكلمة الملتزمة الصادقة.. والرؤى المشرقة.وما كان الثمنُ الفاقةَ والحرمانَ والجوع البيولوجي فحسب ؛إنما دفعوا حياتهم ثمنا لأفكارهم النيرة ، ومن هؤلاء كما هو معروف عبد اللـه بن المقفع ، وعبد الحميد الكاتب اللذيْـن جُلِدا جرّاء البوْح بأفكارهما بسياط الخلفاء وجلاديهم ..بيد أنهما ما تراجعا عمّا اعتقداه حقا ..إيمانا منهما بأن صوت الكلمة أقوى من سياط الجَلْد ولسعات السيوف.

قمْعُ الفكر قديـمٌ

إن الوصاية الفكرية ، والحدّ من حرية التعبير لم تختف يوما إنما تتلون بألوان شتى ..تلوُّنَ الظروف ، وتغير المعطيات السياسية والاجتماعية ،وعلى المفكر وعلى المبدع أن يدخلا تحت مظلة الوصاية ..و إلاّ اعتُبرا من الضالّين ..في هذه الحالة يعتبر كل منهما مشاكسا يقتضي ترويضه بأية طريقة بما في ذلك لقمة عيشه ..بل حتى في الفضاءات الاجتماعية والطبيعية التي يتحرك فيها ويتنفس ..حتى يصمت إلى الأبد ، أو يفرّ بجلده خارجا ..يحيا شريدا ، أو نزيلا على مائدة الغرباء ذليلا .وإذا ما بقي بالبلد يقضي عمره يندب حظه ، ويبكي مصيره وحده ، ويلعن اليوم الذي ولدته فيه أمه ..قد يُضمّن ذلك في إبداع نثري أو شعري قد يجد له مساحة في حينه في وسيلة نشر ، وقد لا يظهر إلا بعد رحيله عن هذا الوجود ..أو يرسل به إلى أصدقاء في رسائل إخوانية يشكو لهم حاله.

رأيُ بعض النقاد في قيمة هذا
النوع من الأد ب

إذا ما عدنا مرة أخرى إلى هذا النوع من الأدب ، وخاصة الشعر الرثائي للنفس ، أو البكائي والواصف لحالة المبدع ، وحرمانه المادّي وسوء حاله؛ نجد أن بعض النقاد يتحفّـظون في الحكم على هذا النوع من الشعر وعلى مبدعيه ؛ إذ يرون أن العديد من الشعراء درجوا على شكوى الزمان .. دون أن تكون في حياتهم حاجةٌ ملحةٌ تُلجئهم إلى الشكاة حتى صارت شكوى الزمان غرضا تقليديا مثلما هو الشأن في الشعر القديم لمّا يستهل الشاعر قصيدته ببكاء أطلال البيت الذي كانت تنزل به الحبيبة .
ومن أجل هذا فالبعض من الشعراء كانت حرفة الأدب نذير شؤم عليهم ألْـهتهم عن غيرها من الحرف الأخرى فتفرغوا لها - أي حرفة الأدب – والمحيطُ ما ساعدهم على التعيُّش منها..فلازمتهم الفاقة طوال حياتهم ، وينطبق هذا الوضعُ على الماضي والحاضر معا .ولنأخذ مثالا آخر من الماضي وليكن الشاعر الحطيئة الذي تفاعلت عدة أسباب على جعله جشعا ..سؤولا .. قبيح المنظر ..قذرا وكان يلتمس العيش سؤالا وإلحاحا وسلاطة لسان ..واعتداء على كرامة الناس ، وإرهابا لهم بكلامه البذئ .. ولا يكاد يسْلمُ من إيذائه أحدٌ حتى أمه هجاها بقوله :

تـنحّي واجلـسي مني بعيـدا * أراح اللـه منـك العـالميـن

بل هجا نفسه لمَّا تراءى له وجهه الدميم في ماء بئر كان واقفا على حافتها :

أرى لي وجها قبح اللـه خلـقه * فقـبح من وجه وقُبِح مَنْ حامله

ومن شدة حنقه على الناس وتبرُّمه بالدنيا فقد أصبح يوما ونفسُه حريصةٌ على مبارزة الغير فالتمس أحدا يهجوه وجعل يردد قوله :

أبـت شفـتاي اليوم إلا تكـلُّما * بشيء ولا أدري لمـن أنا قائله

ولا يختلف عن الحطيئة الشاعر أبو الشمقمق .. الشاعر الظريف الصعلوك ..المتبرم دوما والذي عاش خلال العهد العباسي ..زمن هارون الرشيد والذي ما انفك يتسوّل ، والكثير يومئذ يلاينونه ويجزلون له العطاء اتقاءً لشره وإخراسا للسانه اللاذع وهو القائل :

أنـا فـي حـالٍ تـعالى اللـه ربـي أي حــال

ليس لي شيء إذا قيل لمَنْ ذا ؟ قـلـت ... ذا لـي

ولـقـد أهـزلـت حتى محت الـشـمس خيالي

ولـقـد أفَـلْـتُ حـتى حـلَّ أكْـلـي لـعـيالي

ولـه فـي وصف سوء حظه لوحات يرسمها بريشته الساخرة :

لو ركبت البحار صارت فجاجا * لا ترى في متونها أمواجــا

ولو أني وضعت ياقوتة حـمرا * ء،في راحتي لصارت زجاجـا

ولو أني وردْت عـذْبا فُـراتا * عاد – لا شك فيه –مِلحا أُجاجا

وفي لوحة أخرى يصف منزله الخالي من كل ما يُغري حتى السارق .. بل السارق فيه مُعرّضٌ للسرقة :

ليـس إغـلاقي لبابي أن لي * فيـه ما أخشى عليه السرقـا

إنما أغلـقـتُـه كـيْلا يـرى * سـوءَ حالي مَن يمرُّ الطُّرقـا

منـزل أوطـنه الفقرُ فـلـو * دخـل فـيه السارق سُـرقـا

وممن وصفوا حالهم وبؤسهم من القدماء الحسن بن محمد المهابي ، وهو كاتبٌ وشاعرٌ رقيقٌ ..كان فقيرا بئيسا لدرجة أنه كان يشتهي الموت بقوله في أبيات مشهورة له في قصة معروفة :

ألا مـوتٌ يُباع فـأشـتريـه * فهـذا العيـش م لا خير فيـه

ألا مـوتٌ لذيـذُ الطعم يـأتي * فيـنـقـذني من الموت الكريه

ويصف مسكنه في أبيات أخرى أيام بؤسه قبل أن تُقبل عليه الدنيا بنعيمها ليصبح وزيرا:

أنا في حجرة تُجـلّ عن الوصف ويعمى البصير فيهـا نهـارا

هي في الصبح كالظلام وفي الليل يُولي الأنـام عنهـا فــرارا

أنا منهـا كأننـي في جـوف بئر أتقي عقربـا وأحـذر فــأرا

وإذا مـا الـريـاح هـبت رخاء خلْتُ حيطانها تميل انهيــارا

رَبِّ عجلْ خرابَـهـا وأرحْنـي من حذار فقد مللتُ الحـذارا

ادّعاء البؤس من بعض الأدباء

كما أن النقاد يشيرون إلى نوع ثانٍ من الأدباء متبائسين يدّعون البؤس ، وما هم كذلك وهو بعيد عنهم . ومثل هؤلاء ليسوا أغنياء بطبيعة الحال، وليسوا فقراء أيضا ..فهم من المستورين غير أن تطلعاتهم كانت أكبر من واقعهم ،فأحسوا بالحرمان وراحوا يسبّـون الأيام ، ويعاتبون الزمان .ومن هؤلاء الشاعر المعروف حافظ إبراهيم الذي أدْمن شكوى الزمان .. مدفوعا إلى تصوير بؤسه ، وسوء حاله على هذا النحو:

سعيْت إلى أن كدت أنتعل الدما وأبِـتْ وما أعقبـتُ إلا التندّما

سلام على الدنيا سـلام مـودع رأى في ظلام القبر أُنسا وغُـنما

أضرتْ به الأولى فهام بأخـتها فإن ساءت الأخرى فويلاه منـها

إن النقاد يرون أن حافظ إبراهيم ما زامن الفقر إلى الحد الذي يدفعه إلى تصوير بؤسه ، وسوء حاله ؛ ومن هنا فإن شكوى المبدعين ليست دوما صدىً لواقع معين .

ومن الشعراء المعاصرين لأحمد شوقي ..الشاعر المصري عبد الحميد الديب المتوفى سنة 1943 ،وهو من الشعراء الذين يمكن إطلاق (شعراء البؤس) عليهم بلا منازع ،هذا الشاعر الذي كان لا يصبر على عمل يُسند إليه ، ولا يستقر بوظيفة يتوسط له فيها أهل الخير . كان يفشل في كل خطوة ، ويعزو فشله دوما إلى المجتمع والناس ، ويرى أنه مظلوم مغبون ، وهو القائل :

أذلّه الدهـر لا مالٌ ولا سكـنٌ فتى تزيد على أنفاسه المحــن

ثيـابـه كأمـانيـه مـمزقـةٌ كأنهـا وهو حـيٌ فوقه كـفـن

وهو القائل من قصيدة طويلة له في وصف حجرته التي يقيم بها :

ولي حجرة كالقبر لم تحو أرضُها * سواء أثاثا كالهشيم قديمـا

وللشاعر العراقي أحمد الصافي النجفي الذي توفي كفيفَ البصر .. خاليَ الوفاض ..أيام الحرب العراقية الإيرانية ، حيث أن الحرمان لازمه حتى آخر لحظة من حياته.لهذا الشاعر قصيدةٌ طويلةٌ أتى فيها على وصْف حجرته ، وبلائه المستمر من الحشرات التي تُساكنه ، وتُقاسمه الحجرة ،فيقول في أبيات من القصيدة:

والبقُّ ما أقبحــه خِـلْقـةً أثْقلُ من سار على الترْب

تسؤونـي رؤيـتـه لـيتـه يقفز كالبرغوث من جنبي

فيـا لخصـمٍ لم أطـق قتله من نتْنـه الخانـق للقلب

معاناة ومحنة المبدع الجزائري

إن الدارس للأدب الجزائري ، وحيوات المبدعين في هذه الديار لَيجدُ صعوبة كبيرة في العثور على المبدعين المناكيد البائسين الذين عضَّتهم الأيام ، وعصف بهم الزمان ..وذلك لقلة الدراسات والبحوث ،وانعدام المراجع التي تركز خصوصا على هذه الظاهرة لدى المبدعين ..فما كُتب عن الأدب الجزائري ،وما قيل في المفكرين والمبدعين في كل العصور نجده يتسم بالعموميات ، ولا يركز على ظاهرة معينة قد تكون موضوعا مستقلا يحلل الظاهرة ، ويدخل ضمنها عدة مبدعين يشتركون فيها.

فالصعوبة مزدوجة : عدم الوقوف عند الظاهرة من ناحية ، وانعدام المراجع من ناحية أخرى ..وحتى المراجع الموجودة – على قلتها – إذا تعرضت للنكَد ، وسوء الحال لدى أهل الفكر والأدب ؛ فالتعرض يكون في إطار المضايقات التي يتعرض لها محترفو المعرفة والتربية ،والحصار الذي يُضايق به نشر اللغة العربية في العهد الاستعماري .وبسبب قلة المراجع كما أسلفنا فقد نكتفي بأمثلة قليلة لمبدعين جزائريين مسّهم البؤس وسوء الحال ،وإنْ كنا متأكدين بأن رجال النهضة والحركة الوطنية منذ بداية القرن العشرين ..من بينهم العشرات ممَّن كان سلاحهم الكلمة وما أخطرها ... منهم مَنْ ترك مآثر خالدة لم نطلع عليها بعد.ومنهم من ذهبت مآثره معه فكانت المأساة مزدوجة ومؤلمة : كبتٌ للحرية ، ومصادرةٌ لشروط الحياة الإنسانية في أبسط شروطها ومعانيها .

أتعرض في هذه البداية لشاعر تألم لآلام شعبه ، وشاركه في كل شيء وفي فترة من أحرج فترات تاريخه ...حيث وُلد هذا الشاعر حوالي 1850 ببلاد القبائل ومات سنة1906 في وقت كان الاستعمار قد أكمل سيطرته على كامل البلاد .
جاء هذا الشاعر إلى الحياة ، والمأساة تواكبه وقُدِر له أن يعيش حياته تحت غائلة الفقر .. مُطوفا بالمدن ، وبكل دروب الجزائر وطرقاتها ، وبالأراضي التونسية أحيانا وراح يعيش أيامه تبعا للظروف ووفق شيطان الشعر الذي كان يسكنه في غالب الأحيان..ذلكم هو المبدع الشاعر:" سي محند أو محند" الذي يقول:

« البغاث يتسلط ، والنسور يُحكم عليها بالنفي .. نحن في زمن التجار الجشعين الذين ينزلون إلى الدرك الأسفل ويقرضوننا الأموال بالربا . » ويقصد بلفظ " البغاث " الاستعمار الفرنسي وأعوانه ، وبلفظ " النسور " أحرار الجزائر وشرفاؤها .
ويضطر إلى فضْح خرافة السعادة التي يلهث وراءها الناس دون جدوى عبر كل الأزمان فيقول :
« ليكنْ بلا شفقة كل شخص ينتهزني ..فأنا أحمل الجرح في قلبي، ولست أبحث عن المسرات إلا تحديا ..ذلك أن الأهواء تزلزل إرادتي ، وهذا يعني أني شرير النفس فليس هناك أحدٌ جديرٌ بفضائل ذاته » .

أما مصطفى بن رحمون الذي ولد سنة1921 بدائرة سيدي عقبة ، والذي تلقّى مبادئ اللغة العربية والفقه ، وحفظ القرآن الكريم في صباه ..لينضمّ فيما بعد إلى تلاميذ الشيخ عبد الحميد بن باديس ، وساهم فيما بعد وبداية من سنة1941 بمقالاته السياسية والأدبية في أغلب الصحف والمجلات العربية دفاعا عن الجزائر العربية المسلمة..كتابة وتدريسا .ينتهي به الحال بعد الاستقلال إلى مدينة بسكرة فيسوء به الحال في عام 1980 .

إنّ الذي يصف لنا حالة هذا المبدع الفذ ، وما آل إليه من سوء الحال ، وتنكُّر الزمان له..وما وجد يدا رحيمة تمتد له اعتبارا لإنسانيته ، وتقديرا لما قدمه لهذا البلد من أعمال فكرية ، ونضال أيام محنة هذا الوطن ... فقرةٌ من مقال نشره عنه السيد مسعود عبيد اللـه تحت عنوان : " الشاعر أبو بكر بن رحمون : نضاله وأعماله " ، في صحيفة الشعب يوم 6/10/1980 يقول :

» يعيش هذا الشاعر الآن بمدينة بسكرة في ظروف نفسية ومادية قاسية جدا ، وقد تنكرت له الخلائق وفرَّ منه أهله ، وغاب عنه أصدقاؤه ؛ فأصبح مثله كمثل الغريب الذي لا يجد دارا تأويه ..بعيدا عن صاحبته وبنيه..وهَن العظم منه .. وغزا الشيب رأسه فلم يجد من يواسيه أحزانه وألمه .. يبيت على أرصفة الأزقة ..غطاؤه السماء ، وفراشه الأرض .«
وهو القائل بصدق في قصيدة طويلة له بعنوان " المسكين مع شبح البؤس "

لا تعذلوه فإن الفقـر أضـواه والحظ عاكـسه والدهر عاداه

لا تنهروه إن استجدى أكـفكم فالجوع آلمه والصبـر أعياه

ما كان يبـسط للتسال راحتـه إلا ووجدانـه عن ذاك ينهاه

لولا غريزة حفظ الذات تـدفعه ما كان يأتي بأمر ليس يرضاه

لكنمـا الفقر يا قـومي مشقـته قد ترغم النفس عما النفس تأباه

شاعر آخر من الشعراء المعاصرين أبدع ، وتغنى بجمال الجزائر ، وغنى للطفولة.. ذلكم هو الشاعر المبدع علجي عبد الكريم المعروف إبداعيا وأدبيا باسم ( جمال الطاهري )الذي ولد في 12 سبتمبر 1947 بالمدية ، وتوفي بمستشفى هذه المدينة في 08/11/1999 على إثر مرض عضال لازمه سنوات عديدة.عرفناه شاعرا رقيقا ..رهيف الحس ..خجولا..يعشق الجمال ويتغنى قصائد للكبار والصغار ..أمضى سنوات عديدة أستاذا قبل أن يُداهمه المرض اللعين ..مرض القصور الكلوي .

حُبُّه للجمال والبراءة والطفولة جعله يخصص حيزا هاما من إبداعاته لأدب الأطفال ،فمن مؤلفاته في هذا الباب نذكر (نفح الياسمين-97) (صديق الشدة-93 ) ( الدجاجة المخدوعة -92) وهي مسرحية شعرية للأطفال و(قصائد للفتيان والفتيات ) وهي مجموعة من الأناشيد .

منذ أن أصيب هذا الفنّان ، الشاعر ، المبدع بمحنة المرض ما ركن إلى اليأس ..وما استسلم للألم فدأب على تدوين يومياته في كراس مدرسي بسيط ضمَّنه مشاعره وأحاسيسه ، وورد في هذا الكراس الذي بقي حتى آخر لحظة في حياته يرغب نشره ، قوله :

« أن يعيش الإنسان مريضا مثلي في مثل هذه الحال البائسة التي عشتُها ، فتلك أعجوبةٌ .. فأما أن يكتب فتلك معجزةٌ » .
تحمل مذكرات الراحل جمال الطاهري عنوان " الكابوس " وهي رصدٌ حيٌّ ، وواقعي لمجموعة من الأحداث عاشها ، وهو يصارع المرض الخبيث ، والحاجة المادية لمقاومة الألم المستمر في كل لحظة ..وإن الذين عرفوه عن قربٍ في السنوات والشهور الأخيرة وهو يعيش النكَد ومرارة الحرمان والنسيان تأكدوا ألا قيمة للفكر والإبداع وأهلهما في هذه الديار .
لا نزال نذكر ذلك النداء الذي وجهه مجموعة من الأدباء المبدعين أصدقاء الشاعر يومها إلى مَنْ بأيديهم أمرُ الثقافة والفكر للالتفات إليه ، ومحاولة إنقاذه وتَولّي أمر علاجه ، بيد أن لا حياة لمن تنادي .

وما نذكره أن هؤلاء كانوا سباقين فيما بعد في إرسال برقيات التعازي إلى ذويه وأصدقائه .
وممّا دوّنه الراحل في كراسته من مواضيع :

« كلمة لا بد منها . حال المحكوم عليه بالإعدام . النبأ العظيم . ممرضٌ من صنف ديناصوري .عزرائيلُ . سائقُ سيارة إسعاف..وفي الأخير هل يئستم مني أخيرا ؟ » .

هاهو يتغنّى بحب الجزائر بأبيات له من قصيدة بعنوان ( لأجلك أحيا ):

لأجـلك يـا روح روحي سأحيا لأجـل كـرامة شعبـك أحيـا

ومن أجـل عش الحيـاة السعيد وعيـدك أنت الذي هو عيـدي

ومـن أجـل فرحـة أطفـالنا ومستقـبـل مـزهـر حولنـا

أتـرضيـن لي حيـاتي بذلي ؟ وأن يتمـزق كالسحـب ليلـي

إلى أن يقول :

أتـرضيـن لي بحيـاة الحقارة وأنْ أتجـرّع سـمّ المـرارة ؟

أبو الياس هذا اللقب الجميل الذي حمل الشاعر عياش بن سليمان سنين طويلة، شاء له القدر أن يبقى في هذه الدنيا ولو بعد رحيله اسما جميلا سيتغنى به الشعراء رمزا للبراءة ، والعفة والشاعرية والضياع ..موهبة نادرة تقضي شهور حياتها الأخيرة في دار للعجزة سنة 1999 ، وترحل من هناك إلى دار البقاء .ووفقا لما جاء في مقال للأستاذ الطاهر يحياوي تحت عنوان " أبو إلياس ... الشاعر الذي مات وحيدا ؟ بصحيفة المجاهد الأسبوعي العدد 2016 لشهر مارس 1999 يقول الطاهر يحياوي :

« وإن الألم ليبلغ منتهاه ليغدو فضيحة أخلاقية لدى مجتمع الحاضر الإنساني كله حين يعلم هذا العالم أن نعي – أبي الياس – جاء متأخرا بشهر كامل عن وفاته ..فأي أمل بعد هذا في حاضر أو مستقبل ؟ وأي أمان بعد هذا لكاتب ، أو أديب أو عالم ، على أن يوارى التراب غدا..»

لهذا الشاعر ابنٌ وحيدٌ استقر منذ سنوات في فرنسا يمارس مهنة التعليم اسمه الياس.. كانت أمنية الراحل في سنواته الأخيرة زيارة هذا الابن الوحيد . رحل وبين جوانحه حرقة الشوق لزيارة فلذة كبده.ويا لنكد الأيام تأخُّره في القيام بذلك سببهُ تأخر إنجاز جواز سفره .

والراحل أبو الياس شاعر قدير موهوب ،يُعدُّ من جيل الرواد في هذه البلاد في شعرنا المعاصر فقد عاصر أغلبهم . كان رحمه اللـه ودودا لطيفا سمحا ذا مروءة وعزة نفس، فكان يترفع عن اللجوء حتى لمحبيه في طلب شيء.
كان فنانا متعدد المواهب ..رساما وشاعرا..أبدع بالعربية والفرنسية وتفوق فيهما .. ويتصدر شعرَه في كل ذلك الشعرُ الوجدانيُ نظرا لهيامه سنوات طويلة بطالبة جامعية تَعرّف عليها تُـدعى فاطمة الزهراء ، والتي كان يكتبها في قصائده اختصارا "فازو" أحبها وملكت فؤاده لِما تميزت به من جمال ورقة وذكاء وثقافة .فارقته وهجرتْه ، ولكن ما انفك يلْهج بحبه إليها ، وهو القائل :

مـا نلتُ منها قبلة واحدة لا أفتري

على التي أحبُّها ما نلت منها قمري

وهو القائل :

أحب انطلاقك عبر الزحام كما انطلقت مهرة جامـحة

أمـام النتائج شـعّ ابتسام فبشـرتني .قلت لي فرحة

وأبدع بالفرنسية رحمه اللـه شعرا وكتابة وترجمة ...هذه أبيات من قصيدة للشاعر الفرنسي أرفير (1806-1850) بعنوان " سونيتة " ترجمها الشاعر أبو إلياس .ويبدو أن هذه القصيدة تعبر بصدق عن معاناة المترجِم،وهي صدًى لِما يحسُّ به ، وما يعتلج في نفسه ؛ وكأنّ الزمانَ انزاح تاركا المجال للشاعريْن كي يلتقيا فيهمس كل منهما للآخر ويشكوه غوائل الدهر ونكد الأيام وقسوة القلوب :

لـروحـي سـرٌّ خفي كـما لعيشي لغـزٌ غدا مبهمــا

غـرام تولـد فـي لحـظـة سيبـقى بقلب له استسلمـا

كتمـتُ جراحا ليأسي وإنـي بكـتمـاني زدتهـا ألمــا

إلى أن يقول :

ستمضي التي قد براها اللـه رفيقة قلـب ولن ترحمــا

جراح فـؤاد تسيـل هـنـا نشيـدا حـزينا بها مفعمـا

رحم اللـه أبا إلياس فقد عاش فقيرا ، وتخلّى عنه الأقربون....ولكن عاش ذا همة عزيز النفس .. ومِن منحة تقاعد بسيطةٍ مقابل خمسة عشر سنة قضاها في الوظيفة . وبعد هذه الرحلة استقرّ بدار العجزة بعد أن أحسّ بعبْء الشيخوخة ، والوحدة ، وخلو اليد من المأوى والملبس والمأكل ... رحل إلى عالم الخلود ، وفي صدره غصّةٌ على بلد انحطّـت مواهبه ورموزه إلى أرذل المستوى.

وغير " أبو اليأس " كُـثّـــرٌ !! ؟

إن أكثر رجال الفكر والأدب عايشوا المحنة الصحية التي مرّ بها الأديب القدير الأستاذ الطاهر يحياوي ، والمعاناة التي طالت ومسّت قوْته وحتّى قوْت عياله . كم من النداءات والتوسلات التي رفعها الزملاء الأدباء إلى الجهات التي بيدها أمر الثقافة..وطالت المحنة بالرجل وكأنْ لا أحد سمع النداء ، لولا الالتفاتة التي جاءت من إخوة أفاضل مبدعين بالتعاون مع اتحاد الكتاب الجزائريين وتكريم تمّ في ولاية البليدة .

إن ما قدمه الطاهر يحياوي للأدب الجزائري كثير.. كما أن إشرافه على ركن الثقافة وركن – أتون- المخصص للإبداع الأدبي بصحيفة المجاهد الأسبوعي مدّة سنوات طويلة ، أعطى للثقافة وللأدب الشاب انطلاقةً قويةً ، وشجّـع الكثير من الأقلام الشابة التي وقفت على رجليها فأبدعت ، وأمتعت .

والشاعر الفذ الدكتور محمد الصالح باوية الذي يُعد علامة بارزة في حركة الشعر الجزائري المعاصر ، والذي أثرى الثقافة الوطنية بكتاباته الأدبية ، وإبداعاته الشعرية الأصيلة ، وكذا معالجته للعديد من قضايا الأدب نقدا متميزا .. وتواجدَ في أغلب الملتقيات الفكرية والأدبية في عقدي السبعينات والثمانينات ..وبقدر ما كان طبيبا يرمّم العظام ،فإنه كان شاعرا يرمم القلوب حسب قول الصديق الأديب الشاعر حمري بحري ..

الشاعر باوية يختفي عن الأنظار فجأة .. أصدقاؤه ومحبوه ومحبو إبداعاته في حيرة وتساؤل عن غيابه ..ليعلم الجميع بعد لأْيٍ أنه رحل عن دنيانا الفانية ، وبقيت ذكراه عزيزة على كل مَنْ عرفه جسدا وفكرا .. ما أبّنته وزارة الثقافة ، ولا تساءلت عن مصيره ..وما أبّـنه إتحاد الكتاب ..ولا أصدقاؤه ..ذلك هو حالنا يرحل مفكرونا ، وكتابنا ، وأدباؤنا ، وكأنهم ما كانوا بيننا ...ليلفّهم النسيان في النهاية .

المحنة الصحية للأديب القاص جمال فوغالي التي ألمّت به ذات سنة ونيْف ، ومكوثه بالمستشفى ، ومعاناته المادية والمعنوية والنداءات الصادرة عن بعض أصدقائه في الصحافة اليومية لإنقاذه مما هو ألمّ به ، والتخفيف من معاناته ... وما التفت إليه سلطة الثقافة لا مركزيا ، ولا محلّيا ..أي مديرية الثقافة بعنّابة ..هي صورة أخرى لاحتقار الثقافة وأهلها . 
ولعلّ أهل الفكر والإبداع الأدبي والفنّي ما غاب عن بالهم مآل ذلك الأديب المبدع الجزائري الأصل الذي أحبّ الجزائر ، ومكث بها ، وترك الأهل في المشرق العربي ، فكتب وأبدع فكرا وشعرا في مستوى رفيع من الطّرح ، والأداء ، وهو يقيم الآن بعد مشواره الحياتي الطويل في دارٍ للعجزة بالجزائر العاصمة .

وقبل أن نغادر القائمة التي لا تزال مفتوحة ، ولا أظنّ أنها ستغلق ، نذكر وبكلّ مرارة أن أحد شعراء الجزائر الشباب المبدعين ، عضّته الأيام فكان من المناكيد ممّا دفعه وتحت الحاجة أن يعرض في الصحف الوطنية إحدى كليتيْه للبيع ، ولم تأته يدُ الرّحمة من هذا البلد ، ولا من أثريائه الذين يتزايدون ، ويتضاعف عددهم كالفِطر ، ولا من الذين يمسكون بزمام الثقافة عموديا ، وأفقيا ..بل عُرضت المساعدة من إحدى الدول المشرقية ..للّه درّ العروبة ، فأينما ولّيتَ شطرك فثمّ الأخوّة العربية ، وللّه درّ الإسلام ، فأينما ولّيتَ وجهك فثمّ الأخوّة الإسلاميّة .

ثراء بلادي فكرا وأدبا

إن الأدب الجزائري المعاصر يضم تحت لوائه العديد من المبدعين المناكيد الذين ضاقوا بالحياة وتبرّموا بها ، وكان أملهم وبلادهم تنعم بالحرية أن تمتدّ إليهم أيادي الرعاية ، والعرفان بالجميل بتوفير الشروط المادية والمعنوية لنشر نتاجهم الفكري وإبداعهم الأدبي ،وسَماع رأيهم في أهم القضايا المصيرية للأمة،وأن يُوفر لهم الحدّ المقبول من العيش الكريم حتى ينطلقوا مغردين في خمائل الفكر والمعرفة وشتى أنواع الإبداع ..مساهمين بفعالية في رفع مستوى المعارف والأفكار ..والعمل على تأسيس ثقافة صادقة متألقة ومتجذرة دوما ، ولقد فشلنا بكل أسف في هذا حتى الآن.

إن الكلمة المكتوبة مصباحٌ أبديٌ مضيءٌ في دهاليز التاريخ ..الكلمة المكتوبة جوهرة ثمينة لا يزول وهَجها الساحر داخل حفريات التاريخ وعبر دروبه .. الكلمة المكتوبة سلطة قوية تمارس سلطتها ..نفوذها داخل الذات ..داخل دهاليز الفكر الإنساني .

أهلُ الفكر والإبداع مصابيحُ مضيئةٌ ووهاجة في مسيرة الإنسانية ..أرفقوا يا أهل الحل و الربط بهذه الجواهر الثمينة .

المراجع والمصادر

ـ الشعر الجزائري المعاصر .ج: 1و2 منشورات مجلة – آمال – وزارة الثقافة
ـ الكتابة قفزة في الظلام – للأستاذ بقطاش مرزاق – نشر المؤسسة الوطنية للكتاب
ـ الذين أدركتهم حرفة الأدب – تأليف الأستاذ طاهر أبو فاشا - دار الشروق
ـ مجلة التبيين – منشورات الجاحظية – العدد :11 سنة 1997
ـ مجلة المجاهد الأسبوعي – العدد : 2016 مارس 1999 والعدد 2150 أكتوبر 2001


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى