التاريخ والحب في رواية «تاعروروت»
يمكن تصنيف الأحداث الروائية في رواية "تاعروروت"1 إلى صنفين. الصنف الأول ينتمي إلى التاريخ المقدَّم روائيا. أما الصنف الثاني فينتمي إلى الحب، حب تاعروروت لوالدها السجين في مراكش، وحب غوذا لتاعروروت وهما من قبيلتين من زمور، هما آيت بويحيى التي تنتمي إليها تاعروروت، وآيت أولحسن التي ينتمي إليها غوذا. يمكن القول إن هذا الحب الأخير تجسيد للتلاحم القبلي. الحب في الرواية تاريخي؛ هو كذلك لأنه أدرج في إطار تاريخي. هو تاريخي في الرواية ليس بمعنى أنه وقع في التاريخ، ولكن لأنه تداخَل فنيا مع أحداث تاريخية عرفها المغرب في مرحلة محددة من تاريخه. وبهذا امتزج التخييل بالتاريخ في البنية الروائية.
لكن التاريخ في هذه الرواية عموما، وإن كانت فيها أحداث تاريخية وقعت فعلا، هو تاريخ منظور إليه ومؤول تأويلا روائيا. ومعلوم أن التاريخ الروائي، أو التاريخ في الرواية، ليس هو التاريخ بالمعنى العلمي. للفن والإبداع دور في التاريخ الروائي أو التاريخ في الرواية. وللربط بين التاريخ والحب في الرواية تم توظيف المهر (الصداق). ذلك أن تاعروروت اشترطت على غوذا شرطا واحدا لقبول الزواج به، وهو أن يرافقها من قبيلة آيت بويحي في زمور إلى مراكش حيث يوجد أبوها سجينا. والطريق من زمور إلى مراكش في مغرب نهاية القرن التاسع عشر محفوفة بالمخاطر، فهناك اللصوص وقطاع الطرق، وهما مؤشران على انعدام الأمن في ذلك العهد. هذا علاوة على وسائل النقل وقتذاك وهي الدواب.
وقد اقتضت الضرورة الفنية التداخل بين الصنفين معا، في إطار بنية سردية مترابطة ومحبوكة. هي محبوكة بالنظر إلى طريقة ترتيب الأحداث السردية فيها. في هذا الإطار، يمكن القول إن الحُبكة في رواية "تاعروروت"حُبكة الاختبار حسب تقسيم فريدمان Fredman لأنواع الحبكة. في هذا النوع من الحبكة، تكون الشخصية محبوبة و"تختبر في أوضاع صعبة، ولا نعرف إن كانت ستصمد-وهذا ما يحدث غالبا-أو ستتخلى عن مثلها"2. وقد خضعت الشخصية التي كان اسمها عنوانا للرواية، أي "تاعروروت"، للاختبار ليس مرة واحدة بل مرات عديدة في الرواية وصمدت. لكن ليست هي الوحيدة التي خضعت للاختبار، بل خضعت له شخصيات أخرى منها حبيبها غوذا، وأمها للاهمه، وأبوها أعريب.
من أجل كتابة "تاعرورت"، اعتمد الكاتب على معرفة اجتماعية وتاريخية. تتجلى المعرفة الاجتماعية، من خلال الرواية، في الاستثمار الفني للقبيلة (آيت بو يحيى وزمور عموما) وقيمها وتقاليدها الاجتماعية. أساس هذه المعرفة الاجتماعية هي القبيلة والخيمة، بوصفها فضاء سكنيا، والدوار، وأمغار باعتباره ممثلا للقبيلة وناطقا باسمها أمام المخزن، والاقتصاد الفلاحي المعيشي وأدواته التقليدية في الإنتاج، ومنه نسج الزرابي "وحتى لحصاير ذالدوم"3، والتخزين (المطمورة)، والدواب لكونها وسيلة التنقل، والتبن... فضلا عن معرفة بعادات وتقاليد القبيلة، قبيلة آيت بويحي وزمور عموما؛ ومنها الزواج، والتعاون الذي هو"من أخلاق أهل لقبيلة ف كل ما هي حاجة، شي مايدوز شي، كيف ما كانت الظروف"4 ،حسب الرواية، والتحالف بين القبائل في زمن كانت فيه القبيلة أس النظام الاجتماعي في المغرب، والتويزة، و القِصاص من القتل، ووضعية المرأة في القبيلة، قبيلة آيت بويحي، في الزمن المشار إليه سابقا، حيث "النساء كيشطحوا الحيدوس وسط الرجال بدون حساسيات، وتاتلقاهم تايغَنوا معهموتايضربوا البندير أو الطعريجة بحالهم بحال الرجال"5 ، وقطاع الطرق، والزطاطون، والرقاصة (حاملو الرسائل)، وقطع الرؤوس من قبل المخزن في عهد أبا حماد.
هذه علامات تدل على معرفة اجتماعية، ولكنها أُدرجت في إطار تاريخي. ذلك أن الأحداث في الرواية تتعلق بمرحلة تاريخية محددة في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. في الرواية توجد ثلاثة مظاهر تدل على هذا الزمن. المظهر الأول يتعلق بأسماء تاريخية، منها السلطان الحسن الأول، والسلطان عبد العزيز، و محمد أخ السلطان عبد العزيز وأمه زينب، وباحماد (الصدر الأعظم) "اللي ف يده الشغل"6 في عهد السلطان عبد العزيز، والوزير غرنيط7 وكان مكلفا "بوزارة الشكايات"8 ، وماك لاين "هذ الإنجليزي كان قايد الحرس، يعني العسكر كان تحت يديه. وكانوا حتى شي فرانساويين اخرين تيقولو أطبا ومدربين ذ العسكر"9. وكانت لماك لاين، حسب الرواية، خبرة في الميدان العسكري "هذ علاش دارو السلطان جنبه"10. المظهر الأول للإطار التاريخي للرواية هو هذه الشخصيات التاريخية المذكورة فيها.
والمظهر الثاني الذي يدل على الزمن، أي على التاريخ، هو ذكر سنوات محددة في الرواية. ومنها سنة 1873 م، السنة التي وقع فيها الحدث الرئيسي الذي تتمحور حوله كل الأحداث الروائية. وهي السنة كذلك التي تولى فيها الحسن الأول السلطة في المغرب (حكم المغرب من سنة 1873 إلى سنة 1894م). لم تنطلق الأحداث في الرواية من هذا الحدث، بل مما ترتب عنه. لذلك لم يُذكر تاريخ 1873 إلا في الصفحة الثامنة والستين بعد المائة (ص/168)، وتحت عنوان فرعي دال هو: "باب السر". هو دال لأن الأحداث المرتبطة به تقدم مفتاح فهم كل الأحداث الروائية، ومفتاح وضعها في سياقها التاريخي من منظور روائي. من هنا كان اختيار كلمة السر في هذا العنوان الفرعي.
والمظهر الثالث يمكن استنباطه من السرد، من ذلك ما شاهدته تاعروروت في مراكش. ففي الرواية هناك "حاجة أخرى ثارت انتباه تاعروروت هي أنها أول مرة تاتشوف الناس تيكْمِوْا. لكن اللي ثار انتباهها اكثر هما بجوج هو تواجد جليات أجنبية من يهود ع الخصوص تتعرفهم غير بطويقية صغيرة على راسهم، تيقولو أن تقريبا نص سكان مراكش يهود. بالإضافة ل أجانب اخرين تتعرفهم غير من راسهم عريانين وف فمهم ڴارو،عيالاتهم زوعر لابسين لباس خفيف، تيتمشاوا الذراع على الذراع. تيقولوا أهل مراكش بأنهم تيتوافدوا م الجزائر، هذ لبلاد اللي دخلوها بالسلاح وماتيفكروش يخرجوا منها"11.
العين والسماع وسيلتا المعرفة هنا، وهي نتيجة لقراءة الأجساد. للعين تحديد الناس من خلال المظهر الخارجي، "الطويقية" بالنسبة لليهود، والرأس العاري واللباس الخفيف والسيجارة في الفم واللون بالنسبة للفرنسيين القادمين من الجزائر بعد استعمارها الذي بدأ سنة 1830. وللسماع تحديد هوية هؤلاء الأخيرين الذين كانوا موجودين في مراكش زمن الأحداث الروائية. نحن إذن في مغرب مابعد استعمار الجزائر الذي كان سنة 1830، وماقبل إبرام عقد الحماية في المغرب الذي كان سنة 1912.
من هذا المظهر الثالث أيضا الإشارة إلى موت السلطان الحسن الأول. ذلك أن "للاهمه اللي كانت تتابع أخبار لقصر عرفت باللي السلطان ف الطريق وهو راجع ل مراكش مرض، ثم بعدها غير دخل ل مراكش جمع المحلًة، ركب على عَودُه واتّاجَه للأطلس يطفي شي ثورة شعلت هناك. لكن غ يموت وهو بعيد على مراكش"12.
كان موت الحسن الأول سنة 1894 م، "وفاه الأجل ف دار ولد زيدوح"13. "كان ذاك العام بعث ولدُه مولاي عبد العزيز للرباط يطفي شي غضب، وهو مشى يطفي ثورة آيت سخمان. وف واد أم الربيع طاح مريض، نقول لك ف الخريف ديال 1894"14. يتعلق الزمن إذن بزمن الغضب والثورة من لدن قبائل مغربية، وزمن المحلات السلطانية التي كانت تسعى إلى إطفائهما. تتابع للاهمه أخبار القصر لأن لها مصلحة شخصية في ذلك، تتمثل في الرغبة في تحرير زوجها أعريب السجين في مراكش.
هذا عن الزمن العام في الرواية. وهناك أزمنة عديدة فيها، تتعلق بأعمار عدد من الشخصيات. وعلى رأس هذه الشخصياتِ الشخصياتُ المكونة لأسرة للاهمه ومنها ابنتها "تاعروروت". فعمر يازين واحد وثلاثون سنة، وعمر أمضاو سبع وعشرون سنة، وهما أخوا تاعروروت. وكان عمر تاعروروت مع بداية مأساة أبيها، وقد بدأت سنة 1873، خمس سنوات. وإذا تمت إضافة هذه السنوات الخمس إلى المدة الزمنية التي قضاها أعريب سجينا، وهي ثلاث عشرة سنة، يكون عمر تاعروروت هو ثمانية عشر عاما. إنه السن القانوني للزواج في عصرنا. وحسب معطيات الرواية، فقد قضى أعريب مع زوجته سبع سنوات قبل ولادة أول مولود، وهو يازين، الذي كان عمره حين رجوع أعريب إلى زمور إحدى وثلاثين سنة. وهو متزوج وله ابنان، عروش وعيوش، حفيدا أعريب وللاهمه.
هذا، وتختلف دوافع الشخصيات الرئيسية في هذه الرواية. وتبعا لذلك، تغيرت الأحداث المرتبطة بكل شخصية على حدة، مقارنة مع الأحداث المتعلقة بالشخصية الأخرى. لكن البناء الفني اقتضى الربط بين كل الأحداث في إطار الحبكة الفنية. فدافع تاعروروت دافع عاطفي، يتمثل في البحث عن أبيها المسجون في مراكش. ودافع أعريب، أب تاعروروت وزوج للاهمه، نضالي، يتمثل في الاحتجاج ضد ظلم المخزن، من وجهة نظره، في نهاية القرن التاسع عشر. ودافع للاهمه جمع بين العاطفة والنضال. يتجلى الجانب العاطفي في البحث عن زوجها؛ أما الجانب النضالي فيتمثل في الاستمرار على درب زوجها، بعد سجنه، حيث تم اختيارها للقيام بدور أمغار بدل زوجها، فسجنت هي أيضا بسبب هذا النضال بالذات. أما دافع غوذا فعاطفي، يتلخص في الرغبة في الزواج بمحبوبته "تاعروروت".
بدأت قصة أعريب ، كما سميت في الرواية، سنة 1873 في عهد القائد العربي الحسناوي المسمى "الكحل"، وكان عمره نحو سبعة وأربعين عاما، بعد هجوم قبيلة زمور على المحلة السلطانية بسبب عجز القبيلة عن توفير المؤونة لأفراد هذه المحلة والعلف لبهائمها، باعتبار البهائم حينئذ وسيلة التنقل. سبب هذا الهجوم في الرواية كان"لأن العام ماكانش جا مزيان. إلى جاك عام مزيان، جوج ولا ثلاثة ماكايجي فيهم والو"15. أما بداية سجنه فكانت بعد هذا الزمن. كانت هذه البداية في عهد قائد جديد من الرباط "ما تيعرفش يتعامل مع لقبيلة. دافع الجًهد، وكان تيفكر غير في مايدي هو"16. و"كان ما تيعرف حتى يهدر"17. وعليه، فقد انضاف إلى التكبُّر الاغتناءُ من المنصب، وعدم اللباقة في مخاطبة القبيلة.
غير أن البناء الفني في الرواية لم يبدأ ب"قصة" أعريب، بل كانت البداية بإشارة السارد إلى قبر هذا الأخير. وبين موت أعريب وسرد قصته في الرواية زمن طويل غير محدد. لهذا السبب كانت الإشارة في مطلع الصفحة الخامسة، أي في الجملة السردية الأولى، إلى "قبر شابع موت، يمكن شابع سكات"18. كلمة "شابع" تدل على طول الزمن. والسارد يعرف سر هذا القبر المعزول، سر يمتزج فيه الذاتي بالتاريخي. إنه "قبر شاهد على تاريخ منسي، أو تبغى لو يتنسى"19.
هناك فرق في المعنى بين عبارتي "تاريخ منسي" و"تاريخ تبغى لو يتنسى". استدراك السارد له مغزى، إذ يبدو أن لديه رغبة في الكشف عن التاريخ، التاريخ الذي أريد له النسيان. لكن من لديه الرغبة في طمس التاريخ؟ لا تقدم الرواية جوابا عن هذا السؤال، لأنها ليست ملزَمة بتقديمه، وإن كان من الممكن استنتاجه من الرواية. إنه من له مصلحة في ذلك، وهو المخزن. يضاف إلى رغبة السارد تعاطفُه مع للاهمه وأعريب، والصور المثالية التي قدم بها جميع أفراد أسرة أعريب. للسارد معرفة بالتاريخ، ولكن له أيضا موقف تم تصريفه عبر لغة السرد.
بمجرد عودة أعريب إلى حضن أسرته وقبيلته، بعد ثلاث عشرة سنة من السجن في مراكش بدون محاكمة، مات. الأحداث في الرواية بدأت بعد هذه السنوات الثلاث عشرة، بدأت بإشارة السارد إلى القبر وتساؤلاته التي تحث على العثور على أجوبة، مع الإشارة إلى الاستفسار عن سر القبر. التساؤلات والاستفسار، قادا السارد إلى الاحتكاك بأحفاد صاحب القبر بحثا عن معلومات. وحين توفرت له نسج، اعتمادا عليها، رواية (تعاويد) وصفها ب"المغرية"20.
يمكن القول إن السارد وضع إطار السرد العام في البداية. بعد هذا، تم الإفصاح عن رغبة تاعروروت في البحث عن والدها من لدن هذا السارد. قررت تاعروروت الرحيل إلى مراكش بعد وصول معلومة مفادها أن أعريب موجود في هذه المدينة الأخيرة. يختلف زمن السارد عن زمن تاعروروت. زمن هذه الأخيرة يتعلق بزمن الأحداث، وهو يختلف عن زمن السارد. السبب في ذلك هو أن رغبة تاعروروت كانت أثناء حياة والدها، أما سرد السارد فكان بعد موت هذا الوالد مدة من الزمن طويلة، لكنها غير محددة في الرواية. لكن "باب السر" جعل الأحداث الروائية، باعتبار أعريب ساردا وغوذا مسرودا له، تعود إلى بداية "قصة" أعريب وبعدها سجنه، أي إلى ماقبل ثلاث عشرة سنة. جاء هذا السرد في إطار الحوار بين غوذا وأعريب. أسئلة غوذا الغاية منها الكشف عن الأحداث التي عاشها أعريب. و"باب السر"، وللعنوان مغزى، كان بين الصفحة السابعة والستين بعد المائة (ص/167) و الصفحة السابعة والسبعين بعد المائة (ص/177). وبعد عنوان"اللي ماعندو اباه عندو للاه"، وقد كان بين الصفحة الثامنة والسبعين بعد المائة (ص/178) والصفحة الثمنة والتسعين بعد المائة (ص/198)، كان عنوان"كمالة السر". الشخصية محور السرد في "اللي ماعندو اباه عندو للاه" هي للاهمه، حيث تم في هذا العنوان الفرعي استبدال "سيدو" ب "أباه" (أبوه) في المثل الشائع المعروف "اللي ماعندو سيدو عندو للاه"، انسجاما مع الأحداث الروائية. ومحور السرد في "باب السر" و"كمالة السر" هو أعريب. لهذا لم يكن السرد في الرواية سردا متسلسلا خطيا.
انطلقت تاعروروت مع غوذا من قبيلتها آيت بويحيى بزمور إلى مراكش. وكانت العودة من هذه الأخيرة إلى قبيلتها السالفة الذكر. رحلتا الذهاب والإياب، كانتا سببا لذكر أحداث تتعلق بمغرب النصف الثاني من القرن التاسع عشر عن طريق السرد والحوار. وبعد وصول تاعروروت وغوذا إلى مراكش، بعد رحلة محفوفة بالمخاطر بسبب اللصوص وقطاع الطرق، قدمت الرواية وصفا ل"جامع الفنا". وكان اللباس واللهجة أو اللكنة،كما جاء في الرواية، وسيلتين لتمييز الوافدين على مدينة مراكش. وبالإضافة إلى ما يتميز به "جامع الفنا" من حلقات، ومنها حلقة الزجال التي وصفت بكونها "عامرة"21 ، وقد خيم عليها الصمت دليلا على قوة تأثير الزجال في رواد حلقته الذي كان يستعمل "الدعدوع"، وكاتب الرواية زجال أيضا، فإن بها "كثرة المساكين ف حالة تشفي العديان، بزاف منهم مقطوعة لهم يد وكاينين منهم اللي مشاوا لهم بجوج، هذ المساكين تيطلبوا ودموعهم سايله تيقطعوا القلب"22. قطع اليد أو اليدين علامة على مغرب القرن التاسع عشر في الرواية. من العلامات الدالة عليه أيضا ضريبة الترتيب، وكذلك "البراح" وهو الشخص الذي يبلِّغ شفويا رسائل المخزن إلى القبيلة، بوصفه وسيلة إعلامية في ذلك العهد. من تلك العلامات أيضا "الزطاط"، وهو الدليل الذي يرافق ويرشد المسافرين اتقاء لأخطار الطريق، ومنها قطاع الطرق واللصوص. ومنها كذلك القنديل باعتباره وسيلة الإضاءة.
في ذلك التاريخ، حسب الرواية، كان المخزن يجبر القبائل على تقديم الضريبة (الترتيب)، دون مراعاة للظروف الطبيعية وما ينتج عنها من جفاف، فضلا عن المجاعة والجراد الذي"ما خلى لا الخضرا ولا اليابسة"23. نتيجة لذلك الإجبار، كان علف بهائم المخزن أولى من إنقاذ روح بشرية "يدوا لك الزرع يعلفوه ل بهايمهم وما يخلوهش لك تعتق به الروح"24. من هنا جاءت مأساة أعريب وسجنه بدون محاكمة في مراكش لأنه شيخ القبيلة (أمغار) الناطق باسمها. استبداد المخزن إذن هو سبب المأساة. لكن المخزن في الرواية ليس هو السلطان.
السلطان والمخزن
من هو المخزن في الرواية؟. إن المخزن ليس هو السلطان، إذ هناك تمييز واضح بينهما فيها. نتيجة لهذا التمييز، كان تعامل القبيلة مع السلطان هو غير تعاملها مع المخزن. وقبل تحديد هذا التمييز، تجدر الإشارة إلى أن المخزن قُدِّم في الرواية باعتباره أقسى من الفقر والكوارث الطبيعية. ذلك أن هذه الأخيرة " تحن...تحن، والمخزن ما يحنش. المخزن اصعب منهم كلهم، مامعاه هدره وماتلقاش له الدوا. اللي قالها هي اللي كاينه وهي اللي تكون. المخزن هو اللي معه الحق ديما، أو هو الحق. شكون يقول للغول عينك حمرا"25. في هذا المعنى يندرج حوار عبوش مع للاهمه:
"-المخزن ديما ورانا، قالت عبوش لللاهمه، حتى تنقولوا برًدناها وتيسلطوا علينا، تيحدوها لنا من فمنا يا لطيف.
– ما يعرفها غير طايبه وتجيهْ حتى ل بين يديه وياريت غير يقنع"26.
يجسد المخزنَ، في الرواية، القائدُ و"المخازنية" باعتبار هؤلاء منفذين لأوامر الأول. للقائد صلة مباشرة مع القبائل التي هي تحت سلطته، وهذا الأخير تحت سلطة الباشا والعامل. وبسبب الجفاف، لم تتمكن قبيلة زمور من توفير "المونة والعلف"27 ، المؤونة لأفراد المحلة السلطانية، والعلف للبهائم لأنها كانت وسيلة التنقل في القرن التاسع عشر في المغرب. أمام عجز القبيلة عن توفير ذينك، المؤونة والعلف، انتقم المخزن. لهذا "ناض العسكر وبدا تيهجم على لخيام اللي قراب. اللي لقاها تَيديها واللي هدر تيجروه ولاّ تيصفوه قدام اولادُه بعدما يحرقوا له عشيشتو"28. بسبب كل هذا، "ثارت قبيلة زمور وقبيلة بني حسن"29. كانت نتيجةُ رد فعل القبيلة قتلَ عدد كبير من أفراد المخزن وهروب البعض منهم.
لكن مقابل إبراز قوة القبيلة إزاء المخزن، تمت الإشارة كذلك إلى الخوف منه الذي استوطن النفوس. يتضح هذا بعد إلقاء القبض على المتحدث باسمها: أعريب. لهذا قال هذا الأخير:"ملي عرفوني تهزيت ل مراكش قالوا القضية وصلت للقصر، وخافوا على راسهم. الخوف اكل لعقول وشرب النفوس، عرفوا راسهم إلى مشى حتى هدر فيهم شي واحد غ يرموه ف الحبس حتى يرشاوا عظامُه"30.
ويبدو من خلال الرواية أن القبيلة لم تكن ضد المخزن في حد ذاته، بل كانت ضد تصرفاته، ومنها استغلال المنصب من أجل الاغتناء، وعنفه، ولأنه لا يأخذ بعين الاعتبار الظروف الطبيعية والاجتماعية للقبيلة. وفي الرواية إشارة إلى استغلال الليل من قبل المخزن للاعتقال. يُستنتج من الرواية أن الاعتقال يكون ليلا لأنه، في هذا السياق، غير مشروع.
هذا عن علاقة القبيلة بالمخزن، أما علاقتها بالسلطان في الرواية فكانت مختلفة تماما. ذلك أن السلطان الحسن الأول،الذي كان ينزل في "للايطو" بزمور، لما علم حقيقة ما يقوم به القائد، دون علم الباشا والعامل، قام بفصله. أنصف السلطانُ القبيلةَ. وبالمقابل، طلب من هذه الأخيرة أن تزوده بالشباب للدخول في سلك الجندية، إنه يمارس السياسة. وكل من رغب في الانخراط فيها من الشباب، أُعطي له بغل وبندقية (مكحله) وتم تدريبه على استعمال السلاح.
مما يدل أيضا على علاقة القبيلة بالسلطان في الرواية، هو رغبة للاهمه، لما علمت برجوع السلطان، في رفع شكواها أو مَظْلِمتها إليه بعد أن علمت بأن زوجها أعريب سجين في مراكش بدون محاكمة. فقد انتهزت للاهمه فرصة الرجوع، بعد أن تسللت إلى المكان الذي سيمر منه السلطان، لتبليغ تلك الشكوى أو المَظْلِمة. وكانت قد علمت بأن السلطان بات "ف قنطرة أفلوس بواد بهت"31. كان لون الثوب الأبيض الموضوع على رأس القصبة علامة ودلالة على حسن طويتها تجاه السلطان، علاوة على التحية. ذلك أنه لما كانت محلة السلطان راجعة وجدت "امراه نازله م الكيدار واقفة جنب الطريق، وزيف أبيض ف راس قصبة تتحيي، حتى حد ما شك علاش هي هنا باش يبعدوها"32.
علاقة القبيلة بالسلطان إذن ليست هي ذات العلاقة بالمخزن. ولأن الأمر كذلك، فقد كانت القبيلة تستقبل السلطان، كلما كانت محلته مارة بزمور، بما يدل على الخضوع. هذا ما عبر عنه أعريب لغوذا. ذلك أنه لما نزل السلطان في للا يطو مرة أخرى "كنا هذ المرة وجًدنا له ڴاع اللي يخص. بني حسن وزعير ما خلاوا ما جابوا، إينا تلالس ذالزرع هذي، وينا ثيران، وينا غنم، وينا علف للبهايم، مانساوا حتى حاجه. المهم مشى السلطان راشقَه له"33.
لكن لماذا لم يتمَّ إطلاق سراح أعريب من قبل السلطان الحسن الأول بعد تظلم زوجته للاهمه من القائد، وبعد معرفته الحقيقة؟. السبب في ذلك هو انهماك السلطان في إطفاء "ثورة"34 ، ثم أعقبت ذلك الإطفاءَ وفاتُه التي كانت سنة 1894. كانت القبيلة تتطلع إلى إطلاق سراحه، وهذا يعني أن لها ثقة في السلطان عكس المخزن. عدم إطلاق سراح أعريب وسيلة فنية استعملها الكاتب كي يتمكن من تقديم معلومات عن كيفية انتقال السلطة من الحسن الأول إلى السلطان عبد العزيز عبر شخصية أعريب، ومن قلب دار المخزن في مراكش، أي من أجل تقديم المزيد من الأحداث الروائية، وكذلك لأن حُبكتها تقتضي ذلك.
الصراع من أجل السلطة بعد وفاة الحسن الأول
حظي أعريب السجين بمراكش بمعاملة خاصة من لدن أفراد من المخزن، منهم أحليلي قائد المشور بمراكش، والوزير غريط وزير الشكايات، سبب ذلك هو أنه فقيه . فبسبب هذه الصفة، تم استغلاله لتعليم أبناء القائد والوزير المذكورين35. بفضلها إذن "تنخرج نشوف الضو ونعلًم كلام الله"36 كما قال.
مكنه السجن من معاينة وقائع، منها أن ما تم أكله في ثلاثة أيام بمناسبة زواج الابن البكر للحسن الأول يساوي "ذاك الشي اللي تاكله لبلاد ف عام وعامين"37. وبعد وفاة السلطان الحسن الأول، كان أعريب السجين يقرأ الرسائل الموجهة إلى وزير الحرب، أخ الصدر الأعظم أبا احماد، لأنه ليس من مراكش وليس له اتصال بأحد. وكان هذان السببان كافيين ليثق فيه الوزير، وهما سببان أيضا في نمو الأحداث وتطورها، لاسيما تلك المتعلقة بالصراع من أجل السلطة عقب وفاة الحسن الأول.
طرفا هذا الصراع، حسب الرواية، هما زينب أم مولاي محمد أخ السلطان عبد العزيز من جهة، التي لجأت إلى الرحامنة من أجل مناصرتها؛ والصدر الأعظم با احماد من جهة أخرى، الذي تم تقديمه، سرديا، باعتباره منفذا لوصية الحسن الأول، ومفادها أن ابنه عبد العزيز هو الذي يتولى السلطة بعده.
كانت نتيجة هذا الصراع سجن "ولد السلطان لكبير"38 أي الابن البكر للسلطان الحسن الأول مولاي محمد، وهجوم با احماد على الرحامنة لأنهم ساندوا خصومه. هذا إضافة إلى أن القبائل "ثاروا على قيادهم للي كانوا تيعاملوهم معاملة خايبة"39، فكان الاقتتال، والسرقة، والانتقام من المخزن. في خضم هذا الصراع تحركت "المحلات" التي نظمها با احماد. ومعها كان السجن، والتصفية، وقطع الرؤوس وتعليقها "ف جامع لفنا وف لوداية ذالرباط وف باب المحروق في فاس وف باب العلج في مكناس"40 لتكون عبرة للآخرين.
تم تقديم هذا التاريخ في الرواية، ومنه الصراع من أجل السلطة، علاوة على معلومات تتعلق بتاريخ تامسنا، وبرغواطة، وصالح بن طريف الذي ادعى النبوة في زمن سابق، وتاريخ سلا، نظرا للمعرفة التاريخية التي يتمتع بها أعريب، ومن خلاله الكاتب، في إطار بنية روائية منسجمة من حيث تركيبها الحدثي.
البنية الروائية
سبقت الإشارة إلى أن الرواية بدأت بالإشارة إلى قبر أعريب. أما نهايتها فكانت بموت هذا الأخير بمجرد رجوعه من السجن صحبة ابنته تاعروروت وحبيبها غوذا، الذي سيصير كذلك زوجا لها. موت أعقبه فرح خلافا للعادة تنفيذا لوصيته. وصية الدافع إليها حلم في مراكش. فضل أعريب في تلك الوصية الاحتفال بزواج ابنته تاعروروت وغوذا على أي حدث طارئ قد يحدث. لهذا قال في نهاية الرواية: "مانبغيكمش غدا تنزلوا على خيولكم وتوقفوا البارود، بغيت الفرح يستمر ولو يكون اللي يكون، غدا زواج بنتي تاعروروت ب غوذا ولد واسو، نبغيكم تحضروا جوج عدول وتضربوا لكحل ف لبيض وتشاركهم ف هذ الفرحة ثلثتيام كاملة، بغيت يكون فيها القلب ع القلب"41.
إن عبارة "ولو يكون اللي يكون" تندرج، زمنيا، في إطار الاستباق. وفعلا بعد ذكر الوصية، التي حيًرت الجماعة، كان موته مباشرة "وابتسامه رقيقه وصافيه بلورية"42 على وجهه. فضل أعريب الحياة والفرح على المأتم، وكذلك كان بعد وفاته مباشرة.
للوصول إلى هذه النهاية، كانت سلسلة من الأحداث يشد بعضها بعضا مكونة، أي الأحداث، البنية الروائية. هذه البنية الروائية المترابطة كانت كذلك بفضل وسائل أدت إلى هذا الترابط. وقبل ذكر هذه الوسائل، تجدر الإشارة إلى أن الرواية مقسمة إلى عناوين فرعية تبعا لتسلسل الأحداث. أما هذه الوسائل فهي، القتل، والصداق، والرسالة، والسجن، فاللقاء مع ليفي اليهودي المغربي مع أمه في طريق الرحلة من سلا إلى أنفا.
أدى قتل قسو لرحو غير المتعمد، بعد شجار بينهما في السوق، وهما معا من بولمسافر، واتهام الأول ليلان ابن أعريب، وهو من قبيلة آيت بو يحيى، بأنه هو القاتل إلى جعل الأحداث ترتبط بقبيلتين. كما أدى هذا القتل، ومحاولة الصلح بعده، إلى اللقاء الأول في الرواية بين تاعرورت وغوذا حيث كانت لغة العيون هي المعبرة عن الحب. هذه اللغة وسيلة تعبير عند تاعروروت بعد تسجيل التحول الذي طرأ على شخصيتها في نهاية ما جاء تحت عنوان "الحكاية ديما مع الواد" أثناء رحلة العودة من مراكش.
بعد الصلح اشترطت تاعروروت، لقبول غوذا زوجا لها، أن يرافقها إلى مراكش بحثا عن والدها السجين وبعد ذلك يكون الزواج، هذا هو ما تطلبه في الصداق. ورغم صعوبة تحقيق هذا الهدف، لذلك كان هذا العنوان الفرعي: "عين الشمس"، فقد قبل غوذا هذا الشرط. هذا الأخير وسيلة فنية لكي لا تسافر تاعروروت بمفردها من زمور إلى مراكش، وهي جميلة وفي ريعان الشباب حيث كانت تبلغ من العمر ثمانية عشر عاما، في زمن كان السفر فيه يكون بواسطة الدواب، وكان محفوفا بالمخاطر بسبب اللصوص وقطاع الطرق. تفرعت عن هذا الشرط مجموع الأحداث التي أتت بعده. الأحداث التي أتت بعده منطقيا وليس سرديا. ذلك أن الشرط لم يكن إلا بعد تحديد مكان وجود أعريب. وتحديده سرديا كان من خلال الرسالة التي كتبها زوجها أعريب وقدمها لها مبعوث منه إليها في السوق.
هذا الحدث المتعلق بالرسالة ومحاولة للاهمه مع مجموعة من أفراد القبيلة، أغلبية هذه المجموعة نساء، الذهاب إلى الرباط لتقديم شكوى إلى العامل، واعتراض القائد على ذلك بسبب وشاية، كان تحت العنوان الفرعي "اللي ماعندو اباه عندو للاه" من صفحة 178 إلى صفحة 198. أما الشرط فكان تحت عنوان "عين الشمس" من صفحة 57 إلى صفحة 62، وبين حدث الرسالة وحدث الشرط "عهد"43 أي مدة زمنية. روائيا سبق الشرطُ الرسالةَ، وزمنيا سبقت الرسالةُ الشرطَ، إذ كان هذا الأخير بعد تحديد مكان وجود أعريب. وهذا يعني أن الأحداث السردية في الرواية لم تكن مرتبة ترتيبا زمنيا تصاعديا أو خطيا.
حددت الرسالة مكان وجود أعريب، كما أنها دلت على أن هذا الأخير حي. لهذين السببين، مكان الوجود والحياة، يمكن اعتبار الرسالة حافزا لتاعروروت كي تغامر بحياتها بحثا عن أبيها. لهذا يمكن القول إن السفر إلى مراكش كان بفضل هذه الرسالة بالذات. وعلى هذا الأساس، يمكن القول إن الأحداث المتعلقة بالسفر من زمور إلى مراكش، ذهابا وإيابا، وعودة أعريب إلى زمور بعد إطلاق سراحه، كان للرسالة في كل ذلك دور يجوز وصفه بالأساسي. إذ لولا هذه الرسالة لما كان حماس تاعروروت وشرطها.
وكان لوجود أعريب في سجن مراكش دور أساسي في الكشف عن معلومات تتعلق بالمخزن واستبداده، والصراع من أجل السلطة بعد وفاة الحسن الأول. إن وجوده في القصر بمراكش سجينا جعله، بفضل علمه أي الفقه، يطَّلع حتى على أسرار المخزن.
وقد ترتبت عن صدفة لقاء اليهودي المغربي ليفي وأمه مع تاعروروت وغوذا من سلا إلى أنفا أحداث تتعلق بمسلمي ويهود المغرب. لهذا يمكن اعتبار هذا اللقاء وسيلة فنية، تم استغلالها فنيا لاحقا من أجل إبراز متانة العلاقة بين مسلمي ويهود المغرب في نهاية القرن التاسع عشر. كلمة صدفة، في هذا السياق، هي كذلك من الناحية السردية.
في الرواية كان القبر44، فالقتل45 ، فالشرط46، فاللقاء مع ليفي47، فالولي والهدية، الولي48 الذي كان وسيطا كي يدخل غوذا وتاعروروت إلى قصر با احماد، وهدية تاعروروت49 إلى زوجة هذا الأخير، فالسجن50، ثم أخيرا الرسالة51، هكذا بالترتيب. لكن منطقيا كانت الرسالة قبل الشرط، وقبل اللقاء مع ليفي، وقبل اللقاء مع الولي والهدية، وبعد السجن. وقد ساهمت هذه الوسائل الفنية كلها في تلاحم أجزاء البنية الروائية ونمو الأحداث وتطورها فيها. نسيج هذه الأحداث يتكون من التاريخ والحب. لذلك امتزج فيها التاريخ بالخيال الفني.
في إطار هذه البنية الروائية، كان اختبار عدد من الشخصيات. فقد تنكرت للاهمه في جلباب أعريب من أجل اختبار شجاعة تاعرورت52. واختُبرت تاعروروت في شرفها بعد إغرائها من قبل قائد الرحامنة أثناء العودة مقابل "صندوق ديال الثوابات ذ برتقيز وفرانسيس ولانجليز عاد وصلوه، ولحرير ذ الشينوا مع جلابَه ل بَّاك برزَّتها"53، مستعملا لهذه الغاية إحدى الشيخات وسيطة. لكنها دافعت عن شرفها. الدفاع كان باللغة وبعلامات جسدية، ذلك أن "وجه تاعروروت بدا يتلوَّن، مرَّه يصفار ومرَّه يحمار ومرَّه يزراق. شافت ف الشيخة حتى شافت وقالت لها وهذ المرَّه بصوت مرتفع وعينيها خارجين فيها "قولي للقايد ديالك أنا ماتنتباع ماتنتشرى ولو بمال الدنيا كله، أنا بعرضي وبرجلي تيبغيني وتنبغيه"54. إزاء هذا الموقف الصارم، وبسبب خوف القائد من افتضاح أمره ومن ابا احماد خصوصا، الصدر الأعظم، فتكون نهايته، عاقب الشيخة بعد أن لجأ إلى حيلة لتبرئة الذات والتملص.
وكان الرقص ولغة الجسد وسيلتين لاختبار حب تاعروروت لغوذا والكشف عن غيرتها. من أجل هذا الاختبار كانت الأحداث المتعلقة برقص مماس، أخت غوذا من أبيه، مع هذا الأخير دون أن تعرف تاعروروت بأنها أخته مما زاد في تأجيج نيران الغيرة لديها.
ووُضع أعريب تحت الاختبار أيضا. فقد عرض عليه ابا احماد منصب قائد بعد إطلاق سراحه قائلا: "وانت يا أعريب وجَّد راسك ل تقيَّادت. أعريب بحال إلى ما سمعش ما جاوبوش"55. إن التظاهر بعدم السمع وعدم الجواب يعبران عن موقف. وقبل هذا لم يعر اهتماما لصرة المال التي قدمها له الوزير غريط هدية عن طريق المخزني التي تردد في قبولها. كما يمكن إدراج دفاعه عن القبيلة أمام القائد، الذي سجن بسببه، اختبارا لأهليته في تولي منصب أمغار من لدن القبيلة. ورغم خذلان القبيلة له، بعد سجنه، فإنه التمس لها الأعذار، لأن الخوف من المخزن وانتقامه استوطن النفوس. لهذا السبب كان متسامحا تجاهها56.
هكذا يتبين أن علاقة أعريب بالقبيلة، ليست هي ذات العلاقة التي تربطه بالمخزن. في الأولى يوجد الالتحام والانسجام والدفاع والتسامح؛ وفي الثانية يوجد الرفض والمواجهة. رفض سلوك المخزن الاستبدادي، ومواجهته، إن اقتضى الحال ذلك بالكلام وبالسلاح أيضا. لذا يمكن القول إنه اختبار مزدوج لشخصية أعريب.
كذلك اختُبرت شخصية للاهمه. فبعد اختطاف وسجن زوجها لم تستسلم بل واجهت المخزن، فكانت النتيجة اختفاؤها هي كذلك سنة تقريبا. لكنها، رغم هذا الاختفاء واستبداد المخزن، أصرت على إبلاغ رسالتها إلى السلطان الحسن الأول المتعلقة بسجن زوجها أعريب. ومثل هذا الأخير، فقد كانت هي كذلك متسامحة مع القبيلة رغم خذلانها لها. لذا، يمكن القول إن أعريب وللاهمه يتشابهان في مواجهة المخزن والتسامح مع القبيلة.
أما غوذا فقد اختُبرت شجاعته وحرصه حينما تصدى للدرويش الذي كان في الحقيقة لصا. كما اختُبر حينما اختفى وراء صخرة، في الوقت الذي كانت فيه تاعروروت تسبح وحيدة وهي عارية تماما في طريق العودة من مراكش إلى زمور. ويمكن إدراج إمساكه بالغاشي في مقهى بساحة باب الحد في الرباط، في رحلة العودة، قاتل رحو أخيه في إطار هذا الاختبار.
هذه الشخصيات لم تُختبر فقط في الرواية، ولكن إضافة إلى الاختبار ونجاحها فيه، تم تقديمها في إطار مثالي. يمكن تقديم أمثلة من الرواية عن هذه المثالية، غير أنه يمكن الاقتصار على بعضها. ومنها مثالية تاعروروت نفسها، الفتاة البالغة من العمر ثمانية عشر عاما التي غامرت بحياتها وشرفها، في مجتمع تقليدي، من أجل إطلاق سراح أبيها. ومنها كذلك الصورة التي قمت بها للاهمه، حيث تم التركيز على شجاعتها في مواجهة المخزن في زمن كان الخوف فيه يتملك النفوس من هذا الأخير. هذا علاوة على الدور التربوي الذي اضطلعت به تجاه حفيدَيْها. زد على ذلك أنها كانت تنصح وتوجه أهل القبيلة حتى في الخلافات الشخصية. ويمكن القول، إن الاختبارات التي خضعت لها الشخصيات الأربع المذكورة آنفا تندرج في إطار هذه المثالية.
هذه الشخصيات/ الذوات، التي وضعت موضع اختبار، كانت لها رهانات متباينة، واختلفت الوسائل التي اعتمدتها من أجل كسبها. لهذا كان الموضوع المطلوب بالنسبة إليها مختلفا. كان الموضوع المطلوب بالنسبة لأعريب، بوصفه ممثلا للقبيلة (أمغار)، هو الدفاع عن هذه الأخيرة أمام تسلط واستغلال المخزن. لكن هذا الأخير اعتقله تحت جنح الظلام أي ليلا، وللزمن دلالة هنا. إنه يدل على الاعتقال التعسفي. الدفاع عن القبيلة من لدن أعريب كان بالسلاح وبالكلام أيضا. وكان موضوع للاهمه هو البحث عن زوجها والدفاع عن القبيلة أيضا بوصفها زعيمة القبيلة (تامغارت)، حيث عوَّضت زوجها السجين باختيار القبيلة. وكانت وسائلها لبلوغ هذا الهدف الصبر والحكمة والشجاعة والاعتصام والحيلة أيضا. فقد استعملت الحيلة من أجل إيصال رسالتها إلى السلطان في قنطرة أفلوس بواد بهت وقد تحقق لها ذلك. لكن وفاة السلطان الحسن الأول حال دون إطلاق سراح زوجها. وكان موضوع تاعروروت هو إطلاق سراح والدها أعريب السجين في مراكش. لتحقيق هدفها استعملت الذكاء. وكان لعفتها وجمالها دور في تحقيقه. فبالنظر إلى جمالها اشترطت على غوذا أن يصطحبها إلى مراكش لتحرير والدها وبعد ذلك تكون له زوجة. إنها فتاة، وجميلة، والسفر إلى مراكش في ذلك العهد محفوف بالمخاطر. لذا فهي في حاجة إلى رفيق تطمئن إليه. وهنا يتجلى الذكاء. أما موضوع غوذا فهو تاعروروت بالذات. ولكي تكون له زوجة، فقد أبان عن شجاعته وإخلاصه لها.
هذا، وقد اعتمدت البنية الروائية على تعدد الساردين. إذ هناك سرد إطار وسارد مؤطر تفصله عن الأحداث مدة زمنية طويلة. هذا ما يستشف من أول جملة سردية في الرواية. المسرود له بالنسبة لهذا السارد هو القارئ. وبطبيعة الحال، فهذا الأخير يوجد خارج النص. داخل هذا السرد الإطار، يوجد ساردون، ولكل سارد مسرود له. غير أنه، خلافا للمسرود له السابق، يوجد هؤلاء المسرود لهم داخل النص الروائي باستثناء سرد غوذا حيث المسرود له في سرده هو القارئ كذلك. من سرده، على سبيل المثال، قوله:" ف الشاوية اكرينا الزطاطين يوصلونا لمراكش...إلخ"57. إن الضمير المتصل النون في الفعلين يعود على غوذا وتاعروروت. وعليه، فالمسرود له في هذه الحالة هو القارئ.
والدليل على وجود السرد داخل السرد، هو أنه بعد نهاية السرد الأخير، في هذا المثال الأخير، توسطت الصفحة علامة مميزة هي (*)، بعدها مباشرة استأنف السارد المؤطر السرد بقوله:"سول غوذا واحد الرجل كبير ف لعمر..."58. الفرق بين السرد الإطار وسرد غوذا يكمن في الزمن، وكذلك في استعمال ضمير الغائب في الأول، واستعمال ضمير المتكلم في الثاني. وهذا يعني المشاركة في الأحداث بالنسبة للثاني. وتكشف أزمنة الأفعال التي استعملها في سرده مثل: اتفقنا، اكرينا (اكترينا)، حسينا (أحسسنا)...أن هذا السرد كان بعد وقوع الأحداث.
كما كانت للاهمه ساردة. المسرود لهما في هذه الحالة هما حفيداها عروش وعيوش. من هذا السرد، على سبيل المثال، قول للاهمة:"كان ياما كان كان لحبق والسوسان ...تيحكوا جدودنا اللولين...."59. وفيه يندرج مجموع الحكايات التي حكتها لحفيديها في الرواية. وكان الانتقال من حوارها مع حفيديها إلى الحكاية سببا في تغيير شكل خط الكتابة.
أعريب سارد كذلك في هذه الرواية. فقد سرد لغوذا، وهما في طريق العودة إلى زمور، علاقة الصدر الأعظم با احماد بالسلطان الجديد عبد العزيز الذي كان عمره، حسب الرواية، بين 13 و 14 عاما. ولأن السلطان كان صغير السن "جابوا له اللي يضحكوا، وجابوا له موتور بجوج روايض وواحد بثلاثة ذ الروايض، إيوا وكمل من راسك، النهار وما طال ما تسمع غير ررررررررررر ولعجاج طاير وراه"60. كما سرد له أيضا وقائع مواجهته للمخزن وسجنه في مراكش.
ولإبراز قوة با احماد، ذكر أعريب أن السلطان عبد العزيز "كان جنبُه جنب ابا احماد تحت المظل"61، لم يكن خارج المظل بل تحته. والمظل رمز من رموز السلطة في المغرب، ولأن باحماد يوجد تحته، لاخارجه، فهذه علامة على قوة سلطته ونفوذه. ورغم احترامه الظاهر للسلطان فهو "اللي في يدِّ الشغل"62 .
وكان ليفي ساردا كذلك. المسرود لهما في هذه الحالة هما غوذا وتاعروروت. في هذا الإطار، مثلا، قال ليفي:"جا عندي واحد ما تختار في الرجال غير هو..."63.
هناك إذن سرد إطار، توجد داخله سرود عيددة، تعدد فيها الساردون والمسرود لهم. بين السرد الإطار والسرود الأخرى زمن طويل، يمكن القول إنه هو الزمن الفاصل بين زمن الكتابة وزمن الوقائع أو الأحداث.
تخللت السرد كذلك محكيات صغرى. هذه المحكيات الصغرى وظيفتها تسليط الضوء على موضوع معين. في إطار هذه المحكيات الصغرى تندرج، على سبيل المثال، حكاية بودا مع طالبه بورنا التي حكتها تاعروروت لواسو والد غوذا.
اللغة في الرواية
كُتبت هذه الرواية بالدارجة المغربية. لكنها دارجة تميل إلى العربية الفصيحة من حيث المعجم ومن حيث الكتابة أيضا. فمن حيث المعجم، استعملت في هذه الرواية كلمات عديدة جدا لا تستعمل في الدارجة التي يتكلم بها السواد الأعظم من الناطقين بها. من ذلك على سبيل المثال:"منَّهنا تاتجلَّى فلسفة للاهمه ف الحياة وللحياة، من حيث العمل دين، والدين عمل، ومن حيث كذلك الحياة بالنسبة لها"64. إن "تاتجلَّى"، و"من حيث" و"فلسفة" و"من حيث كذلك" هي كلها عربية فصيحة مع تغير طفيف في "تاتجلَّى" التي حدث فيها تعديل طفيف من تتجلَّى إلى "تاتجلَّى". ومنه أيضا: "ف الحقيقة امراة ابا احماد كانت معجبة بشهامة وشجاعة تاعروروت وعمَّرها ما غارت منها ك امْرا، ولو أن تاعروروت شابه جميله وجذابه إلى شافتها الغنم ما ترعى شي"65.
إن كلمات "معجبه"، و"بشهامة"، و"شجاعة"، و"جميله"، و"جذابه" لا تستعمل في دارجة الفئات الشعبية غير المتعلمة. وإنما تستعمل في دارجة من له حظ وافر في اللغة العربية الفصحى. الدليل على ذلك أيضا هو "ما ترعى شي" التي تعني "لا ترعى شيئا". هذه العبارة تُنطق في الدارجة المغربية أحيانا ب "ما ترْعى شْ" أو ما ترعى شي" دون معرفة كيفية كتابتها بالضبط. لذا، فإن الذي أدى إلى التفريق بين "ما" الأداة، و"ترعى" الفعل، و"شي" المفعول به في التعبير السابق، وهي ثلاث كلمات، هو وجود ذلك الحظ من التعليم المشار إليه. هذا من حيث المعجم.
أما من حيث الكتابة، فقد كتبت الأفعال المقترنة بواو الجماعة في الرواية مع زيادة الألف في الأخير، مثل "تتوافدوا"66، و"إلى اقريتوا مزيان وعاونتوا أباكم ، راكم غ تكبروا وتكونوا رجال.."67. وهذه علامة لغوية تتعلق بالعربية الدارجة المنطوقة وليس باللغة العربية الفصحى. في هذه الأخيرة تكتب، على سبيل المثال، "تتْوافْدوا" تتَوافدون، وتكتب "إلى اقْريتوا" إذا قرأتم إلخ. كما استبدلت أداة الشرط في الفصحى إذا ب"إلى" إلخ. هذا الاستبدال موجود في الدارجة. في هذا المثال الأخير المخاطَبان اثنان وليسوا جماعة، هما عروش وعيوش. السبب في استعمال واو الجماعة في الدارجة المغربية للمثنى، هو أنه لا يوجد ضمير يخص المثنى في الأفعال، حيث يُستعمل ضمير الجمع للمثنى والجمع معا. وهذا ينطبق على المثال المذكور. لكن الألف الأخير الموجود في الأفعال علامة كتابية غير منطوقة تتعلق باللغة العربية الفصيحة. وخلافا للأفعال، يوجد المثنى في الدارجة المغربية في ضمير المخاطَب، دليل ذلك: "نْتُما" (أنتما) وهو يُستعمل للمثنى والجمع معا.
وعلى المستوى الصوتي، كانت كتابة بعض الكلمات من الدارجة المغربية عنصرا مميِّزا للشخصية اليهودية المغربية في الرواية. في هذا السياق، يمكن ذكر المثال التالي:
"ملي وصلوا لقاوا واسّو وأعريب ف القهوى ومعهم دافيد حاطين براد أتاي وتيعاينوهم. سلمت تاعروروت على دافيد، سولها "شكون هذي"؟. أعريب رد عليه "هذي هي تاعروروت".
– تبارك الله..ماشاء الله ! غير البارح وهي شغيرة. وهذا اللي معها؟.
واسو تيجاوبوه "هذاك ولدي اللي كان تيسقي لك الما(ء) ويعلف لك لبهيمة، أوْ نسيتيه؟"..
– لا حرام واش نشيت"68.
تُنطق الصاد والسين شينا لدى اليهود المغاربة. لكن، رغم هذا العنصر الصوتي اللغوي المؤشر على الديانة اليهودية في المغرب، فإن التعايش الديني هو السائد بين مسلمي ويهود المغرب في الرواية. هذا، فضلا عن العلاقات الاجتماعية والاقتصادية بينهما، التي بفضلها كان لشخصيات يهودية مغربية حضور فيها.
فنون في الرواية
تخلل شعرُ الزجل هذه البنية الروائية. منه أبيات منسوبة لمحمد بن سليمان أنشدها غوذا لتاعروروت69. كان هذا الإنشاد بعد أن نظر إليها "بعينين جيعانين..لهفانين"70. لذا كان الإنشاد تعبيرا عن حالة وجدانية. ومنه الإنشاد المتبادل المعبِّر عن نار الحب المتأججة بينهما الذي كان في الوداية قرب البحر بمدينة الرباط. خاطب غوذا تاعروروت في هذا الزجل مستعملا ضمير المخاطَب المتصل المؤنث الموجود في فعل الأمر "خذي"، واستعملت هي الضمير المستتر لغة، والظاهر من حيث المعنى والسياق، في فعل الأمر "خذ". ولأنه جاء على لسان شخصيتين من ابتكار كاتب الرواية وليس اقتباسا فهو إذن لكاتب الرواية ادريس امغار المسناوي الزجال أيضا. ولأن هذا الأخير زجال فقد وصف الساردُ حلْقة الزجال في "جامع الفنا"قائلا:"حلْقة الزجال عامرَه. السكات مخيم عليها، والزجال تَيتنقل وسط الحلقَه وهو تيضرب على الدعدوع"71. السكوت علامة غير لغوية تدل على الإعجاب والاندماج في الحلْقة، إنها حلْقة الزجل.
وهناك فنون أخرى تمت الإشارة إليها في الرواية، في سياقات مختلفة، منها الألعاب السحرية، والأزلية، وهما من الفنون التي كانت تقدم في جامع الفنا بمراكش. هذا، بالإضافة إلى أحيدوس، والملحون، والعيطة، والأمثال الشعبية، والغناء، وعبيدات الرمى، والرقص، ورباعيات عبد الرحمن المجذوب، والهيت بنوعيه الحسناوي والشطبي. أضف إلى ذلك فنا من نوع آخر هو الطرز الفاسي.
الفنون الأدائية مثل أحيدوس، وعبيدات الرمى، والعيطة، ذكرت ارتباطا بالأماكن التي تؤدى فيها. فقد ذكرت العيطة المرساوية حين وصول أعريب وتاعروروت وغوذا، في رحلة العودة، إلى الشاوية. وذُكر فن عبيدات الرمى حين اقتربوا من مدينة السخيرات، والهيت بنوعيه في زمور، والملحون بسلا حيث كانت مدرسة المريني. زد على هذا ذِكرَ أدوات الغناء مثل البندير والقصبة والغيطة الخ، ووصفَ طريقة الأداء أحيانا. في إطار هذه الثقافة الفنية كان تمييز إيقاع أحد الأنواع الغنائية. يقول السارد"ناضوا عبيدات الرمى هذ المرَّة غنّاو غنَّايه برقصة الحصادا، وكملوها بغنَّايه ثالثه فيها رقصة لغزيل. الرقصات كلهم شاركوا فيهم غير الرجال. ميزان الغنايات كان سريع وقريب ل أحيدوس، تيسموه الثلاثي. تيقولوا أن أصل لون الموسيقى ذ عبيدات الرمى أمازيغي غير تعرَّب مع دخول العرب للحوز ودكالة"72.
هذه الأنواع الغنائية الشعبية لم تكن أثناء الذهاب إلى مراكش، بل أثناء العودة. والسبب في ذلك هو أن العودة كانت بعد أن تمكنت الذات/تاعروروت من الحصول على موضوعها، أي تحقيق هدفها وهو تخليص أبيها من الأسر الذي دام ثلاث عشرة سنة في قصر مراكش. الغناء والأفراح في العودة، ومخاطر الطريق في الذهاب. دامت رحلة العودة عشرين يوما. الغاية من تسجيل هذا الزمن الأخير هو الإيحاء بأن وسيلة السفر إذاك كانت بدائية: الدواب.
بدأ البرنامج السردي في هذه الرواية بقتل شاب، هو رحو أخ غوذا وابن واسو وصديق القاتل، من قبل الغاشي (قسو) دون أن تكون لديه نية القتل، وانتهت بالالتحام القبلي بين قبائل زمور. فعند وصول القادمين من مراكش إلى آيت منصور وجدوا مائة خيمة قد نصبت تقريبا فرحا بعودتهم. وكان في استقبالهم نحو مائة فارس، و"جات الناس من كل قبيلة، جاوا من كل قبيله، جاوا من الخزازنه، من آيت واحي، من مزورفا، م القطبيين، من آيت علي ولحسن، من آيت بنقاسم، من الموارد، م الحجامه، من حودران، وحتى من آيت عبوا، ومن آيت أوريبل، ومن بني حسن والشرارده. جاوا يشوفوا أعريب ويفرحوا ببنته اللي حررته"73. يدخل في إطار هذا الالتحام الشرط الذي اشترطه واسو لكي يسامح قسو، الذي غدا حمالا في الرباط، قاتل ابنه رحو دون قصد. هذا الشرط هو أن يعود والداه إلى زمور بعد أن سكنا في دوار الگرعة إثر عملية القتل المشار إليها.
هذا، وتجدر الإشارة إلى إضافة كلمة "المسناوي" إلى اسم اعريب، حيث غدا اسمه هو اعريب المسناوي. إضافة هذا اللقب تضفي معنى إضافيا إلى المعنى الذي تحمله كلمة "اعريب". ذلك أن هذا اللقب يشترك فيه الكاتب والشخصية المذكورة. هل تنطوي هذه الإضافة على معنى إضافي بالنسبة لاسم أعريب؟ بالتأكيد نعم، فياء النسبة لها دلالتها. لكن هل يمكن التماهي بين أعريب المسناوي والكاتب؟ إن هذا ليس هو ذاك على مستويات عديدة منها الزمن، والأحداث، والأسرة، وزعامة القبيلة، والتعليم. لكن، رغم ذلك، يمكن التساؤل إن كان بينهما تشابه على مستوى بعض الأفكار وعلى رأسها الموقف من المخزن. في هذه الحالة، إذا صح هذا التشابه، تكون شخصية أعريب المسناوي قناعا أو أداة مرر من خلالها الكاتب موقفا من الحاضر وليس من الماضي. هذا،علما بأن أعريب المسناوي كان زعيم القبيلة، فتمرد ضد المخزن وليس ضد السلطان دفاعا عن القبيلة وليس عن مصلحة شخصية. لهذا قال مخاطبا غوذا:"المخزن آ ولدي موسخ بزاف، وسخوه الجيعانين..كروش لحرام. كرشهم كبيرة اكثر م لقياس. ما تيشبعوش وما تيعرفوش شي حاجة سميتها المحنَّة. مشغولين بالملذات"74 .
عدم التمرد على السلطان في منطقة زمور خلال الحقبة الزمنية المعنية، يؤكده احمد الناصري في كتاب "الاستقصا". قال في هذا الكتاب وهو يتحدث عن الحسن الأول:"اجتاز بلاد زمور الشلح فأظهروا له غاية الطاعة والخضوع وقدمت عليه وفودهم من كل جانب رافعين أعلامهم وشارتهم وزينتهم التي يستعملونها في مواسمهم وأعيادهم وأدوا له من المال والمؤن والضيافات ما استكثر الناس ذلك وتحدثوا به"75. كما أشار في نفس الصفحة إلى أن الحسن الأول ذكر في كتابه يوم 20 رمضان 1294، بعد أن أوقع بعرب السهول "أن قبيلة بني حكم أظهروا بعض الاعوجاج فقام إليهم اخوانهم من زمور فقوموا اعوجاجهم".
علاوة على كون اعريب المسناوي مناهضا للمخزن في الرواية، فإنه وطني كذلك. يتجلى هذا في قوله مخاطبا غوذا:"ملي دخلوا آولدي لانجليز وفرانسيس للقصر، مابقى كلام. صارت لبلاد ف زمان ما هو عايش ما هو ميت"76 . عدم الحياة وعدم الموت تعبير بلاغي عن فقدان الاستقلال. أضف إلى ذلك ملاحظته لسلوك مالا ين، التي تنطوي في حد ذاتها على موقف منه الدافع إليه الوازع الوطني. قال في هذا الصدد متحدثا عن ما كان يشاهده في قصر مراكش:"كان معهم واحد الإنجليزي سميته ماك لان، عرفت سميتُه حيث كنت تنلقاه عند خو ابا احماد وكان تيجي حتى ل عند لوزير غرنيط، ما تيچلسش غير تيطر وطالق عينيه و وذنيه يعرف كل شي"77. يمكن تفسير المعرفة، في هذا السياق، ووسيلتها العينان والأذنان، بكونها معرفة من أجل التجسس على المغرب ارتباطا بالزمن الروائي المرتبط بدوره بزمن المغرب في نهاية القرن التاسع عشر.
لكن مع ذلك، فهذه الرواية ليست رواية تاريخية بالمعنى الدقيق للكلمة، وإن وظف فيها كاتبها أسماء تاريخية، مغربية وغير مغربية، كانت مشاركة في صنع الأحداث التاريخية في ذلك العهد. بل يمكن القول إنها رواية التخييل التاريخي. في هذا المفهوم الأخير، يمتزج في البنية السردية التخييل بالتاريخ78. لذا، يمكن القول إن الشخصيات في الرواية تنقسم قسمين. إذ توجد في الرواية شخصيات تاريخية مثل الحسن الأول، وباحماد، وغيرهما. وتوجد فيها أيضا شخصيات اقتضت الحبكة والبنية السردية والتشويق وجودها ، ومنها تاعروروت وغوذا.
اختيار هذين الاسمين الأخيرين ليس اعتباطيا، بل يمكن أن نستشف من هذا الاختيار ميلَ السارد، ومن خلاله الكاتب، إليهما وتعاطفاهما معهما. تعني "تاعروروت" في الأمازيغية الوردة، وتعنى كلمة "غوذا" فيها أيضا "الجميل". لذلك، يبدو أن اختيار الوردِ والجمال اسمين لهاتين الشخصيتين الأساسيتين في الرواية، وهما معا من قبيلة زمور،ينسجم مع أطروحة الرواية المدافعة عن القبيلة ضد استبداد المخزن.
من خلال ماسبق، يتبين أن الأحداث الروائية في رواية "تاعروروت" تنقسم قسمين. فمن جهة، توجد في الرواية أحداث تاريخية تعود إلى نهاية القرن التاسع عشر في المغرب. ومن جهة أخرى، توجد فيها أيضا أحداث تتعلق بالحب هي وليدة التخييل الروائي. بالقسمين معا كان طرز ونسج هذه الرواية من لدن الزجال والروائي ادريس أمغار مسناوي.
الهوامش
1-ادريس أمغار مسناوي، تاعروروت، طوب بريس،ط/1، 2010.
2- فتحي النصري،معجم السرديات، دار الملتقى، المغرب،" ط/1، 2010، ص/143،مجموعة من المؤلفين إشراف محمد القاضي. الاستشهاد الموجود هنا من تحرير فتحي النصري.
3- تاعروروت، ص/12.
4- نفسه، ص/30.
5- نفسه،ص/29.
6- نفسه،ص/108.
7- في كتاب "النخبة المخزنية في مغرب القرن التاسع عشر" لمصطفى الشابي غريط وليس غرنيط. منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية ،الرباط ، المغرب،سلسلة رسائل وأطروحات رقم 26، ط/1، 1995 ،ص/116.
8- تاعروروت، ص/206.
9-10- نفسه، ص/209. في كتاب "في صحبة السلطان"لغابرييل ڤير، الفرنسي الذي كان كذلك في قصر السلطان عبد العزيز، فصل عن هذا الإنجليزي من صفحة 69 إلى صفحة 83 بعنوان "القايد ماك لين"، افريقيا الشرق، ط/1، 2009، ترجمة عبد الرحيم حُزل. مما جاء فيه: "وقد كان له نفوذ في القصر. في هذا الإطار قال غابرييل ڤير في الفصل المذكور:"ولا حاجة بنا إلى القول إن ماك لين قد استعمل ذلك النفوذ، بقدر ما أسعفته الظروف، لخدمة المصالح الانجليزية" (ص/70). مكث ماك لين خمسة وعشرين سنة في المغرب، وكان قد جاء إليه منذ عهد الحسن الأول. وهو، كما وصفه غابرييل ڤير، معلم حربي أي مدرب عسكري.
11- تاعروروت،ص/90.
12- نفسه، ص/198.
13- نفسه، ص/203.
14- نفسه، ص/204.
15- نفسه، ص/169.
16-17- نفسه، ص/172.
18- نفسه، ص/5.
19- نفسه، ص/8.
20- نفسه، ص/6.
21- نفسه، ص/92.
22- نفسه، ص/89.
23- نفسه، ص/172.
24- نفسه، ص/173.
25- نفسه، ص/15.
26- نفسه، ص/117.
27- نفسه، ص/169.
28-29- نفسه، ص/170.
30- نفسه، ص/177.
31- نفسه، ص/192.
32- نفسه، ص/193.
33- نفسه، ص/171.
34- نفسه، ص/198.
35- ذكر مصطفى الشابي، في كتابه "النخبة المخزنية في مغرب القرن التاسع عشر"، "أن الترقي الاجتماعي في مغرب القرن التاسع عشر يستند إلى النسب العائلي والثروة المجموعة وإلى التعليم في درجة أقل أهمية". منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية ،الرباط ، المغرب،سلسلة رسائل وأطروحات رقم 26، ط/1، 1995، ص/109.
36- تاعروروت، ص/206.
37- نفسه، ص/201.
38-39- نفسه، ص/206.
40- نفسه، ص/207.
41- نفسه، ص/305.
42- نفسه، ص/306.
43- نفسه، ص/197.
44- نفسه، ص/5.
45-نفسه، ص/41.
46- نفسه، ص/57.
47–نفسه، ص/67 .
48- نفسه، ص/88.
49- نفسه،ص/99.
50- نفسه، ص/168.
51- نفسه، ص/178.
52- نفسه، ص/61.
53- نفسه، ص/164.
54- نفسه، ص/164/165.
55- نفسه، ص/161.
56- نفسه، ص176.
57 – نفسه، ص/83.
58- نفسه، ص/84.
59- نفسه،ص/240.
60- نفسه،ص/210.
61- نفسه، ص/209.
62- نفسه، ص/108. في كتاب زهير شمشوب "الزاوية الكتانية والمخزن 1900-1912" :"واجهت السلطان الجديد صعوبات جمة في بداية حكمه، إذ كان قبله وطيلة صدارة ابا احماد بعيدا عن موطن القرار وأساليب اتخاذه وأصول السياسة، وكان الوزير الوصي مستأثرا بجميع السلطات ولم يتح الفرصة لمولاي عبد العزيز ولو في يوم واحد للتمرس واكتساب قدر وإن بسيط في التجربة العملية في تسيير أمور الحكم" افريقيا الشرق، الدار البيضاء، المغرب، ط/1، 2010، ص/71.
63- نفسه،ص/68.
-64 نفسه، ص/28.
– 65 نفسه، ص/113.
66- نفسه، ص/90.
67- نفسه، ص/240.
68- نفسه، ص/284.
69- نفسه، ص/225.
70- نفسه، ص/224.
71- نفسه، ص/92.
72- نفسه، ص/247.
73- نفسه، ص/297.
74- نفسه، ص/199.
75- أبو العباس احمد بن خالد الناصري، الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، ج/9، دار الكتاب، الدار البيضاء، المغرب، 1956، ص/162.
76- تاعروروت، ص/210.
77- نفسه، ص/209.
78- يمكن،على سبيل المثال،إدراج الروايات التالية في إطار هذا المفهوم: "مجنون الحكم" و"العلامة"،وهما لبنسالم حميش؛ وكذلك رواية "الموريسكي" لحسن أوريد التي تصدرها، قبل المقدمة، ما يلي: "إلى الذين لم يقف التاريخ عند مأساتهم وأحاطهم بالنسيان،إلى ذكرى الموريسكيين". وقد ذكر الكاتب في المقدمة أنه استقى "مادة هذه الرواية من سيرة شهاب الدين أفوقاي، الذي خلّف لنا شهادة عن مساره الفكري في كتابه "ناصر الدين على القوم الكافرين"، يوم أن فر من الأندلس خوفا على حياته من فتنة محاكم التفتيش وانتظم بعد هجرته إلى المغرب في بلاط السلطان السعدي أحمد المنصور الذهبي..." ص/7.