التجريب الروائي.. جرأة المسكوت عنه في الرواية الفلسطينية
رواية مخمل لحزامة حبايب نموذجاً [1]
تقديم
تعتبر الرواية جنس أدبي طيع يخضع لمنطق التحول والتجدد المستمرين من جهة، وانعكاس للذاكرة الإنسانية التي تخضع لمنطق التراكم والتلاشي من جهة أخرى، أما من حيث تحولاته، فقد مر هذا الجنس في مراحل عديدة وتعددت مدارسه في العالم العربي، فكانت الرواية الواقعية، وبعدها الرواية القروية والرومانسية ثم ظهرت الرواية الوجودية، وحديثاً منذ مطلع الستينيات على وجه التحديد، نهجت الرواية منهج التجريب والحداثة، ولعل السبب في تحولات الرواية العربية يعود لتأثرها بالتطور الذي عرفته الرواية الغربية شكلاً ومضموناً. ويعيد معظم الدارسين هذا التحول إلى نكسة 1967 التي أحدثت هزة في الوعي الجمعي العربي أدت بالمفكرين والمثقفين إلى إعادة النظر بالخطاب العربي الفكري والإعلامي والإبداعي، وكان نصيب الرواية أن تحررت من مجاراة الأنظمة السياسية والأيديولوجيات السائدة والتَفَتَتْ إلى الخلل الحاصل في البنى الاجتماعية، وإلى تصوير ما تمور به المجتمعات العربية من جهل وفقر، وتخلف حضاري وفكري، فكان أن تحولت أصوات روائية كثيرة من الواقعية التقليدية إلى واقعية جديدة تعكس التحولات التاريخية والاجتماعية والسياسية التي طرأت على العالم العربي. ومن "خصائص الرواية في إطار هذه الواقعية الجديدة، الاعتماد على المفارقة الجادة، والسخرية الشديدة في تصوير البسطاء الذين يعيشون في الأحياء الشعبية التي تمثل قاع المجتمع. وإذا كان تحول مسار الرواية العربية رهيناً بتغير في السياق التاريخي والاجتماعي للعالم العربي وما صاحبه من تحوّل في الجانب الثيماتيكي للرواية، فإنه أيضاً لم ينفلت من التأثر بظهور الدراسات البنيوية التي تناولت الرواية نقدياً، فأسست اتجاهاً نقدياً حديثاً يسائل التقنيات الروائية، ويحدد مكونات اللعبة السردية التي تلخصت: بتحديد وظائف الحكاية الشعبيةـ وبالربط بين الكتابة والمجتمع على اعتبار أن المجتمع هو الذي يفرض الرواية. وبالتفريق بين نمطين من السرد: سرد عبارة يعنى بتجميع بسيط لا قيمة فيه للأحداث، وسرد يشترك مع سرود أخرى في البنية القابلة للتحليل واهتمام بالسيميائيات، وأخرى تشتغل على مفهوم الشعرية ووضع القوانين التي تحكم إنتاج العمل الأدبي، وبالتمييز بين العمل السردي الروائي باعتباره حكاية وبين العمل السردي بوصفه قولاً وخطاباً. وقد برزت أسماء روائيين كُثُر أسست لتيار التجريب الروائي، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: محمد شكري وأحمد المديني ومحمد عز الدين التازي ومحمد برادة وواسيني الأعرج وأحلام مستغانمي وغريب عسقلاني والياس خوري وحهاد الرنتيسي وكاتبة هذه المقالة نجمة خليل-حبيب... وقد امتهنت أعمال هؤلاء الروائيين تيار التجريب، سواء على مستوى الشكل أو على مستوى المضمون، سعياّ إلى مسايرة فن الكتابة الروائية الجديدة التي برزت ما بعد النكسة [2].
عن الرواية
تتألف رواية مخمل لحزامة حبايب [3] من ثمانية أبواب مرقّمة لا تحمل عناوين، إضافة إلى نصين واحد في بداية الرواية بدون ترقيم ولا عنوان، ومثله في النهاية.
تحكي الرواية قصة امرأة اسمها حوّا في أربعينيات عمرها تعيش في مخيم البقعة (الأردن شمال- غرب عمّان) للاجئين الفلسطينيين. وهي بنت لعائلة فلسطينية مؤلفة من أب وأم وستة أبناء يتكدسون في بيت عتيق مؤلف من غرفة معيشة صغيرة وغرفة نوم وغرفة للأكل، وغرفة "للانطراح" أمام التلفزيون. تتعاطف حوّا مع أخيها الصغير عابد المصاب بداء التبول اللاإردي بضمه إلى صدرها كلما انهال عليه الأب القاسي بضربات القشاط الجلدي المحمومة، وإذ تحاول الأم (رابعة) ان تتدخل لدرء الضربات عن ابنها، ينهرها موسى بحزم فتتراجع "متربعة في مكانها". كانت حوّا في الثالثة عشرة عندما بدأت العمل عند صاحبة مشغل خِياطة تدعى الست قمر تعيش في منطقة راقية خرّاج مدينة عمان، وعندها تعرفت على جسدها وتفتحت روحها على الحب والجنس، أثارهما تحرش بريء من شاب (مراد) كان يأتي الى بيت الست قمر لتغيير قارورة الغاز. كانت حوّا في السادسة عشرة عندما زُوِّجت في عمر صغير لنظمي اللحام. كان قذراً تفوح من بدنه رائحة "العتق والعفونة والاهتراء"؛ مارس عليها كل أنواع العنف الجسدي من ضرب ولطم ورفس على مدى عشرين سنة كانت خلالها تهرب في خيالها كلما اعتلاها إلى الشاب الذي صادفته في مشغل الخياطة. أنجبت حوّا من نظمي "بنتاً جلفة قاسية الملامح كوالدها"، وصبياً تقمص، عندما أصبح في سن العشرين، كل خصال والده الرديئة بما فيها تنّمُرِه على أمه، وتواطُئِه مع خاله عابد في ابتزازها مادياً. إذ أن عابد تحوّل إلى شخص ماكر وخسيس وجبان عندما بلغ سن الرجولة. عُرِف عن الأب، تحرشه الجنسي بابنتيه الكبريين عفاف وساجدة، وبعد أن تزوجتا استدار ناحية حواء التي لم تجزع ولم تجفل، فقد "استحال فعل أبيها فعلاً آلياً يمس جسدها من السطح ولم ينفذ إلى روحها أبداً".
* * * * *
تؤرخ الرواية لبروز حركات التطرف الديني في مخيمات الفلسطينيين، مثلّها شخص من المجاهدين الأفغان يدعى "أبو عبادة". جاء أبو عبادة إلى مخيم البقعة، ومعه مال كثير أغدقه على المسلمين، قال: إن هذا مال المسلمين للمسلمين، وإنه يعتزم إقامة مشروع يفيد به عباد الله، فاستأجر قطعة أرض حوَّلها لباحة لشراء وبيع السيارات وقطع غيارات، واستعان بدّلالين محنكين شطار بارعين في كل أنواع التحايل والنصب. كرهت حوّا أبو عبادة ورفضت الزواج منه، فتخطاها إلى أرملتين ثريتين تزوجهما ومن ثَمّ، تبرعتا بمصاغهما ومعظم ما تملكان من عقارات لصندوق مال المسلمين الذي انشأه أبو عبادة. استوطن أبو عبادة المخيم، وبنى مشاريع وظّف فيها الكثير من الشبان العاطلين عن العمل، وراح يبشر ويعظ كأنه من أولياء الله الصالحين فيما كان يتعامل في الخفاء مع المحرمات كأن يشاهد الفيديوهات الإباحية التي كان يأتي بها الفاسدون أمثال قيس وخاله عابد. وتُعرِّج الرواية بفقرة موجزة، على الصدامات التي حصلت بين الجيش الأردني والفلسطينيين عام 1970 [4](لاتذكر الرواية التاريخ)، وتنوه إلى احتضان الشعب الأردني للثورة الفلسطينية، فقد خبأت الست قمر حبيبها الفدائي في بيتها عند انحسار المعركة لصالح الأردنيين. قضت حوّا عند الست قمر ثلاث سنوات أتقنت خلالها مهنة الخياطة وتعلّمت منها ومن زبوناتها كيف تكون سيدة مجتمع راقية. طلَّقها نظمي بعد عشرين سنة قضتها بالقهر والعذاب، فابتسمت لها الحياة إذ أنها تعرّفت على رجل ستيني، خلوق ودود عاشت معه قصة حبٍ هانئة. فجأة، انقطع التواصل بينهما، تعلم أن مرضاً عضالاً أدى الى بتر رجله كان سبب هذه القطيعة. صارت تزوره في بيته للاطمئنان، إلى أن أتى يوم عرف فيها الأخ والابن بقصة هذا الحب فتأمرا على قتلها، فكان أن أطلق الابن عليها الرصاص فأرداها قتيلة. حزن الحبيب منير طويلاً على فراق حوّا. غاص في اكتئاب شديد، أخرجه منه حب عائلته له وحدب ابنه الصغير عليه وتأكيده له على البقاء إلى جانبه .. انتهت القصة عند هذا الحد، وانتهت الرواية بمثل ما ابتدأت، بزوبعة تعصف في سماء المخيم والناس يتراكضون في الطرقات، "يحاولون تغطية وجوههم من صفع الرمل. ارتفعت عيونهم إلى السماء المدمّاة، يمنّون الأنفس المرملة بمطر زاعق، جارف، طوفان عظيم يغرق الكون" لنستنتج أن العمر الزمني للحكي الروائي كان سنة كاملة.
التجريب ومظاهره في رواية مخمل لحزامة حبايب
رأينا مما تقدم أن مفهوم التجريب الروائي يحيل على نمط من الكتابة الإبداعية الجديدة، وابتكار أشكال وطرق وآليات جديدة مخالفة للمعتاد، ومجانبة للسائد، وخارقة لقواعد اللعبة السردية المتواضع عليها من تقنية وسرد، وزمن، وفضاء وشخصيات. وحزامة حبايب في روايتها مخمل بدأت بخلخلة السائد منذ العنوانـ وذلك بإقامة تناقض فاضح بين ما يشي به عنوان الرواية وبين ما يقوله جسدها. فالمخمل هنا، هو من النوع الحريري الفاخر الذي يتسم باللمعان والنعومة وطراوة الملمس ولكننا ما أن نخطو خطوتنا الأولى في جسد الرواية حتى نفاجأ بنص من أشد النصوص قبحاً وخشونة وفظاظة لا ينسجم مطلقاً مع ما للمخمل من نعومة ورهافة ودفء ألوان.
"ضرب المطر الحياة العارية بشراسة. تساقطت حباته حجارة صلدة شقت قشرة الأرض القاسية. خناجر الماء اخترقت خواصر التراب في طعنات سريعة متلاحقة كأنها مشحونة عاطفياً، أو مسكونة بكآبة عتيقة، او مشبعة بغل دفين.
ظلت شرايين الأرض تنزف مياهاً سوداء. أغرق الماء الهادر الشوارع، ارتفع حتى غمر اعناق الأرصفة، دفق في الأزقة، فتشكلت جداول متثاقلة من الطين، فيما دلقت شبكات التصريف قاذورات بطونها في الطرقات". (ص 7)
بتمهيد يسبق الرواية المؤلَّفة من ثمانية فصول و361 صفحة، تكتب حبايب دستور روايتها. تمهيدٌ يتناص سلباً مع سفر التكوين. فسفر تكوين حبايب لا يخلق نوراً من ظلمة بسبعة أيام وإنما يجلد الأرض ليفضح عفنها. وهو وإن تناص مع الرواية التوراتية في إدامة المطر لسبعة أيام، ولكنه خالفها وذهب إلى نقيضها. فهو لم يكن نوراً وخلقاً، بل جَـلْداً للأرض لفضح عفنها. في اليوم الأول للمطر شعر الناس بالغدر إذ أن الشمس في اليوم الذي سبقه سطعت صفراء يانعة مفترشة نصف السماء. وفي اليوم الثاني كانت السماء أكثر قتامة، والطرقات اكثر طينية وسواداً، واستمر الانسكاب سبعة أيام بحّ فيها الضياء إلى درجة التلاشي. . . وفي اليوم الثامن انقطع المطر فجأة. طلعت شمس كبيرة وسط الكون حوّلت أنهار الطين إلى طرقات اسمنتية. . . وظلت رائحة الماء الموصول عالقة في أبدان البشر، متمكنة في البيوت التي تكدس فيها العرق والشخاخ والكاز. وظل أثر لشيء يشبه الانحلال في الماء والهواء.. وحبايب في هذا المشهد، ساءلت معتقداً دينياً راسخاً في العقل الجمعي العربي بأسلوب زكي مطواع، إذ أن العرف يقتضي أن يسلِّم الناس أمرهم إلى الله في مثل هذه الظروف، بينما هنا تساءلوا مستهجنين "من أين جاء كل هذا الماء الغاضب؟ كب من عند الرب". ولكي لا يذهب هذا الاستهجان مذهباً خاطئاً يوقع الكاتبة في المحظور، استدركت قائلة: "ارتفعت أصوات بعض البشر في اندهاش مرشح جداً للوقوع في خانة التطاول على القدرة الإلهية المطلقة".
جرياً على ما جنحت إليه الرواية الجديدة، تكسر حبايب رتابة السرد بالمراوحة بين قتامة المشهد وصفائه. فبعد الصورة الضاجّة بالعنف والموات والغدر، تولد بطلة الرواية حوّاء .. تولد شاذة عن القاعدة: مشاعرها متفتحة للمطر الضارب العنيف، تواقة للماء ولمزيد من الماء، تحب الغيم أكثر مما تحب الشمس. اليوم وهم صيف وضياء، وغداً ماء وشتوية أنيسة محملة بالوعد، وصوت فيروز يصدح بالفرح: "طيري يا طيارة طيري يا ورق وخيطان بَدّي إرجع بنت صْغِيرة عَ سَطْح الجيران". تحب حوّاء فيروز وأغنيتها بما فيهاـ ولكنها لا تحب ان ترجع بنت صغيرة كما تتمنى الأغنية، فعلى عاتقها تقع مسؤولية سرد الرواية وأخذ دور قيادي فيها.
التناص حسب جوليا كريستيفا، هو التقـاطع داخـل نـص لتعبـير مـأخوذ مـن نصـوص أخـرى، فكل نـص هـو امتصـاص لـنص آخـر أو تحويل عنـه [5]، والتناص الروائي أكثر ما يكون في الموضوع أو في الأسلوب. وتتناص رواية مخمل، مع أكثر من روائية عربية وأجنبية يحضرني منها رواية "قصة ليليان Lilian Story" [6] للكاتبة الأسترالية كايت غرانفل Kate Grenville. ففي كلا الروايتين حديث عن الطفولة المشاكسة، العلاقات المسطحة، القيم التافهة، الخيبات المتواصلة، التشرد أو التسكع، الموت العبثي، البحث عن معنى للوجود... وتتفق بطلة "قصة ليليان"، وبطلة مخمل (حوّا)، في أن كل منهما فتاة سمينة تتجاذبها مشاعر حب وحقد بينها وبين والدها الذي كان يضربها بالسوط لأتفه الأسباب. يقول السارد في "قصة ليليان" أن وراء هذا الضرب متعة شاذة تعتري الأب فيما هو يهوي على الجسد الرخص المكتنز، "ومع وقع ضربات السوط كانت ليليان تفكر: هنالك لحم كثير له"، وبمثله جاء في رواية مخمل حين كان الزوج (نظمي) يضرب حوّا بعنف يرن معها جلدها وتطقطق عظامها. ولليليان أخ ضعيف البنية ترعاه وتحاول درء أذى أبناء الحي عنه، تماماً كما كانت حوّا تحتضن جسد عابد متلقية الضربات عنه عندما كان والده يسلخ جلده بضربات القشاط الحادة. وكذلك نرى الأم سلبية في الروايتين. ونرى البنات المعتدى عليهن يصمتن على اعتداء والدهن عليهن جنسياً. وتتناصان أيضاً في أن الفتاتين (ليليان وحوّا) تعيشان بعد سلسلة عذابات قصة حب رومانسية أنعشت حياتهما. لا يضير التناص اختلاف النهاية في الروايتين. فقد انتهت رواية مخمل بموت البطلة، بعد أن أطلق ابنها عليها الرصاص، في حين انتهت "قصة ليليان" نهاية سعيدة قالت فيها: "أنا سعيدة لأنني وقعت بغرام "لورد كتشنر" لأن الأمر أرجعني ثانية الى فرانك، وقد ثبت لنا أن حبنا لم يمت رغم كل هذه السنين". وسواء كانت حبايب قد قرأت "قصة ليليان" أو أن التوافق جاء عرضاً، فإن رواية مخمل تفوّقت على القصة الأسترالية بغوصها عميقاً في دواخل شخصياتها، بينما اكتفت "قصة ليليان" بالإخبار عن الحدث تاركة للقارئ/ة حرية استكشاف الدلالات.
عكس ما عوّدتنا عليه الكثير من الروايات الفلسطينية من موضوع يدور في محور القضية وترميزٍ لشخوصها يتراوح بين السلب (العميل/ة، الخائن/ة، المنهزم...) والإيجاب (المناضل/ة، الفدائي/ة، الشهم، النبيل،الضحية) ، دار موضوع رواية مخمل حول امرأة متواضعة في طموحاتها تنحصر بالبسيط والعادي من متطلبات الحياة: باقتناء بيت بسيط لا تنز حيطانه بالعفن، وبـمَلْبَـس لائق لا
ينحشر فيه ثدياها بقماط قماشي ليل نهار، وبالزواج من رجل يحترمها ويكون سنداً لها على مصاعب الحياة، وبأم حانية محبة تتحسس مشاعرها.... أمّا بقية شخوص الرواية، فهم في الأغلب ذوو صفات هدامة: أنانيون، انتهازيون، مرتشون، قساة وشاذّون جنسياً. فالأب الذي يعمل بنّاءً، يبدأ طقسه اليومي بضرب مبرِّح لابنه الصغير عابد قصاصاً له على تبوّله اللاإرادي، وباستعطاء سيكارة تبغ من ابنه البكر، ويظل جوّ البيت موتَّراً إلى حين يترك البيت إلى العمل.
تربط رواية التجريب بين الكتابة والمجتمع، على اعتبار أن المجتمع هو الذي يفرض الرواية، على حد قول رولان بارت Roland Barthes. أي يفرض مجموعة من الإشارات باعتبارها تعالياً لديمومة، وتاريخاً لها [7]. وحزامة حبايب في رواية مخمل، وعت هذا الشرط، فصورت وأطنبت في تصوير مجتمع المهمشين الفلسطينيين، فاختارت لفضاء روايتها مخيم البقعة بأزقته الضيقة المعتمة، وأسواقه الشعبية ببضائعها الرخيصة، وبيوته الناشزة في بنيانها وتنافر ألوانها، فكان أن جاء هذا الفضاء، عنصراً متمماً لمجتمع الرواية وتأريخاً لها. وبمثله كانت الشخصيات: أخ خسيس (عابد) سارق، مرتشٍ جبان. زوج (نظمي) متنمر جلف. وابن (قيس وأخته آية) يرثان طباع الوالد الخسيسة. ورجل دين (أبو عبادة) مشعوذ يشتري ذمم الناس بالفلوس. أم مقموعة (رابعة) مستسلمة لأوامر الزوج والابن المهينة، وأب قاسٍ(موسى) ينتهك أجساد صغيراته البريئة مداورة:
"كان موسى يتسرب من فراش رابعة إلى الغرفة التي تستلقي فيها البنات أرضاً على فرشات هزيلة، منهكات، غافيات، منكمشات على لحمهن الفوّار. كانت عفاف تكبر ساجدة بعام، وكانتا في الخامسة عشرة والرابعة عشرة حين سقط لحم والدهما فوق لحميهما تباعاً. فتحت عينيها ذات ليلة، كأنها تنفض عنها كابوساً. انتفض كيانها، لكنّ موسى وضع ساقه الغليظة فوق جسدها، فدقها في أرضها كمسمار. جمعت إليها أطرافها المنملة، فطلب منها ان ترخي جسمها، لكنها ظلت متجمدة. همس موسى في أذنها متوسلاً، أن كل شي سيظل من "برا لبرا"، ظلت في فراشها قطعة لحم مضمومة. حين انسحب من فراشها محبطاً، أدركت عفاف ان الأمر لم ينتهِ . . . في مساء اليوم التالي وصفها بالفاجرة والداشرة .. رماها بصحن البيض فانشق جبينها. في اليوم الثالث سلخها بالقشاط. بعد أسبوع جلدٍ، استسلمت عفاف لموسى، أمّا ساجدة، فاستسلمت له من المرة الأولى، ووفرت على لحمها وجعاً كثيراً" (123)
يعتبر الزمن العمود الفقري الذي يشد أجزاء الرواية. ويرى النقاد أنه الشخصية الرئيسية في الرواية المعاصرة كونه يلعب دوراً بارزاً في مسيرتها، إذ أنه لا يمكن تصور ملفوظ شفوي أو كتابي دون نظام زمني. وفي رواية مخمل لا نرى نظاماً تراتبياً للزمن كما في الرواية التقليدية، بل نراه مُؤَسَساً على ما يسمى بالمفاراقات الزمنية، حيث تختلط الأزمنة ماضياً وحاضراً ومستقبلاً دون الخضوع للترتيب المنطقي، وأكثر ما كان يحدث هذا القفز في الزمن عندما يستخدم الكاتب/ة تيار الوعي الذي هو "تسجيل دفق التداعيات في اضطرابها واختلاطها". ومن أشهر الذين استخدموا هذه التقنية (تيار الوعي)، جيمس جويس في رواية يوليسيس Ulysses الصادرة عام 1922، ومارسيل بروست في البحث عن الزمن المفقود، In Search of Lost Time ، وفرجينيا وولف في المنارة، غرفة جاكوب، ومسز دالاوي. وقد رفضت وولف أن تسمي هذا التداعي "المونولوغ الداخلي" كما سمّاه جويس، ولا تيار الوعي، كما سماه النقد، وسمته التيار – الشعر، ووصفت صنيع جويس في "يوليسيس "قائلة: "يكشف ذبذبات النار الداخلية الخفية التي توجه تعابيره، ورسائل ضوئية تلمع في الدماغ، ولإظهارها جلية، أَبعد كل ما هو حشو تقليدي [8]. ومما لا شك فيه أن حزامة حبايب المولودة في الكويت والحاصلة من جامعتها على بكالوريوس في الأدب واللغة الإنكليزية، قد اطّلعت على هذه الأعمال وأفادت من هذا التقليد الذي له نصيب كبير في رواية مخمل. ومن أبدعها ما تخرج فيه حوّا عن ذاتها حيث يأخذها التخييل إلى منطقة بعيدة عن حاضرها عندما تتعرض للضرب العنيف من قبل أبيها أو زوجها فلا تعود تحس بالألم:
"سقطت ضربات القشاط على بدنها بعنف، رنّ معها جلدها وطقطقت عظامها. لكن حوّا مع ذلك، لم تصرخ، لم تَصِح، ولم تندّ عنها آهة واحدة. لم تحاول أن تغطي وجهها بيديها أو تنكمش على لحمها. طوال الوقت الذي بدا طويلاً جداً، كانت حوّا تتطلع في وجه نظمي [زوجها] ورقبته التي انتفخت فيها الشرايين، [فتغتبط] داخلياً لغضبه الممزوج بالعجز التام. ومع هبّات القشاط فوق جسدها، كانت ترخي جفون قلبها على حفيف تنورتها التي تصطك بها ساق مراد من الخلف، فتسمح لدغدغة القماش بأن تدغدغ روحها، ولا تفكر بأن تقاومها". (85)
اتبعت حبايب في رواية مخمل، أسلوب لكل مقام مقال، فكانت مفرداتها وصورها الشعرية قوية صاخبة في المشاهد العنيفة، كما في مشهد عاصفة المطر: "ضرب المطر الحياة العارية بشراسة .. دلقت شبكات التصريف قاذورات بطونها" .. وأخرى مقززة منفّرة كما في مشهد تبوّل عابد الذي يتردد فيه مفردات ك: "البول والشخاخ والمازوت والسعال الحاد"... وعندما تحكي عن المخمل، وعن حبيبها منير، أو عن علاقتها بالست قمر .. تنطلق عفوية شفافة تلامس شغاف القلب. وأشدها إبداعاً تلك التي تحكي فيها مكنونات ذاتها التي هي برأيي المتواضع، توازي، كي لا أبالغ وأقول، تضاهي مكنونات مسز دالاوي بطلة فرجينيا وولف.
"كانت تلك أول مرة ترى فيها حوّا رجلاً يبكي، فاعتقدت أن أجمل الرجال هم الحزانى. كانت تلك أيضاً أول مرّة تستشعر فيها الإحساس بأنها ربّما أكثر من مجرد امرأة؛ امرأة تُحَبّ؛ امرأة تُرام؛ امرأة تُطلَب؛ امرأة تُرغَب؛ امرأة تُشغَف لما هي عليه؛ امرأة تُراد فقط للحياة التي تقتنصها اقتناصاً؛ امرأة يُحنّ إليها للدفء الذي يعتمل في نفسها رغم أيام البرد وأيام الجفاء وأيام الخواء؛ امرأة يُشفَق عليها لقلِّة الحبّ في ماضيها؛ امرأة تُغبَط لطول صبرها على ماضيها؛ امرأة يُغفَر لها كلامُها القليل جداً في الحبّ والأشواق واللوعة".
وتفيدنا حبايب، إلى أن التناقض بين لغة الرواية الشاعرية والهفهافة، وعنوانها الذي يحيلنا إلى تنويعات الحب والجمال والرقّة، وبيئة المخيم التي يتفشّى فيها الجفاف العاطفي والتفسُّخ الإنساني، يعود إلى كون اللغة تتحول بطريقتها إلى الوطن المرام، ويكون المخمل أكثر من مجرد نسيج ناعم وغال، يغدو كل ما يُشتهى ويُحب ويُتاق إليه، ويصبح المخمل الحب الهانئ، والحياة السعيدة المتخيلة خارج المخيم [9].
مخمل وجرأة المسكوت عنه
ربما كانت حزامة حبايب من أوائل الروائيين العرب الذين تجرأوا على رفع الغطاء عما يدور وراء الأبواب المغلقة من علاقات شاذة يتحول فيها رب الأسرة، راعيها وحاميها، إلى وحش يستبيح لحم بناته. صحيح ان الرواية العربية تعرّضت لموضوعي اللواط والسحاق في الكثير من الأعمال الروائية، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، كتاب سهيل إدريس الأخير ذكريات الحب والأدب، الذي يروي فيها عن والده أنه كان يُدْخِل ولداً أشقر إلى دكانه ويغلق وراءه الباب، ومثله في رواية الخبز الحافي لمحمد شكري، ورواية أنا هي أنت لإلهام منصور، ورواية إنها لندن يا عزيزي لحنان الشيخ وغيرهم كُثُر. أما عن موضوع تحرش الأب ببناته، فإن بحوثي لم تسفر عن إي شيء من هذا القبيل في الروايات العربية الجادة، ولو أنه موجود بكثرة في الروايات الرخيصة والصحف الصفراء.
رغم أن الشخصية الرئيسية في رواية مخمل هي أنثى، ورغم أن موضوعها الرئيسي ظاهرة العنف المنزلي المسكوت عنه في المجتمع البطريركي المحافظ، إلا أن مساحة واسعة من السرد تعنى بكشف عري المجتمع البشري بأكمله، الإنسحاق الإنساني (ذكراً وأنثى) المحكوم بشرطه التاريخي وحاجاته البيولوجية من مأكل وسكن وجنس. وشخصياتها في المجمل مسحوقة في الفقر والحاجة: الأب الظالم المعتدي على بناته جنسياً ما كان ليصل لهذه الدرجة من الدناءة لو أنه بقي آمناً في بيته وحقله وحاضنته الاجتماعية ولم يعش حياة اللجوء المذلة في المخيم تتكدس فيها الأجساد في غرفة ضيقة نفوح منها لاائحة العفن والشخاخ والمازوت. ومثله ابنه عابد، الذي ما كان ليكون سارقاً وخسيساً لولا الحرمان العاطفي والعنف الجسدي الذي تعرض له في طفولته، وكذلك القول في الجدة نايفة وشبيهتها الحفيدة آية وغيرهم من ذكور وإناث.
* * * * *
خصصت الرواية حيزاً واسعاً من سردها للعلاقات الأسرية حظيت حوا بالقسم الأكبر منها. فهي حاضرة فيها ابنة وأخت وأم وزوجة وجدة ومعيلة وضحية، وهي أيضاً المراوغة التي تعيش حياتين: حياة تظهر بها على الناس تكون فيها منصاعة لإرادة مؤسسة الذكورة التي تحجزها في عقدة الدونية الخلقية الوراثية التي كانت لجدتها قبل حوالي ثلاثة ارباع قرن من الزمن. وفي الخيال، هي امرأة غيرية معطاءة لا تقيم وزناً لقيم المجتمع التقليدي المتحجر، تعيش علاقات حب متكافئة تأخذ وتعطي روحاً وجسداً "متخطية الخصوصية الأزلية التي تحشر فيها المرأة أنوثتها مؤكدة أن المرأة لا تولد امرأة بل تغدو كذلك" [10]
ومخمل، هي رواية اللاحب .. منطقة الظل بين العاطفتين (الكره والحب)، فالبنات حوا وساجدة وعفاف، رغم كرههن لوالدهن الذي كان ينتهك طفولتهن بالضرب المبرح وبالاعتداء الجنسي، وقفن مذهولات حزينات عندما مات هذا الوالد. ولطفي الولد المستقيم الذي كان يتألم كلما رأى والده ينهال على أخيه وأخواته بالضرب المبرح والذي يقوم بكل ما يتوجب على الأخ الكبير من دعم مادي تجاه أسرته، يبقى بعيداً عن بيت العائلة كي لا تلطخه مشاكلها. الشخصية الوحيدة التي تحب وتعطي وتسامح هي حوا. وحوا هي النموذج الجمعي للمرأة منذ فجر التاريخ تختزن في لاوعيها كل الصفات السلبية التي لقنتها لها الثقافة الذكورية: إحساس بالدونية. اصطبار على الظلم. انكفاء على الذات. التألم بصمت. التمرد الأخرس. التعزي بكمافأة مؤجلة. وكذلك الصفات الإيجابية التي منحتها إياها الطبيعة الإنسانية: أمومة فياضة الحنان تترفع عن الحقد. تضحي دون مقابل ولا يزعجها نكران جميل. هي مثل جدتها الأولى هاجر (الزوجة الثانية للنبي إبراهيم). يقع عليها الظلم من كلا الجنسين (الزوج والضرة) فلا تتمرد، ولا تغضب، بل تنقاد صاغرة إلى المجهول لتكمل دورها كحاضنة للبشرية فتنجب وتربي وتعمر الأرض.
لم تسعَ حبايب في هذه الرواية لمساءلة المرأة العصرية الموزعة بين العمل والأنوثة، بين الانعتاق والخضوع العاطفي، بل حاولت بقدر المستطاع، أن تكشف عن الأنثى ككائن أزلي له سماته المميزة، تكتبه في تطوره وصراعه، في آماله ووعوده، وتساعد في تشكله وبنائه. فالجديد الذي أرادته الرواية، ومن ضمنها مخمل، إضافته إلى الأدب، هو الوجه الآخر من معيشها الحميم. شيء ديونيسي عن الاحتفاء بالحياة بشتى الحواسّ، وإقامة علاقة مغايرة مع أشياء المعيش اليومي وتراجيديته [11].
"ستتصل بمنير سوف تقول له بفرح انها اشترت طقم روميو وجوليت ، سيكون أوّل شيء يدخل "بيتنا". سترتبه في البوفيه. وقد لا تضع شيئاً آخر في البوفيه. وسوف ترتدي الفستان المحوك من مموج مخملي، والذي صممته وقصته، وأعادت تفصيلته في حياتها مرات ومرات". (92)
قرأت حبايب شخصيات روايتها بخبرة طبيب نفسي متمرس. قرأتها من داخل ومن خارج، حيث عكس خارجها عمّا ينم عنه داخلها. كانت حواس حوّا تتفتح لرائحة المخمل الأصيل وملمسه الناعم، عندما تكون في بيئة مريحة كبيئة الست قمر والزبونات المترفات. وكانت تتحوّل إلى امرأة بشعة ضخمة لا تصلح إلا للمهمات الثقيلة القذرة عندما تكون في المخيم الفقير، وفي بيت تنز حيطانه عفناً. وكان عابد له شكل جرذ جبان عَكَسَ داخله الخسيس السارق الانتهازي. وكانت الأم سلبية تغض الطرف عن تحرش الوالد ببناتها...
كانت حزامة حبايب في رواية مخمل مبدعة خلّاقة أسلوباً وموضوعاً. لم تركب موجة السائد، ولا مالأت نظاماً أو حركة سياسية. ولم تستجدِ رضى قارئ/ة متعجِّل لا صبر له/لها على القراءة المتأنية، فاستحقت بجدارة جائزة نجيب محفوظ للرواية وأكثر..
نجمة خليل حبيب
سدني استراليا
23/12/2022
مكتبة البحث
بارت رولان ، الدرجة الصفر للكتابة، ترجمة محمد برادة، ط/4، القاهرة: دار عين للنشر، 2009
حبايب. حزامة، مخمل، ط/1، بيروت-عمّان: المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2016
حبيب-خليل. نجمة، من أستراليا وجوه أدبية معاصرة، ط/1، بيروت: الدار العربية للعلوم - ناشرون، 2006
زراقط. عبد المجيد، "التجريب القصصي وتقنيات القصة القصيرة"، القدس العربي، 11/2/2021
سومفي. ليون، "التناصية والنقد الجديد"، ترجمة، وائل بركات، جدة السعودية: مجلة عالمات، عدد أيلول 1996
العيادي. أبو بكر، "من الأدب النسائي إلى كتابة الأنوثة"، العرب، الأحد 27 مارس 2016
فضل. صلاح، لذة التجريب الروائي، القاهرة: أطلس للنشر والإنتاج الإعلامي، 2005
نشوان. حسين، الروائية حزامة حبايب: هل يقود المخيم إلى الوطن، الجزيرة- عمان، 24/7/2019
Kate Granville, Lilian’s Story, Allen & Unwin, Sydney 2000 [1985]
حزامة حبايب، https://ar.wikipedia.org
https://fanack.com/ar/jordan/history-of-jordan/the-1967-june-war-and-black-september/
مشاركة منتدى
30 آذار (مارس) 2023, 22:35, بقلم نجمة خليل حبيب
تحية طيبة أستاذ عادل سالم
شكري العميق للجهد الذي بذلته في تدقيق ونشر هذه المقالة
أتمنى أن تجد هذه المقالة الإقبال الذي تستحقه من أصدقاء وزوار ديوان العرب الكرام
نعم أنا أتقبل النقد بروح طيبة، فأرجو ألّلا تحرموني من تجاوبكم