التجلي الشعري في جداريّة محمود درويش 1 من 2
إن "جدارية محمود درويش" قصيدة شبكية بامتياز تحكي بلغة الضوء والإشراق الخاطفة سيرة شعرية لمواجهة حوارية ملتبسة ومشتبكة بين الذات والعالم وبين الذات والموت، مواجهة تستثير غبار الأسئلة الحارقة وتستبطن أقاصي الروح الشاعرة وأقاصي الكلام وتخوم الذاكرة القصية.
تحكي القصيدة سيرة رحلة أو تغريبة نحو بحث حثيث عن المعنى. بحث مصمم يؤطره جدل متوتر بين الذات والعالم وبين الشخصي والكوني، حيث الذات تقف على أرض اللايقين الخصيب، على أرض يباب تناضل اللغة فيها، كإمرأة في المخاض، أو "كحبة القمح التي ماتت لكي تخضر ثانية" لتجعل –ضد قوة الأشياء- من الموت نفسه "حياة ما" [1].
تتكئ قصيدة "جدارية" على شرعية جمالية تمتح من التاريخ واللغة وشجرة الأنساب الشعرية مادتها ونسغها الحيوي الذي به تشرئب لتدق بجدارة جذرا في هواء المستقبل/المستحيل، مستقبل الوجود الفردي والوجود الجماعي سواء.
نبتغي من هذا القول الإشارة إلى ان مقاربة الأثر الشعري الدرويشي لا بد وان تكون معززة بعتاد معرفي ونظري وجمالي وتاريخي ملائم حتى تتحصل لدي القارئ تلك الذائقة الشعرية او ذلك الأفق التأويلي القادر على عبور العتبات الأولية اللازمة للوصول إلى أتون التجلي الشعري حيث يكون للحرف بلاغته الخاصة وللأسماء ذاكرتها وإشاراتها، وللبياض –حتى البياض نفسه- استعاراته ودلالاته. بكلمة اخرى، إن التجلي الشعري عند محمود درويش وإن كان يأتي معززا بمعرفة مؤطرة في "تصور نظري وهيكلي للمشروع الشعري" [2] فإنه في آن واحد "يخفي مصادره المعرفية ويتقدم كأنه سليقة" [3].
من منطلق هذه الجدلية الحداثية بامتياز، جدلية الخفاء والتجلي، تبتدأ فعالية القراءة وديناميتها الرامية إلى القبض عن جمالية المعنى أو المعنى الجمالي المؤنث للكون الشعري الدرويشي في مسعاه المصصم إلى تأسيس مملكة أسطورته الشعرية الخصوصية [4] التي تتمثل في "بناء القصيدة وشكلها وعالمها، وتحمل اللغة الشعرية من الواقع العيني إلى الواقع اللغوي فالواقع الجمالي" [5].
* عتبة أولى: بلاغة العنوان والاسم
يبدأ الكتاب بعنوان مركب مخطوط بيد راعشة: جدارية محمود درويش- قصيدة كتبت عام 1999. فالتأمل في شكل هذا الأسلوب من العرض يفضي إلى تداعيات لا تخلو من مغزى. فلعل صاحب النص خط عنوانه هذا على عجل وكأنه يقول ملء صوته وهو في آخر الهزيع الأخير من العمر: "لي عمل لآخرتي/ كأني لن أعيش غدا" [6] إنه عنوان مختار بعناية مركزة ليؤدي مقصدية دلالية معينة تمنح النص شكلا وهوية.
فالقصيدة منذورة لتكتب أو لتعلق على جـدار. ومن ثمة اكتسبت صبغة الجدارية. وهي كذلك "معلقتي الأخير" [7] كما يصفهـا الشاعر في القصيدة نفسهـا. لقد كتبت إذن لتحكي سيرة صاحبها ولتخلد صيته وصوته فتبقى من بعده معلقة بماء الذهب على حجر وعي راسخ يكتنـز في دخيلته جذوة الخلود. ولأجل ذلك ربما نجد الشاعر يحتفي أيمـا احتفاء بهبة الحجر السماوية العصية على التلاشي والهزيمة، بوصفه أداة الشاعر في الكتابـة وذريعته للسخريـة من سطوة الموت وعبثه الأبدي:
هزمتك يا موت الفنون جميعها
النقوش على حجارة معبد هزمتك
وانتصرت، وأفلت من كمائنك الخلود (ص55)
وإذا تأملنا في عنوان القصيدة "جدارية محمود درويش " ، نجده يتألف من مكون دلالي ثان هو اسم الشاعر نفسه. وحضور الإشارة إلى "الاسم" في عدة مواقع من النص وبشكل متكرر [8] يعطيه شحنة دلالية مميزة عبر نسيج النص الإجمالي.
فنحن أمام جدارية أو معلقة كتبت لتخلد اسم صاحبها بماء الذهب على عادة فطاحل شعراء العرب. يقول الشاعر: "لا شيء يبقى سوى اسمي المذهب/ بعدي" [9] ويؤكد على نفس المعنى في المقطعين التاليين:
1. باطل، باطل الأباطيل … باطل
كل شيء على البسيطة زائل
1400 مركبة
و 12000 فرس
تحمل اسمي المذهب من
زمن نحو آخر … (ص89-88)
2. لا شيء يبقى سوى اسمي المذهب بعدي:
"سليمان كان" …
فماذا سيفعل موتى بأسمائهم
هل يضيء الذهب
ظلمتي الشاسعة
أم نشيد الإنشاد
والجامعة؟ (ص91-90)
فتوظيف الاسم هنـا عبارة عن إشارة يعزز بها الشاعر مستويـات اشتغاله على ثنائية الموت والحياة، الموت العضوي والخلود الشعري، كثنائية جدل متوتر خصيب. والاشتغال على الاسم عند محمـود درويـش هـو فعـل شعـري بنائي يتغيى من خلالـه الشاعـر إضافة دلالات حية "متحركة … ترفد النص بمسافات بعيدة ضرورية للشعر" [10]. ولنا نحن كقراء أن نستنتج الدلالة من الإشارة ونستخرج ما خفي من ظاهر العبارة. يقول نص القصيدة في هذا السياق:
هذا هو اسمك/
قالت امرأة،
وغابت في ممر بياضها.
هذا هو اسمك، فاحفظ اسمك جيدا!
لا تختلف معه على حرف
ولا تعبأ برايات القبائل،
كن صديقا لاسمك الأفقي
جربه مع الأحياء والموتى
ودربه على النطق الصحيح برفقة الغرباء
واكتبه على إحدى صخور الكهف،
يا اسمي: سوف تكبر حين أكبر
سوف تحملني وأحملك
الغريب أخ الغريب
سنأخذ الأنثى بحرف العلة المنذور للنايات
يا اسمي: أين نحن الآن؟
قل: ما الآن، ما الغد؟
ما الزمان وما المكان
وما القديم وما الجديد؟ (ص16-15)
في هذا المقطع من النشيـد يتحول الاسم إلى كيـان آخر