الثلاثاء ٢٩ أيلول (سبتمبر) ٢٠٢٠
بقلم الكبير الداديسي

التشكيل العربي المعاصر

8 - الواقعية الطبيعية من المنظر إلى البورتيه في تجربة الفنان العراقي صالح رضا

صالح رضا فنان تشكيلي عراقي من مواليد 9 يوليوز 1960 استطاع أن يفرض نفسه رقما صعبا في معادلة التشكيل العربي المعاصر بأسلوبه الواقعي الطبيعي، سواء في نقل مناظر الطبيعة الجامدة كالبساتين والحقول، أو الحية من حيوانات وشخوص، لتكون لوحاته أقرب إلى الفيزيو قراطية التي ترى أن الأرض هي مصدر الثروة كلها، متجاوزا النقل الحرفي وكشف مكامن الجمال في الطبيعة إلى تحويل تلك المناظر إلى تحف وأعمال فنية خالدة تجعل متأملها حائرا لا يستطيع التميز نقطة البداية و نقطة النهاية في لوحة متكاملة متداخلة العناصر، وحتى إن كان المتأمل ابن الطبيعة، يعيش ويشاهد كل يوم عدة مناظر جميلة فإنه وهو يتأمل لوحات صالح يشعر أنه لأول مرة يستكشف الطبيعة، وأن عناصرها تكاد تخرج مفاتنها من اللوحة لتقدمها له حية نقية فواحة، وقد اندمجت تلك العناصر نتيجة توهج الضوء وتواري الظلال في تجاوز لنقل المشهد كما هو إلى رسم الشعور الذي يتركه المشهد في نفسية المتلقي بالاعتماد على الضوء الطبيعي، فكانت المشاهد في معظمها نهارية شفافة، بيد أن الفان يرسم لوحات زيتية فقد ظلت الألوان محافظة على شفافية الصباغة المائية في تدرجها وتداخلها بين الأزرق الرمادي والأخضر فالأصفر، بطريقة كوسمولوجية قريبة من العناصر الطبيعة الأساسية الأربع (ماء هواء تراب ونار) وكأنه في لوحاته يبحث عن حقيقة وجودية ما، وهو على يقين أنها لا توجد إلا في الطبيعة وهذه الحقيقة هي حب الأرض وما يخرج منها وما عليها من جمال وحياة، ولا حياة بجنس واحد، لذلك حضرت في معظم لوحات صالح رضا الكائنات مثنى مثنى: دجاجتان، بطتان في لوحة، حصانان، رجل وامرأتان... وحتى عندما يؤثث لوحاته بعراجين وأعذاق النخيل يفضل رسمها مثنى مثنى سواء كانت مجنية موضوعة على الأرض أو كانت معلقة بنخلة، كما في لوحة البستان وغيرها من اللوحات التي تغيت إظهار جمال الطبيعة بالقدرة على الجمع بين تناقضات اللون الأصفر الذي يحمل تناقض (الموت وقمة النضج) والأخضر المرتبط باليناعة والحياة، وهو تناقض يجد مرجعه في تناقض الألوان الباردة والألوان الساخنة التي ما أن تلتقي في تدرجاتها حتى يفيض العطاء المتدفق بخيرات الأرض، ويشعر المشاهد أن كل لوحة تختزل حكاية ورواية منبعها الجمال وهدفها التطهير دون أدنى لمسة إيديولوجية أو سياسوية، فيشد المنظر في اللوحة المشاهد / المتلقي ويرمي به في أتون الطبيعة والواقع لتتيه في تخوم الشك هل فعلا تلك اللوحات مجرد رسوم؟؟ لغياب أي أثر لضربات الفرشاة، أو وجود فجوة عند تغيير اللون، وانعدام الخطوط التي تحدد عناصر المنظر، فتبدو العناصر متكاملة في تناغم تغيب فيها أية لمسة شاذة أو عنصر غريب ليملأ المنظر اللوحة، والطبيعة تكره الفراغ لذلك عمد صالح إلى ملء كل زاوية في اللوحة، بعطاء طبيعي دافق يحيل اللوحة رمزا للامتلاء والعطاء والخير دون مقابل... وفي الطبيعة وحدها يعطي القليل للكثير والفقير للغني، ولو سمعت الطبيعة مواعظنا عن القناعة لما جرى فيها نهر نحو بحر أو محيط...

يتجاوز الجمال في اللوحات البعد الأخلاقي الصرف، إلى رمزية لا متناهية تشعر المشاهد ببراءة الألوان في بنائها إيقاعها وتوازنها، فتصبح اللوحات مقاطع من نسق أو بنية متكامل تحكمها نفس التيمة (الإنسان والطبيعة وحلول بعظهما في بعض) في غاية نفعية وحيدة وهي خلق اللذة وإمتاع المشاهد بمشاهد بسيطة تحيي فيه حنينا طفوليا إلى ذكريات جميلة، مقياسها التذوق والانطباع قبل النبش في تقنيات وآليات الرسم وجمالياتها، تلك بإيجاز شديد بعض خصوصية اللوحة لدى صالح رضا التي تأخذ بمقومات يمتزج فيها البصري النفسي، بالعقلي الإدراكي

يكاد يكون الإجماع على أن رسم جمال الطبيعة يخلق متعة إستطيقية، تثير المتلقي و تجعله يعيش مع اللوحة متحسساً مواطن الجمال فيها، سواء أكان هذا الجمال متجسداً في انسيابية الخطوط والألوان، أو من خلال الدلالات التي تعمل اللوحة على تقديمها للجمهور، وهنا تكمن حقيقة الإبداع الفني الذي يبرز قدرة الفنان على استعمال تقنياته وحرفيته لتشكيل لوحة تقطر جمالا.منذ لمسة الفرشاة الأولى لقماش اللوحة ونية نقل جمال الطبيعة إلى العالم الفني، في قلب لموازين المنظور المتعارف عليها وبعث للحياة في لوحة جامدة سواء تضمنت منظرَ طبيعةٍ ميتة أو حية، فتضفي اللوحة سمة التبات والخلود لعناصر متحركة وزائلة، بإعادة إنتاجها في لوحة فنية خارج حدود الزمن تخرجها من حالتها الأصلية كما هي، إلى حالة فنية مفتوحة على كل نوافذ التأويل ما دامت لوحات صالح قادرة على تحويل البساطة إلى تحفة مقياسها الوحيد هو قدرة الفنان على اقتناص اللقطة وإعادة إنتاجها بطريقة متعالية على الزمن، فتظل جميلة على الدوام في لوحات متضمنة لبساطة تحمل متعة إستيطيقية أكثر تعبيرية من الواقع تتداخل فيها البساطة بالجمال ونقل الطبيعة في لوحات محببة للنفس.
من مظاهر هذه الواقعية الطبيعية سعي رضا صالح للتركيز في لوحاته على رسم البورتيريه في عالم يقل فيه من يجيد هذا الفن، لما يتطلبه من صرامة في التعامل مع الريشة والفرشاة لرسم دقائق وملامح الوجه انطلاقا من أساسيات اللون في بناء معمارية اللوحة وقوة الكتلة دون الاعتماد على حسابات المنظور التقليدية، والمطلع على بورتريهات صالح رضا يدرك للوهلة الأولى أنه يتجاوز تقديم صورة الشخص هما هي في الواقع، إلى سبر أغوارها وكشف أسرار بواطنها ليقف المتلقي مشدوها أمام لوحة مشحونة بالعواطف مقتنعا أن كل وجه يضمن جمالا خاصا ما على الفنان سوى اختيار زاوية النظر لإبراز دقائق ذلك الجمال في الوجه، فتكون اللوحة الركن الثالث في مثلث ظلعاه الآخران هما الفنان والموديل، بل إنها الركن الأكثر جاذبية في رسم البورتريه

يمتاز رضا صالح في ما طالعناه من بورتريهات بالتركيز على كبار السن حيث ملامح الحكمة الوقار، بدل براءة الأطفال ونظارة وجوههم المتطلعة للمستقبل، دون أن يميز في رسم الكبار بين رسم المرأة ورسم الرجل، وإن حضور الرجل أقوى فلأن رسم وجه الرجل يتطلب فنية أكثر، لما يحويه وجه الرجل من تضاريس ناتئة بارزة في كل انحناءة أو نتوء دلالاته الفنية، عكس وجه المرأة الأملس الناعم، القادر على إخفاء المشاعر

إن البورتريه عند صالح رضا اعتراف وتكريم، مهمة الرسام الأولى فيه هي إظهار جمالية الوجه، وإبراز الموديل أحسن مما يرى نفسه، لأنه ليس مجرد رسم للظاهر، وإنما إظهار الكامن المخبوء والمتواري خلف الملامح الخارجية دون تزلف وهو يدرك أن لوحة البورتريه المنفلتة من بين أنامله أبقى من صاحبها. لذا لاغرو إن ألفينا البرتريه عند صالح يشع منه الوقار، ألوانه هادئة شفافة مع اختيار الألوان المناسبة لكل موديل، فكانت الألوان الباردة (الأزرق بتدرجاته) للرجال والألوان الحارة المشعة (الأحمر بتدرجاته) للمرأة مع اعتماد التدرج في الإضاءة بالانطلاق من خلفية داكنة معتمة، عبر الملابس لتكون العيون والفم نقاط الضوء والبياض بطريقة تتفوق على الكاميرا ومختلف الآلات التي أضحت متخصصة في البورتريه اليوم لأنها تقدم بورتري آلي ميكانكي فيما كانت لمسات صالح تبعث الحياة في كل لمسة لأنه يبدعها من قلبه وعقله فيقدم فيها عصارة أحاسيسه وانفعالاته، وتكون النتيجة لوحة تفاعل وجداني بين الذات والموضوع، وبروتيرهات تشكل صورا للرسام وللمرسوم معا

ما يستخلص من بورتريهات صالح إنها لمسات فنية تتجنب إظهار وتضخيم نتوءات و"عيوب الوجه"إلى تقديم لوحة في لقطة متوسطة الوجه بؤرتها الأساس، لتكون وثيقة تلخيص لحياة على فضاء مسطح، البورتيريه فيه يخاطب المشاهد ويقدم له تفاصيل حياته في كل ملمح، والعيون في اللوحة لغة التحاور التي تقول ما لا تقوله كل الأعضاء في الواقع،
إن لوحات صالح رضا عبقرية فنان استطاع عبر لمسات الفرشاة في ثنايا الوجه والتدرج بين اللمسة الكثيفة واللمسة الدقيقة الشفافة واللعب بالنور والظل أن يوهم المشاهدين بوجود خلايا حية في بشرة وجه البورتريه سواء كان وجه إنسان أو زجه حيوان.


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى