الاثنين ٧ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٩
بقلم رشيد سكري

الثابتُ و المتحول في النص الرَّحلي

في أدب الرحلة تـُكتشف حضارات بعاداتها وتقاليدها وفنونها، و بها تؤسس لعلاقة ميْسمها اكتشاف ثغر منسية أو بعيدة عن الرحالة. فقبل أن يعيش العالم على إيقاع الانفجار التقاني المتسارع، الذي يطوى المسافات الشاسعة في ذاكرة الانسان، كانت الرَّحلات، عبر التاريخ، تعيد ترتيب علاقة الانسان مع ذاته ومع الآخر من جهة، ومع الزمان والمكان من جهة أخرى.

وذلك عن طريق المشاهد التي يصادفها الرحالة، ويصفها كتعبير عن موقف تجاه الحياة والوجود. فكان للمقارنة، التي يعقدها صاحبها أثناء سفره بين الأصقاع، وعي مسْجورٌ بالتبدل والإبدال، بما هي أوجه ثقافية تعكس نمط العيش والحياة. غير أن تدوين هذه المشاهد، التي يصادفها المسافر، تكون عبارة عن نقلة في الزمان والمكان والتاريخ. كما أن الأجناس الأدبية، التي تُعنى بالرحلات، تجعل من عنصر المفاجأة والتشويق الحجرة الزاوية. ومن منظور آخر، فهي لا تسعى إلى جلب القارئ المهتم فحسب، بل تعمل حثيثا على أن يظل ـ أي القارئ ـ مشدودا بخيط رفيع، إلى سحر المكان وروحانيته، فكلما كانت كتابة الرحلة تنوس بين الحقيقة والخيال، كلما خاطبت الوجدان و الشعور و الأحاسيس و الذوق الفني. فبقدر ما يكون الوصف موضوعيا للرحَّالة، بقدر ما تتشاكل الصورة الذهنية و خيالَ القارئ في وفاق تام، وذلك عبر توسيع قنوات السرد الغني بالوصف، علاوة على التأثير المباشر، الذي تخلفه تباين أضرب زوايا الرؤية و المشاهدة، بحسب الوسيلة المستعملة في الرحلة.

وفي ذات المسعى، كان للأديب الفرنسي الشهير جول غابرييل فيرن، اهتمام كبير بأدب المغامرة و الاستكشاف، حيث استصدر، منتصف القرن التاسع عشر، كتابا عنونه ب"خمسة أسابيع في منطاد". إن هذه الرحلة، التي يمَّمت شطر جنوب الصحراء الإفريقية، بعدما كانت مجهولة عن الأوروبيين، استطاعت أن تخترق سُجوف البطاح السابغة عبر سفينة هوائية، حيث تكون زاوية الرؤية عمودية من خلال منطاد ينقط عنان السماء. ففي منتصف القرن التاسع عشر أذاعت صحيفة دايلي تلغراف خبرا مفاده أن مجهول أدغال أفريقيا، سينقشع سرابُه قريبا أمام الباحثين و المهتمين، بهدف اكتشاف كنوز و أسرار هذه الربوع. فما كان للعلامة ساموئيل فرغوسن إلا أن يجهز راحلته، ويغادر القارة العجوز ميمما شطر جنوب الصحراء. وتحدثت الصحيفة بإسهاب، وأثنت الثناء الحسن على هذا العمل، الذي سيقوم به الرحالة فرغوسن.

حيث فك ألغاز رحلات سابقة عنه، بالرغم من أنها رفعت الخوف و الوجل عن أدغال بلاد إفريقية، انطلاقا من عيون النيل إلى بلاد السودان، ومن رأس رجاء الصالح إلى بحيرة الزمنزي.

إن ما فعله العلامة ساموئيل فرغوسن، وهو يكتشف قلب إفريقية من الشرق إلى حدود جزيرة زنجبار، سيُحتفظ به للتاريخ الانساني، من زاوية أنه نقل أحداثا أقرب إلى أنساغ السيرة الذاتية، تكشف عن حقيقة الجبل المرتجف، الذي تحوم حوله أقوام بدائيين، ومعروفين ب"نيام، نيام"نسبة إلى الصوت الذي تحدثه عملية المضغ و العلك. فالجبل المرتجف عرفته العربُ بالمكان الذي يربط زنجبار بينابيع البحر الأبيض المتوسط عبر شلالات نهر النيل، فلولاه لكانت أرض مصر عبارة عن مفاوزَ و فلوات حسب تعبير المؤرخ هيرودوت. كانت الرحلة التي أقدم عليها فرغوسن عرت حقائق التخلف، الذي ترزح تحت نيره بلاد إفريقية. من خلال طقوس بدائية متعلقة بالعادات والعبادات، وطريقة العيش أيضا، حيث لقي الرحالة أخطارا تهدد حياته، إذ لولا تضافر جهود أصحابه وتعاونهم معه، وهم على متن المنصورة، لوقع فريسة الهلاك.

فإذا كانت الرحلة تقدم المعرفة و التجربة و الثقافة، فإنها تكشف عن المستور البعيد، تعري الحقائق التاريخية، وتزيل عنها الشوائب، فكأنما الرحالة ينتج خطابا جديدا حول الذات والآخر، ومن تم فهو يعيد تصحيح المسار التاريخي ذاته. فاكتشاف الشرق كان بالصدفة عن طريق رحلات ابن بطوطة في القرن الرابع عشر، من خلال كتابه الذائع الصيت"تحفة النظار في غرائب الأمصار و عجائب الأسفار"، الكتاب الوثيقة. فشلالاته السردية جعلته يتبوَّأ مصاف أمهات المصادر، التي تـُعنى بقديم السرديات العربية،"ألف ليلة و ليلة"و"فن المقامات"عند كل من بديع الزمان الهمداني و الحريري، وغيرها من المصادر... إن لكتاب ابن بطوطة أنساغا ضاربة في جذور السيرة الذاتية، كما وصف ذلك المفكر والروائي المغربي بنسالم حميش عندما ألف سيرة هذا الطنجي. تبدو المزية التي يمكن استخلاصها، هي أن هذا العمل لم يخرج، إلى حيز الوجود، إلا بأمر من السلطان المغربي أبو عنان المريني. فهذا العمل يُحسب لصالح القائم على شؤون الرعية آنذاك، حيث لولاه ـ أي السلطان ـ لما لقي هذا الكتاب من الشهرة ما أطبقت كل الآفاق، إلى درجة أنه أصبح دليلا يهتدى به معظم الباحثين، خصوصا عندما ترجم إلى اللغتين الفرنسية و الأنجليزية. فلا بد، في هذا كله، أن ندرك مدى المجهود الذي بدله ابن بطوطة، وهو يروي محكيات رحلته على كاتب البلاط ابن جزي الكلبي الأندلسي من خلال فصول متعددة تلخص مسار الرحلة، التي دامت ثلاثين عاما. وأمام هذا كله، خصص ابن بطوطة الشرق الأقصى بفصول أربعة تتراوح بين مملكتي الهند والصين، مشيرا إلى مدى انتشار المد الإسلامي في هذه الربوع.

وعلى غرار ما قام به ابن بطوطة، في العصور الوسطى، نجد رحلتين حديثتي العهد بالزمن، استأثرت أيضا باهتمام كبير بالشرق الأقصى المتمثل في بلاد اليابان، الأولى قام بها علي أحمد الجرجاوي في مستهل القرن العشرين، والثانية قام بها صبري حافظ في بداية العشرية الثانية من القرن الحالي. فالرحلتان مصريتان بامتياز بينهما قرن من الزمن، فهذا الأخير أحدث، في بلاد اليابان، الكثير من المتغيرات الجوهرية، ثقافية و اجتماعية واقتصادية و فنية وعلمية. سياقيا، يظل محفوظا في ذاكرة التاريخ أن الجرجاوي هو أول مصري وطئت قدماه بلاد اليابان، علاوة على أن رحلته لم تقصد نشر تعاليم الدين الإسلامي فحسب، بل كان شغله الشاغل هو: الاستزادة من خبرة هذه الربوع في شتى الميادين العلمية و الثقافية و الفكرية. يقول الجرجاوي"وإني لم أقصد برحلتي هذه في الحقيقة مجرد الاشتراك مع الذين ذهبوا إلى اليابان في نشر تعاليم الدين الإسلامي، بل كانت رغبتي متوجهة أيضا إلى استطلاع أحوال هذه الأصقاع، ومقدار ما وصلت إليه من المدينة وتقدمها في العلوم شأن من سبقني من السائحين". بينما الرحلة الثانية، التي قادت الدكتور صبري حافظ إلى زيارة اليابان، كانت بدافع العمل الثقافي، وتصحيح صورة الدين الإسلامي هناك. في الوقت الذي ارتفعت فيه صيحات"الإسلاموفوبيا"و المتأسلمين، الذين يعملون حثيثا على تشويه وجه الإسلام في اليابان.

إن القاسم المشترك بين هتين الرحلتين هو الاسترسال في الاستطرادات الواصفة، من خلال عقد المقارنة بين زمنين، بهدف الوقوف على مدى الإبدال الذي عاشته اليابان طيلة عقد من الزمن. يقول حافظ معلقا على رحلة الجرجاوي في كتابه"رحلتان إلى اليابان":"والواقع أن أهم ما استوقفني في رحلة الجرجاوي الطويلة بالباخرة من تونس إلى اليابان، والتي استغرقت عدة شهور، واستطراداته الشائقة قبل الوصول إلى اليابان، هي محاورته مع الفرنسي يدعى مسيو بيرتو يسأله عن تأخر المسلمين، ووضعهم المزري، حيث وقعت الكثير من أراضيهم تحت نير الاستعمار الأوروبي". لقد كان الاستعمار الوجه الآخر، الذي كشف عنه الجرجاوي، خصوصا وأن رحلته صادفت حادث دنشواي الشهير. فضلا عن أن الاستعمار كانت له يد طولى في التخلف الذي تعيشه بلاد المسلمين، وذلك عن طريق النهب الممنهج والمستمر للثروات الطبيعية، التي تزخر به هذه الربوع، وذلك بتواطئ و خِذلان مع حكومات منصبة صوريّا. بينما رحلة حافظ صبري جعلت من ثلاث مدن يابانية هدفا لها، وهي: أوساكا و طوكيو و كيوطو. ولئن كان استكشاف الشرق الأقصى يمر عبر ربط جسور التواصل، فإن الأخلاق العالية التي يتمتع بها اليابانيون، حسب صبري، تكون حاجزا حقيقيا أمام هذا الانفتاح، بل قد يتحول إلى عائق إبستيمولوجي. بيد أن احترام القانون المنظم للحياة الاجتماعية جُبل عليه اليابانيون، بل أصبح دَيْدنا لا يزيغون عنه قيد أنملة. إن رحلة حافظ كانت بهدف لمس و الوقوف عن كثب على الهوة الشاسعة بين الأمم المتخلفة والمتقدمة لا على مستوى العمران فحسب، بل أضحى التباين واضحا على مستوى السلوك و القناعات، حيث يقول الدكتور صبري"وانتظرنا في طابور بالغ النظام، لا أحد تجاوز دوره فيه، أو القفز عليه بالفهلوات العربية المعتادة".

مما سبق، يساعدنا النص الرحلي، إذن، على تجاوز الذات و الطبيعة من خلال حجم المعرفة، التي يزخر بها. فمهما حاولنا أن نستعيد بعض خصوصيات كل رحلة على حده، وموقعها ضمن خريطة الفعل الثقافي الحقيقي، فإن رصدَ الفوارق و تحديد مواقع الذات داخل هذا العالم الفسيح، يظل الشغل الشاغل للنص الرحلي. فلا ضير أن نستمتع بهذا الأخير، على اعتبار أنه نص سردي لغوي، يواري سوأة التباين بين الذات و الآخر، ثم بين الزمان و المكان.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى