الحداثة التربوية في فكر الطاهر الحداد:
إن الدارس المعاصر لفكر آثار الطاهر الحداد لا يملك نفسه عن الاندهاش لمدى حداثة خطابه وراهنيته، ليس فقط في مستوى المطالب التي عبّر عنها والتي غدا قسم كبير منها اليوم من مكاسب المجتمع التونسي (مكانة المرأة، تعصير التعليم...) ولكن خاصة في مستوى الروح والوعي اللذان صدرت عنهما تلك المطالب.
فهي روح شديدة الحيوية واليقظة وهووعي حديث وتقدمي بأتم معنى الكلمة.
أما جرأة الفكر والثبات على ما يراه حقا، استنادا على منطق العقل والعلم وحرية الفكر وكرامة الإنسان، فحدث ولا حرج.
والموضوع الذي سأتناوله اليوم في هذه الورقة ( الحداثة التربوية في فكر الطاهر الحداد ) ليس إلا مظهرا من مظاهر موقف الحداد من قضايا النهضة والإصلاح والتجديد. إنه لا يقنع بمجرد الإصلاح في معناه الترقيعي التوفيقي) بل ينشد إصلاحا عميقا يرقى إلى درجة التجديد والإبداع. يقول الحداد:
(لقد تحصلنا على قاموس جديد جميل من نتائج النهضة الحديثة التي شملتنا فصرنا نحب التعليم القومي ونبغض العلوم المادية خوفا على إيماننا، ونعلم أولادنا الطبيعة والكيمياء والتاريخ الطبيعي في مدارس الحكومة، ثم لا نرضى أن يتعلمها أولادنا بجامع الزيتونة خوفا عليهم من الكفر. ونرى العلم فضيلة في الرجل ورذيلة في المرأة خوفا على شرفنا. ونقلد الأوروبيين في منازلنا ومآكلنا ومشاربنا وملابسنا- عدا لباس الرأس- ونشتري كل هذه المواد من مصانعهم ولكننا لا نقلدهم في آدابهم وأفكارهم خوفا من الاندماج فيهم وضياع استقلالنا. ونطلب الدستور للشعب أجمع ثم نتلهف على التاريخ الذهبي لملوك الإسلام.).
(الأعمال الكاملة، المجلد 3، ص.281).
ويقول في موضع آخر بخصوص النقطة الأخيرة
(كل شيء قدسناه بخيالنا لا نطيق أن نعرفه كما وقع في الدنيا وليتنا لم نقدس التاريخ.)(ماي 1933) (المرجع السابق، ص 280).
ولكن ككل أصحاب الفكر المتزن لا يذهب الحداد في نقده للتراث والتاريخ إلى حد الانبتات والتنكر لهوية الشعب، حيث يخاطبه بحماس في جريدة "الصواب" (4/11/1921) فيقول:
(لقد عرف التاريخ المسطر لنا مجدا زاهرا احتفظ به بين رسومه واستعدادا عظيما لبلوغ أعلى الدرجات، فلا ينبغي أن نجهل هذه الحقيقة من تاريخنا.
يجب علينا أن نعرف أننا أبناء أمة عظيمة وفرع من تلك الدوحة الكبرى الإسلامية التي لا منازع في فضلها والعز الذي بلغت إليه)(الأعمال الكاملة، م1 ص. 185).
إن اعتزاز الحداد بهوية شعبه وأمته لم يجعله غافلا عن سنن الكون والتاريخ التي لا تحابي أحدا وإنما تنال الشعوب والأمم من نتائجها بقدر وعيها بها. ولذلك فهوينشد:
إذا مـا أردنـا أن ننـال الرغائبـافليس لنا غير العلـوم مطالبـابها بدد الغـرب الضـلال وجيشـهوقاد بها نحوالحيـاة النجائبـابها ذلل الغـرب السمــاء لعزمـهوعمر أرجاء البحـار مراكبـامراكب تجري كالمدائــن أبحـرتحوَتْ من نتـاج العالمين غرائباوغاص بها في الأرض يطلب سرهاوشاد بهـا ملكا يشق السحائبـا
ثم ينوح باللائمة على شعبه باللائمة لهجره العلوم الصحيحة ووقوعه فريسة الفكر الجبري الغيبي، فيقول:
جهالتنـا يـا قـوم أحنت رؤوسنـاوخيبت العقبـى وصبت مصائبـاسكنّـا لعيش الغبــن طـول حياتناعلى أن سنلقى في الممات الرغائباوعمدتنـا في ذاك طبــل وقبــةنؤمل منها أن تصــد النوائبــاونحيي بها في كل عــام مواسـماوفي كل أسبـوع نقيـم ملاعبــاوإذ مـا نُصَبْ في لهـونا بمَلمَّــةنقل كـان ذا حكما من الله واجبـا
إلى أن يقول :
سـرى ذاك فينا من جدود تقدمـوافصير مـا قـد عمـروه خرائبـا
(الأعمال الكاملة، م 3، ص 339)
فإذا كان هذا هوموقف الحداد من العلوم فماذا كان موقفه مما أسماه (التعليم القومي) الذي من المفترض أن يتحمل عبء نشر العلوم التي بها تكون نهضة الأمة؟
I/موقف الحداد من التعليم التقليدي الزيتوني
يمكن أن نكون فكرة عن موقف الحداد من التعليم الزيتوني في عصره من خلال عديد المقالات والخطب التي أثبتها المؤرخون له. كما تتوفر وثيقة خاصة بهذا الموضوع عبر فيها هذا المصلح الرائد عن ذلك الموقف بطريقة منهجية مركزة.
إن الذي حدا بالحداد إلى كتابة هذه الوثيقة (زيادة على بعض الأسباب المباشرة التي ذكرها بنفسه) هوموقفه المنتقد بشدة لما آلت إليه الأمور في جامع الزيتونة في ثلاثينات القرن الماضي.
يقول الحداد في نبرة فيها الكثير من المرارة والأسى:
(نحب اللغة العربية حبا جعلنا نعتبرها جزءا من ديننا ونحب ديننا حبا يكاد يفضي بنا إلى الجنون بل قد أفضى، ولكننا حتى الآن لا يوجد عندنا لدراسة هذين الأصلين أوتعليم العلوم ولوبناية صغيرة إذا استثنينا الكلية الزيتونية البائسة والكتاتيب الخاوية والمدارس القرآنية التي هي اليوم مشروعات لعيش الأفراد القائمين بها أكثر مما هي لتثقيف الشعب وتعليمه. والتعليم المذموم في المدارس الابتدائية التي أنشأتها الحماية الفرنسية أتم منها برنامجا في تحصيل العلوم)(الأعمال الكاملة، م 3، ص.296).
ويواصل بقوله بعد قليل:
(والشعب التونسي يشعر اليوم أن اللغة الفرنسية أقرب إلى طرق العيش من اللغة العربية وهذا هوالواقع وهومعقول الحكم الفرنسي فيرضخ إلى تعليم أبنائه في تلك المدارس رغما عن شعوره المخالف لها، لأن حياته المادية تتأخر يوما فيوما وتشعره بالحاجة إلى الاستخدام الذي تملكه الحكومة والشركات العامة وهي لا تعرف اللسان العربي، فكانت هذه المدارس كمعامل لتبديل الألسنة والملابس لفائدة المطابع والمصانع الأوروبية ولفائدة الرقي الاستعماري العام في توحيد الممتلكات الفرنسية بالشمال الإفريقي)(ص 296-297).
وفي جرأة وتحدّ واضح لنمط التفكير السائد حول "التعليم القومي" (أي المتعلق على اللغة العربية وعلى العلوم النقلية، كما كان يمارس في عصره)، يستخف الحداد باتجاه النخبة المترددة في أمر تعصير التعليم، فيصرح في جوان 1933:
(لكنّ زعماء الوطنية في تونس وسراة الأمة وأعيانها وعلماء البلاد ووجهاءها الأفاضل لم يكونوا غافلين، فهم قد منذ أكثر من عشر سنين يدندنون ويطنطنون للشعب بفضل التعليم القومي ووجوب تأسيسه من أموال الشعب. ومازال هذا الشعب يهتف لهم ويصفق ويؤذن كما يؤذن المؤذنون في صوامعهم العالية عند الصلاة ومازال هؤلاء الأبطال الكرام يخطبون له ويكتبون المقالات تلوالمقالات إلى ما شاء الله، وبذلك حققوا له صدق إخلاصهم وتفانيهم في خدمته وذلك غاية المراد!!).
ويوضح الحداد سبب استخفافه بالمتمسكين بصيغة ومضمون التعليم الحالي بقوله(المصدر السابق، ص 300).
(معارفنا التي نحصل عليها في التعليم الحاضر لا اتصال لها بحياتنا ولا تستطيع أن تعمل في تقويمها ولوبمقدار الذرة، لأن حياة التفكير التي تعقد الصلة بينهما لا وجود لها في أرضنا، بل نحن نمانع ونعارض في وجودها لأننا فخورون بماضينا، ولا نحب أن نعرف فيه عيوبا كأنها من عوامل تتصل بحياتنا اتصال هدم وتخريب. ومن أجل ذلك فسنبقى نتمنى الرقي ونطلبه ولا نحصل على شيء غير الكلام). جوان، 1933 (نفس المصدر).
II/دراسة وثيقة التعليم الإسلامي وحركة الإصلاح في جامع الزيتونة
هذه الوثيقة حققها الأستاذ محمد أنور بوسنينة وقد ضُمّنت في الأعمال الكاملة للحداد (المجلد 1، من ص 97، إلى ص 142 مع تراجم الأعلام إلى ص 156)، أي في حوالي 45 صفحة.
ويبدومن مقارنة العنوان بما جاء في الوثيقة فعلا من أقسام ومضامين أنها غير مكتملة.
فقد ورد فيها قسم أول تحت عنوان الجامع الأعظم (من ص 99 إلى 101) وقسم ثان غير معنون (من ص. 101 إلى ص 104) وفيه تحدث الحداد عن حركة التململ والاحتجاج التي ظهرت في أوساط طلبة الزيتونة بسبب البرامج المقررة لهم وطرق التقييم والتعليم وظروف المعيشة.
ثم تلا هذين القسمين قسم ثالث تحت عنوان (إصلاح التعليم بجامع الزيتونة) واشتمل بعد التمهيد على الفصول التالية:
– جامع الزيتونة والمعاهد الدينية
– تاريخ تأسس بناء جامع الزيتونة
– منشور المشير الأول أحمد باشا باي.
– تراتيب عام 1292هـ
– تراتيب عام 1330 هـ:(وهذه التراتيب كانت نتيجة طلب الإصلاح الذي ألح فيه الطلبة.....) (المصدر السابق، ص. 184)
– وأخيرا، حالة العلوم بالمعهد وقد تفرعت عن هذا الفصل الأبواب التالية:
– علم العلام
– المنطق وآداب البحث
– التشريع الإسلامي
ويقول بوسنينة عند انتهاءه:«إلى هنا أنهى المصلح الطاهر الحداد حديثه في باب "التشريع الإسلامي" وإذا بدا وأن للبحث صلة أوبقية لنقد علوم أخرى، فحسبي أني أتممت تحقيق ومراجعة ما كتب إلى "آخر سطر وصفحة خطهما» (المصدر السابق، ص. 142).
لنعد الآن إلى هذه الوثيقة بالقراءة ولكن مع تجاوز النواحي التاريخية، مركّزين فقط على مدخل النقد التربوي الذي وجّهه الحدّاد للتعليم الزيتوني. ولكن قبل ذلك سنعطي للحدّاد الفرصة للإشادة بخطورة قضية إصلاح التعليم بجامع الزيتونة حيث يقول:
(هذه المسألة يجب أن يعتبرها التّونسيّون مسألة موت أوحياة إذا أدركنا أنّ هذا المعهد هواليوم المعهد الوحيد الذي يمكننا أن نحمي به جوهرنا من الاندثار بإحياء لغتنا وآدابنا الصّحيحة مع درس علوم الحياة فيه بلساننا. وقد ظهر اليوم أنّه ليس في إمكان إدارة العلوم أوليس في إمكاننا نحن أن نطالبها بجعل التّعليم ناطقا بلغة الأمة. وهذا وحده هوما يحول بيننا وبين القدرة على الحياة بذاتيتنا. فإمّا أن نعتصم بالجهل ونموت، وإمّا ان نضيع أجزاء متناثرة في الغير كأن لم نكن شيئا مذكورا)( المصدر السابق ص. 104).
وللمساهمة في إنارة سبيل أولى الأمر في كيفيّة إصلاح التعليم الزيتوني:يبادر الحداد إلى تبصرتهم إلى مواطن الخلل فيه وهي بحسب استقرائنا لها من الوثيقة على أنواع خمسة:
– ظروف تعلّم الطلاب وعيشهم.
– طرق التدريس
– الكتب والبرامج المدرسية.
– المواد المقرّرة للدراسة.
– الإدارة
وهاهويقول بنفسه بضرورة " فحص حالة المعهد من وجهة العلوم والكتب والتدريس والإدارة والنظارة"(المصدر السابق ص 125)، وسكت عن ظروف عيش الطلاب لأنه سبق له الحديث فيها.
ولكنا سنقتصر على تحليل النقاط الأربع الأولى، لأن مسألة الإدارة، وإن تعرض لها الحداد من الناحية التاريخية، إلا أن عدم اكتمال الوثيقة لم يسمح لنا بمعرفة البدائل التي يقترحها. مع كونه لا يخفي إعجابه بطرق الإدارة الحديثة، كما يمكن أن نستشفه من عبارات مبثوثة هنا وهناك في نصوصه.
1 ظروف تعلّم الطلاب وعيشهم:
وبخصوصها يقول الحدّاد:
(إن الطّلبة يتألّمون كثيرا من التّشويش الحاصل لهم في تناول علومهم ودروسهم...إنّهم مع هذا الألم الثقيل يتألّمون أيضا في معاشهم وسكناهم، فهم الذين يطبخون طعامهم ويقصرون ثيابهم وبيوت سكناهم الخالية من الماء والضّوء الطّبيعي ممّا يعكر الهواء ويهلك الصّحة المنهمكة في جهود الدّراسة. أمّا صحن مدارس سكناهم فإنّ فواضل الطّبخ والمياه قد تبقى اليومين والثّلاثة ملطّخة به دون أن ترفع لأنّ المكلّف الذي يتقاضى في الشّهر من إدارة الأوقاف ما يزيد عن الأربعين فرنكا يزهد في أن يعمل باستمرار في نظافة المدرسة. وكثر المصابون من الطّلبة بأمراض كانت سبب هلاك كثير منهم أوذهاب عافيتهم، وكثيرا ما يكون لهم سقوط مستمر من ذلك. ومع أنّ نفقة الطّلبة عليهم وحدهم فإنّ مدارس السّكنى المحبّسة أقلّ من أن ترفعهم. لذا وضعت لهم إدارة المعارف ترتيبا بحسب الأقدميّة، ولم تر بعد ذلك ولم ترى الحكومة أيضا شيئا بعمل في هذه المساكن لفائدة الطّلبة وإنقاذهم من خطر محقّق ومستمرّ) ( المصدر السابق،ص 103- 104).
نلاحظ هنا إذن بوضوح انتباه المصلح الطاهر الحدّاد إلى نوعية المحيط الصحّي الذي يتواجد فيه الطّلبة والى الظّروف المعيشة القاسية التي يمرّون بها آنذاك وذلك وعيا منه بما لهذه العوامل من تأثير على نوعية أدائهم التعلّمي. والوعي بالجسد وبصحّته سمة من سمات الفكر الحديث الذي يؤمن بالفرد وينوّه بحقوقه الأساسية كما لا يخفى.
2/ طرق التدريس:
يشهّر الحدّاد بالتلقين في التعليم وبغياب الفرص أمام الطالب لإبداء الرأي بحرية ونقد وتقييم ما يعرض عليه من معارف ومحتويات تعليمية وهذا هوسبب التحوّل من مصطلح " العلوم الشرعية " إلى مصطلح " العلوم النقلية " برأيه حيث يقول:
« لكن الهدي الذي كانت تسير عليه المعاهد الدينية في دراستها لعلوم الفقه والّغة العربيّة قد تدحرج إلى عكسه بالتّدرّج. وبعد أن كانوا يقولون إن العلوم شرعيّة وعقليّة، أصبحوا يقولون إنّها نقليّة وعقليّة، ويفسّرون ذلك بعدم استعمال الفكر فيما يقرؤونه من العلوم الشرعيّة التي دوّنها العلماء من قبل، فصار التّعليم في هذه المعاهد أشبه ما يكون بالتلقين.
ومن تظاهر برأي بعد ذلك نعت بفسق الرّأي، وعدّ جريئا متهوّرا مسيئا للأدب مع المؤلّفين الذين يجب تقديس ما قالوه عن أن يتناول فنّا بالنّقد والنّقض. وأكثر ما يعلّلون به وجه الاضطرار لهذا التّدرّج هوالاعتقاد السّائد بينهم في تقاصر الأفكار والهمم أن تبلغ درجة الاجتهاد في العلوم الشرعيّة وحتّى أهليّة النّقد والتّمحيص لعامّة كتب المؤلّفين السّالفين، فكان من ذلك طريقا إلى الموت الذي أصاب روح هذه المعاهد في الصّميم.
إنّنا نتحدّث عن عموم الجوامع الكبرى وليس ذلك إلاّ حديثا عن جامع الزّيتونة الأعظم، إذ ما كان إلا مثالا منها كما كانت هي أمثلة منه»(م, س, ص. 111).
ويستشهد الحدّاد بنصّ رسميّ لذلك العهد ينصّ وجوبا على ضرورة التكرار والاجترار والتقليد وترك الاجتهاد والتجديد:
(إذا رجعنا إلى تراتيب المعهد في هذا الصّدد وجدنا الفصل الخامس عشر من تراتيب عام 1292 هـ المعاد بنصّه في الفصل التّاسع عشر من تراتيب عام 1330 هـ يقول:" ليس لأحد أن يبحث في الأصول التي تلقّاها العلماء جيلا بعد جيل بالقبول ولا أن يكثر من تغليط المصنّفين " المؤلّفين "، فإنّ كثرة التّغليط أمارة الاشتباه والتّخليط) ( المصدر السّابق ص 127).
ثمّ يعلّق الحدّاد مستنكرا هذا الأمر:
«وأي شيء هي الأصول التي تلقّاها العلماء بالقبول جيلا بعد جيل غير أصول الدّين التي تعبّر عن معنى الإسلام في جوهره، وبعد ذلك نجد أن العلماء يكادون أن لا يتّفقوا في مسألة ما من علوم الاجتهاد سواء الشّرعيّة منها وغير الشّرعيّة. وأقلّ نظرة في كتبهم ترينا جليّا ما لهم فيها من كبير الاختلاف في الآراء» (المصدر السّابق ص 127).
3/ الكتب والبرامج المدرسيّة:
في معرض مقارنته بين التّعليم الحديث والتّعليم الزيتوني ينوّه الحدّاد بملائمة البرامج التعليميّة لمجالات اهتمام التلاميذ وقدرته على استيعابها في غير " المعهد الزيتوني". وهوإذا ينتقد الاضطراب الحاصل في هذا المستوى بالزيتونة يقدّم لنا تحليلا منهجيّا بات يعرف اليوم تحت مصطلح " النّقل التعليمي " الذي يعني مفهوميّا تحليل العلاقة القائمة بين المعرفة العالمية والمعرفة المدرّسة وتقييم المسافة الابستمولوجية الفاصلة بينهما أخذا بعين الاعتبار مدى ملائمة المعرفة المبرمجة والمدّرسة لحاجات التلميذ الموضوعية وقدراته الذهنية ولتوزيعيّه كل ذلك في الزمن المدرسي درجة درجة.
كل هذه المسائل الديداكتيكية انتبه إليها الحدّاد بنباهة نادرة حتّى وإن كنّا نجد الأساس العام الأوّل لذلك في ما كتبه ابن خلدون عن ضرورة التدرّج بالمتعلمين رويدا رويدا وربط اللاحق من المعارف بسابقاتها.
ومن شك في تأثّر الحدّاد بفكر ابن خلدون فهويقول عنه:
(قد كان العلامة ابن خلدون من هؤلاء الأفذاذ الذين كانوا جواهر منتشرة في تاريخ الإسلام، لكنه كأمثاله قد كان مبغوضا من الفقهاء في بلاده تونس وغير بلادة) ( المصدر السابق ص 108-109).
ولكن الحداد والحقّ يقال لم يكن ليكتف بـ (جواهر التاريخ الإسلامي) بل إن التجربة التربوية الحديثة الماثلة أمامه والماثلة بالتعليم الفرنسي كانت هي الأخرى مصدرا رئيسيا للوامع فكره التربوي ذي المسحة الحداثية البارزة".
يقول الحدّاد:
(إنّ التّعليم يعتمد على تقسيم معارف الدّراسة إلى ابتدائيّة وثانويّة وعالية. والكتب التي يتناولها الطّلبة في تلك الدّرجات قد ألّفت قصدا لها طبق برنامج معروف الوضع والغاية بالضّبط ومجرّد من كلّ ما يشغل التّلميذ عن الغرض المقصود فيضيع به وقته ويتشوّش ذهنه. وهذا كلّه في غير التّعليم بالمعهد الزّيتوني. أمّا هوفالكتب التي اختلف مؤلّفوها في طريقة وضع المسائل بالتّقديم والتّأخير وفي أساليب التّعبير وضوحا وتعقيدا هي أساس هذه الدرجات إذ ليس لهم اتّفاق في ذلك، بل إن هذه الكتب تنسب إلى عصور متباعدة. ولذا تجد تكرار المسائل الواحدة في كتابين أوثلاثة مختلفة الدّرجات. ومن أهمّ الأبحاث في هذه الكتب هوشرح وتأويل مقاصد مؤلّفيها فيما عبّروا به من الألفاظ التي لا تخلوا من غموض وإيهام غير المراد طبق أساليب الكتابة العلميّة في تلك العصور. ولذا فإنّ أحسن طريقة هي الرجوع إلى طرائق التّعليم الحديث في تقسيم الدّرجات ووضع كتب لها محدّدة بحدودها كي تسهل مهمّة التّعليم على الأساتذة والمتعلّمين في اختصار الوقت من جهة وتعميره من جهة أخرى بالعلوم المتأكّدة التي تنقص المعهد. وإذا كان في هذا العمل صعوبة تحتاج إلى الوقت فيقع مبدئيا اختيار الكتب الأقرب إلى أداء المقصود ريثما يتمّ بوجه صحيح)(ص 102-103).
4) المواد المقرّرة للدّراسة:
وهذا الباب جاء في الوثيقة تحت عنوان: حالة العلوم بالمعهد ".
يقدّم لنا الحدّاد أضاف العلوم المدرجة في برنامج المعهد الزيتوني على أنّها:
(أنواع ثلاثة: عقلية كالتّوحيد والمنطق، ولغويّة: كالنّحووالصّرف، وشرعيّة:كالفقه والآداب)( م. س. ص:126)
والقاسم المشترك في العقلية التي تدرّس بها هذه المواد في المعهد الزيتوني هوتكرار القديم وتقديس معارف السابقين كما أسلفنا حيث يقول :
(ولئن وقع تهيّب العلوم الشرعيّة في العصور المتأخّرة عن تحليلها بالرّأي مهما كان وجيها فإن هذا التهيّب قد أخذ منذ زمن طويل يعمّ سائر العلوم اللّغويّة والعقلية كآثار للمتقدّمين يجب تقديسها بما فيها والسيّر بمقتضاها في حياتنا العلميّة. ففي جامع الزّيتونة إلى اليوم يجب أن لا يتظاهر أحد بأفكار ينسبها إلى ذاته ليعارض بها أقوال العلماء السّابقين. ومجرّد توهّم هذا المقدار على شخص يفضي إلى الإنكار عليه ورمي عقيدته بتهم الزّيغ والاعتزال بالرّأي)( م.س. ص. 126 ).
ويعطينا الحدّاد أمثلة حقيقية عمّا لحق بعض شيوخ الزيتونة المستنيرين من أذى وقمع فكري لما سعوا إليه من تجديد في الفكر البالي وهذا التجديد سمّاه الحدّاد " التفكير المستقبلي في عامة العلوم ":
(فقد عاش المرحوم الشّيخ محمد النّخلي (25) جزءا من حياته بالمعهد وهومطعون في عقيدته بما أضاع كثيرا من نشاطه في الدروس وجعله يقرئ دروسه بعد كعمل ميكانيكي يفرضه عليه الوظيف. وكذلك طعن على المرحوم الشّيخ سعد السطيفي (26) حتى مات مدحورا في بيته المظلم الصّغير بمدرسة النّخلة (27) حذوالجامع الأعظم )( ص.128).
لنتناول الآن وإن بنوع من الاختصار نقدا الحدّاد لعلوم معهد الزيتونة علما علما.
أ- علم الكلام:
لقد أبدع الحدّاد في نقد هذا العلم أيّما إبداع وبرهن بصورة قاطعة على تشربه العميق بروح الثقافة الإسلامية الحق المتمايزة عن روح الثقافة اليونانية الميّالة إلى التجريد وتعظيم الصّورة والمثال المتخيّل على حساب المادّة والطبيعة الحية وتفطن إلى نزعة القرآن الاستقرائية الداعية إلى النظر في موجودات العالم الحقيقية ونبذ مجرّد الأوهام والتأملات الميتافيزيقية الخاوية.
وهويبرهن مرّة أخرى على تأثره بابن خلدون الذي أغلق باب الإلهيات وافتتح عهد الإنسانيات، وكذلك تأثره بالفيلسوف العقلاني ابن رشد المقرّ بمنهج القرآن الاستقرائي في بناء العلوم كافة:
" الآيات الحاثة على النظر في الكون والاعتبار بحال الأمم المارّة فيه من سقوط ورفعة" ( ص 131)
ويضرب لنا الحدّاد الأمثال على ما وصل إليه الفكر الكلامي من ترّهات وخزعبلات بفعل إمعانه في تقليد منهج اليونان في الأقيسة النظرية البحتة فيقول:
« ومن أغرب النّتائج التي بلغها أهل هذا العلم أنّهم قالوا: أنّ الله يسمع الألوان والذّوات ويبصر الأصوات لأنهم قالوا قبل ذلك إنّ السّمع والبصر يتعلّقان بكلّ الموجودات: فجاءوا بما لم يسمع في كتاب ولا سنّة. ولا أدري كيف اطمأنّت نفوسهم إليه كحقّ لا ريب فيه»(ص 131 – 132).
ومما يلفت الانتباه حقّا هوالخلاصة التي وصل إليها الحدّاد بخصوص علم الكلام وهي خلاصة تعكس نظرة فلسفية تتوافق مع ما أقرّه من قبل ابن خلدون ثمّ كانط وبرغسون وإقبال، وإن على اختلاف في المصطلحات. وهوعين ما أقررناه وعمّقناه في نقدنا الإبستيمولوجي لعلم الكلام (في كتابنا في إصلاح العقل الديني، 2006).
يقول الحداد:
«إنّ الرّوح وحده في الإنسان هوطريق وصولنا لمعرفة ما وراء الطّبيعة بما فيه من حسّ ويقظة. والعقل الإنساني محدود نظره بما يأتيه عن طريق الحواس الخمس الظّاهرة. فهولا يمكن على التّحقيق أن يفقه ما تصبوإليه الرّوح من سامي الشّعور والعقيدة، وإنّما يقف دون ذلك حائرا فاستعماله في غير ما وضع له وإجهاد أنفسنا في ذلك إسراف فاحش لا ينتج غير وقوعنا في الشّكوك والرّجم بالغيب والاختلافات بيننا بقدر ما تختلف عقولنا في التصوير والإدراك »(ص 134).
يختم الحدّاد نقده لعلم الكلام كما يُدرّس في الزيتونة على عصره ( وربّما حتى الوقت الحاضر) بقوله:
«إنّ اللذين يفكّرون في إصلاح المعهد الزّيتوني لا بدّ لهم أن يتدبّروا في وسائل تقرير العقيدة في دراسة المعهد على وجه يضمن سلامتها من الخلط والاشتباه ويكفل خلودها في الأجيال حيّة نامية تسير على ضوء العلم الصّحيح وتعاليم الإسلام الخالصة»(ص 135).
وهي توصية مازالت تحتفظ براهنية كبيرة إلى اليوم على ما يبدو.
ب-المنطق وآداب البحث
يلاحظ الحداد أن المنطق في الأصل علم عقلي ومع ذلك فقد كان يدرس في معهد الزيتونة بطريقة تلقينية خالصة:
«وإنك لتبحث عن دراسة هذا العلم بتاريخ المعهد فلا تجد لها إلا صورة واحدة لا تزيد ولا تنقص كأنما هورسم تاريخي حفظ على حاله ليدل على رسامه. فكل إنسان حيوان، وكل حيوان حساس ينتج أن كل إنسان حساس. وإن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود. وعلى هذا النحوالساذج كانت أغلب أمثلة الحجة المنطقية في كتب الدراسة بحيث لا يتكون من مجموعها بسط نظريات تثقف العقل وتجعله أهلا لاستخراج النتائج المفيدة بالتفكير المنطقي الصحيح».(ص135-136).
هذا ما يقوله الحداد عن تدريس المنطق بالزيتونة وكلامه طافح بالاستنكار والأسف كما هوبين.
أما عن آداب البحث (أي مناهج البحث) فلا وجود حقيقي لها "للأسف فكل ذلك تلقين محض عندنا بالجامع وليس له أدنى تطبيق في العلوم" كما يقول الحداد (ص 136).
ج-التشريع الإسلامي
يبدومن خلال سياق الحديث الوارد في هذا الباب أنه غير مكتمل وهوما أشار إليه المحقق كذلك، كما سبق أن ذكرناه.
وعلى كل ففيه رصد للتحولات التي طرأت على العقل الفقهي في علاقته بالسلطان السياسي وبعامة الناس في آن واحد.
والمتفحص لكلام الحداد يستنتج اقتناعه بضرورة " ربط نصوص الشريعة بما يطابق مصالح الناس" (ص.139). كما يلمس بوضوح رفضه للخلافات القائمة بين فقهاء مختلف المذاهب على أساس الرياء والحكم بالهوى والتعصب الأعمى لمذهب دون سواه.
ينتهي هذا الفصل باعتزام الشروع في الحديث عن علم أصول الفقه ولكنه لم يتمّ.
ومما يدل على عدم اكتمال نص الحداد هوإعلانه عن نية الحديث عن علم أصول الفقه وعلوم العربية ولم نجد لهما في الوثيقة أثرا.
خاتمـة
إن ما توفر لدينا من مادة فكرية تربوية عن الرائد المصلح الطاهر الحداد يمكننا من الحكم على مدى توازن فكره واعتداله، فهووإن كان ناقدا صارما لما آل إليه التعليم في الزيتونة من جمود وتقليد وتعصب وسذاجة وقلة فعالية ومنفعة، فإنه لا ينكر وجود عناصر ايجابية بناءة لدى بعض أسلافنا من العلماء كابن خلدون وابن رشد. كما أن إعجابه بما لدى الغرب والفرنسيين على وجه الخصوص من أساليب الإدارة والبرمجة والتدريس لم يؤدّ به إلى ترك الغيرة على هوية شعبه واستقلاله.
ولكن حفظ هذه الهوية من الاندثار وكسب معركة الاستقلال لا تكون حسب رأيه إلا بتبني إصلاحات عميقة وفق رؤية مستقبلية تستشرف الآتي ولا تبكي على أطلال الماضي.
والآن وقد مرت أكثر من ثلاث أرباع قرن على وفاة الحداد رحمه الله (ت 1936) فأين التعليم الزيتوني مما دعا إليه هذا المصلح الكبير؟"
لا شك أن أمورا كثيرة قد تغيرت منذ ذلك الحين إلى اليوم، ولكني أعتقد أن مراجعة شاملة وعميقة للمنزلة الابستمولوجية للعلوم الإسلامية على ضوء مجلوبات العلوم الإنسانية مهمة معرفية متأكدة وحيوية مازالت تنتظر من يتصدى لها. نعم إن هنالك جهودا تبذل هنا وهناك على هذا الصعيد ولكن من دون تنسيق ظاهر ولذا فنحن ننتظر أن تتكون هيئة علمية وطنية تضم أساتذة وباحثين جامعيين من مختلف اختصاصات العلوم الإنسانية تشرف على إنجاز هذه المهمة بصفة منهجية جذرية، حتى نتجاوز واقع الهشاشة الابستمولوجية لكثير من العلوم الإسلامية التقليدية من جهة وواقع الازدواجية غير الجدلية في الوعي الحضاري لدى التونسيين ومن اتصل بهم من الإخوة المغاربة والأفارقة بوجه أعم، من جهة أخرى.