الأحد ٢٤ حزيران (يونيو) ٢٠٠٧
قراءة في ما لا نراه لمحمد جبريل
بقلم محمد سمير عبد السلام

الحكي كإبداع للوعي

من خلال فعل الحكي ، يتشكل الوعي بالوظائف الإبداعية للأحداث التاريخية ، و اليومية ، و الواقعية ، في مجموعة " ما لا نراه " للأديب محمد جبريل – صدرت مؤخرا في سلسلة أصوات عن هيئة قصور الثقافة المصرية – يصير – إذا – فعل الحكي عند محمد جبريل مفتتحا للتأويل ، و الأداء معا في سياق الصورة السردية للواقع ضمن تداخله الأساسي مع الوعي الإبداعي المنتج للحكاية المؤثرة في صناعة سياق واقعي – تخيلي متجدد ؛ فالوحدات الكثيفة للسرد تحمل صخب الشخوص التاريخية ، و آثار من اللوحات الفنية مصحوبة بفاعلية جديدة مؤولة في عوالم المتكلم الداخلية ، و كذلك الأساطير التي تكشف عمق لغة الحكي التسجيلية ؛ إذ إنها لغة مزدوجة بين التقرير من جهة ، و استشراف ما فوق الواقع ضمن وحداته الجزئية من جهة أخرى .

في نص " ما لا نراه " يرصد السارد شخصية الأم ، ذات النبوءات ، و المعرفة الإشكالية بأحداث المستقبل ، و وسائطها لبلوغ هذه المعرفة هي ؛ الأحلام ، و العناصر الكونية ، و تقلبات المناخ ، و الكسوف ، و الخسوف ، و ما إلى ذلك ؛ فقد تنبأت بوفاة الشيخ عبد الصمد رغم صحته الجيدة ، لأن نجمه قد خفت ثم يرى السارد أخاه قد عاد من جنازة الرجل عقب النبوءة ، و يظل السارد في حالة تتبع للمسار المعرفي للأم ، و يحاول أن يجعل توقعاتها تتوافق مع ما يهمه .

تتضارب مستويات المعرفة في شخصية الأم ، و من ثم يضعنا النص أمام التساؤل المتكرر حول المعرفة الأولى ، و معنى الحقيقة المتضارب أيضا ، فمن الواضح أن الأم ترتكز على حدس نسبي في نبوءاتها ، بينما يوحي خطاب المتكلم بتطابقها مع نتائج الواقع . إنها الخبرة الفردية التي يحولها إلى تمثيل سردي معرفي متحول في روايته عن الأم ، إذ تتحول الأخيرة إلى حكاية تعمل من خلالها الأطياف ، و الشخصيات المخيلة في وعيه ، كأنه يقاوم قوتها المعرفية التي أثبتها في البداية من خلال التوظيف الإبداعي – النسبي لما لا يراه ، و ما لا يراه المتلقي أيضا .
و في نص " لماذا يتحدون ضدي ؟ " يعاين السارد تجربة نسخ الاسم بوصفها حقيقة ، ذات أصل مخيل يكمن في أصل الوجود الواقعي نفسه ، فعقب وفاة الشيخ عبد الرحيم ، و تنازع مجموعة من الورثة على أراضي الوقف قام بمحاكاة الشيخ ، و استبداله بأن وضع اسمه في كشف الورثة .
هل يحمل البطل رغبة لا واعية في قتل رمز الجد عبد الرحيم ، و احتلال موقعه المقدس في نفوس العائلة ؟ إنه يعيد تمثيل الملكية من خلال صورة الأصل التي ينفيها بينما يحاول الانتماء إليها من خلال الإجراءات المعقدة أيضا ، إنه يطارد مدلول النقاء الأول ليحرف النخبوية من خلال آليات الحفاظ على الهوية ، باتجاه هوية أخرى مخيلة .

تتوتر وظائف الحكي كموضوع في بعض نصوص المجموعة مثل محو الذاكرة ، و الانتظار ، و الإشارة ، و لقاء ، و مواجهة بين تشكيلها للمعرفة الإبداعية التي تكثف الحدث التاريخي المتكرر في وظائفه التأويلية ، و الانفصال أحيانا عن الالتحام المباشر في الحدث مما يجعلها مصدرا للهدم ، لا الإبداع في الوجود .

في نص " محو الذاكرة " تستبدل قوة الحكي الهادئة ، سلطة المحو المباشرة لدى السلطان الذي يملك قوة سحرية تخفي الكلمات ، و الصور ، و التواريخ ؛ فحكايات الجدات من السير ، و الملاحم يمكن تلقينها ، و استعادتها لتحيا من خلالها المعرفة ، و تمتد في الزمن رغم المحو .
لقد تحولت الحكاية هنا إلى موضوع للحكي تتجسد فيه الحياة التاريخية ، و الفكر ، و التاريخ عقب تبلورها كنقطة للبدء المتكرر ، رغم وقفات المحو .
تظل الحكايات بعيدة عن التأثير السحري لعين السلطان ، عن المواجهة . لكنها تحول الماضي إلى مستقبل كثيف متجدد ، فالفاعل الذي قام بالمحو تم استلاب بطولته في حكي المحو ، و توليد الذاكرة من خلاله .

و في نص " الانتظار " ينتقل المستوى المعرفي بقدوم عبدة النار في وعي السلطان من الحكي ، إلى الواقع ، وكأن الحكاية استنفدت نفسها من الحلم للواقع الذي صار حلميا في الانتظار ، و كذب المنجمين على السلطان .

السلطان وظيفة مؤجلة في انتظار متكرر للتدمير الجماعي ، هكذا تقرأ الحروب في قوة الحكاية كإمكانية مجددة ، و متجددة للانتظار ، و التدمير .
و في نص " الإشارة " تتحقق الخسارة عندما ينفصل الحكي عن امتداده الزمني – الواقعي ، فالغريب يؤجل المعركة في وعي الناس عن طريق حكايات عن السندباد ، و الشاطر حسن ، و السفيرة عزيزة ، و البساط السحري حتى يغرق الحاضرون في النوم ، فيعطي إشارة بتوقف الحكي .
السارد الأول يحكي ليقاوم زيف حكايات الغريب الانفصالية ، كأنه يفجر حكايته بحكي آخر يلتحم بتأويل التاريخ ، من خلال استعادة الأداء في صورته الحكائية ، لا الحكاية معزولة عن سياق التأويل .

و في نص " لقاء " يزدوج العبث ، بحلم العدالة في وعي الفلاح عندما يقرر أن يشكو جابي الضرائب للسلطان فيجد الوجه نفسه متكررا دون نهاية .
لقد تشكل السلطان من وظيفة التشابه مع الآخر المولد من خلاله ، فصار محاكاة له تكتسب هامشيته التكوينية من خلال الحكي ، فسطوة العبث تنفجر في تشابه علامات القوة ، كأن اللقاء مؤجل ، أو لم يحدث ، فقد وقعت الحكاية في موقع عبثي مضاد لهذا اللقاء الذي أنتجته .
و في نص " مواجهة " يكثف السارد صراعا فريدا ينتجه الديك الأبيض لعلي حمدون ، قوامه الدفاع المباغت عندما يشتد الألم .
لقد أعاد الراوي إنتاج المواجهة في تأجيل الصراع ، و اختفاء المواجهة حينما تتجاوز نفسها في الحكاية إلى ما بعد الصراع ، ما بعد الحرب ، و هو استباق الموت في ضربة ما قبل المواجهة الفعلية في صراع الديوك ، تلك التي يتحقق فيها الاختفاء دون صراع حقيقي ، لكنه حكائي تأويلي لعبث المواجهة الحقيقية .

و تبلغ درجة الإنتاجية الإبداعية للحكاية عند محمد جبريل ذروتها في نصي حقائق الجدار ، و أطياف ، إذ نعاين علاقات التداعي الحاملة لتداخل الحكاية مع الواقع بحيث تكشف عن أصالة المحاكاة في وظائفه ، و وحداته .

في نص " حقائق الجدار " يقوم الحكي بتفجير الوظائف التخيلية الخفية خلف سكون المكان ، بحيث يبدو جموده الظاهر سرديا في أصله ، غير المنفصل عن السرد حين يصير مستقبلا ديناميكيا يحاكي الماضي من خلال أطياف المكان / الجدار ، و قد توقفت كثيرا عند العنوان : حقائق الجدار ، ما الحقائق ؟ هل هي مادة الحكاية الأولى الأسبق من الكلام ؟ أم أنها القوة المخيلة السردية للعلامات الكونية الساكنة ؟ أم أنها تداعيات إبداعية للحكاية فيما يؤولها من علامات ما يسمى بالواقع ؟

يتذكر البطل حكايات جدته عن الشاطر حسن ، و السندباد ، و طائر الرخ ، و أبي رجل مسلوخة ، و يتزامن تذكره مع حركة تكوينات نشع الجدار ، و سقف الغرفة ، تلك التي تتلاقى ، و تتباعد ، و تتجسد كأنها توشك على مغادرة الجدار ، و تتجه نحوه بأعين تقدح شررا . يقول :
" اختفت الأشكال المتداخلة ، حلت بدلا منها أشكال أشبه بالمسدسات ، و القنابل اليدوية ، اعتدلت في موضعي بحيث واجهت الباب المغلق ، حركت إصبعي كأني أضغط على زناد ، علا صوت انطلاق رصاصة ، توالى تحريك إصبعي ، تعالت أصوات الرصاص ، و الصيحات " .
لقد تجسد الصوت المتعالي من مادة الحكي الهوائية ، فصار حقيقة لا تنفصل عنها ، إذ إن الحقيقة تختلط بالحكاية فتستبدل الوعي بالمكان ، بسرد المكان الأدائي في لعبة ، أو مسرحية ترتكز على أولية التغير ، و الاختلاف .

و في نص " أطياف " تتحول مناقشات السارد مع صديقه سالم المغرم بالتاريخ ، إلى إعادة تكوين الوعي بالواقع وفق تداعيات التاريخ الإبداعية .
لقد تحث سالم عن تاريخ عمان ، و الصراع مع البرتغاليين ، و دفن الموتي في أماكن قتلهم ، ثم يحدثه عن أطياف الموتى التي تغادر القبور ، ثم يسمع السارد خشخشة يعقبها انبثاق لعدد لا نهائي من الأطياف بعضها دون رأس تحمل بنادق ، أو طبول ، ثم تتكاثر ، و يخرج من أحدها دف ، و يبدأ الرقص .
لقد ازدوج المرح بذكرى موت متجدد في لعبة الحكي الممزوجة بفانتازيا الوجود ، حيث يصير أثر الحقيقة التاريخية تأويلا إبداعيا لها ، ضمن منطق التداعي ، و تداخل آثار الماضي مع مستقبل قيد التشكل يؤوله ، و يعيد قراءته وفقا لمرح الحكي رغم أنه يحمل في الوقت نفسه مأساة التاريخ .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى