الأربعاء ١٣ نيسان (أبريل) ٢٠١١
بقلم عبد القادر محمد الأحمر

«الحيوان» ثالث البيوت!!

(.. وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) "العنكبوت/65"

تدرجت الأثداء من الكثرة في بعض الحيوانات إلى الإثنين في بعضها، وفي الذكور صارت أثرية..
ظهورالصورة وبدايات الحس

وفقاً للإرادة المطلقة الفعالة تمخضت الدهور- بعد حقبة النبات - عن حقبة أكثر ظهوراً وإظهاراً للصورة والحس، هي حقبة الحيوان، والتي زادت على سابقاتها بمزيد الحس المتطور والحركة الإختيارية، وفق دافع باطني معين، طلباً للنافع، وهرباً من الضار، مع احتفاظها بكل خصائص الحقبتين السابقتين!! ومما يجدر ذكره أن أول مظاهر الحياة- كما ذكر أهل الاختصاص-: ).. قد بدأت في أواسط "البحار" على شكل نوّيات قابلة للتوالد، لكن يصعب تحديد تاريخ هذه الكائنات الحية بصورة أكيدة، ومن المرجح أن بدء الحياة على الأرض قد بدأ قبل 570 مليون سنة وانتهى قبل 320 مليون سنة من الآن، كما مرت الحياة بعهود عديدة بعضها أطول من بعض حتى ظهور الأدوار الأولى التي ابتدأ أولها قبل 225 مليون سنة، والذي استمر نحو 35 مليون سنة، وهو الدور الذي انتشرت فيه الزواحف في كل من البر والبحر، وأولها الديناصور/ نعامة، وهو خفيف الحركة، سريع الجري، هذا وقد فاق عدد الزواحف عدد كل الحيوانات الأخرى بسبب قدرتها على التكيف مع البيئات المختلفة، فالبعض منها كان يعيش على الماء، والبعض الآخر على البر، والبعض طائراً في الجو، حتى جاء قبل 65 مليون سنة من العهود ما أخذت خلاله الأرض تتخذ تدريجياً شكلها الحالي بعد تحولات جذرية وعميقة، ففي أواخر هذا العهد التحقت الهند بالقارة الآسيوية، وافترقت إيطاليا وشبه الجزيرة البلقانية نهائياً عن إفريقيا، وبقيت أوروبا معزولة، وتقاربت الأمريكتان، وبنتيجة تحرك القارات المستمر تكونت سلاسل جبلية شاهقة كالألب والإنديز والهمالايا والجبال الصخرية، وسلاسل أخرى أقل ارتفاعاً، وفي هذا العهد كان الطقس أكثر "حرارةً" مما هو عليه، فانتشرت كأسيات البذر وتكونت منها غابات كثيفة وشاسعة الأطراف حتى ظهور آخر الأدوار على سطح الأرض والذي ظهر فيه " الإنسان " وهو ينقسم إلى فترتين أساسيتين هما- كما ذكرنا في وقت سابق- : "البليستوسين" و"الهوليسين" - أي العصر الحديث - الذي بدأ قبل نحو مليوني سنة، ففي الفترة البليستوسينية انخفضت "الحرارة" بشكل مذهل فنتج عن ذلك فترات جليدية أعقبتها فترات حرارة مرتفعة فتكونت القنن الثلجية الضخمة في أمريكا الشمالية وأوروبا وآسيا وانتقلت ببطء إلى الجنوب، واكتست المناطق الشمالية تدريجياً بطبقات جليدية تصل سماكتها إلى أكثر من 1200 متر أحيانا، وقبل أكثر من 10,000 سنة انتهت آخر مرحلة جليدية، وبدأ العهد، وهو ما زال مستمراً حتى اليوم، إذ حمل بصمات الإنسان الأول وآثاره على البيئة المحيطة به)

وخلاصة القول في الحيوان- كما يقول الإمام الغزالي-: (00إن الله- تعالى - خلقه مختلف الطباع والخُلُق، فما كان ينتفع الناس بأكله خُلِق فيه الانقياد والتذلل، وجُعِل قوته النبات، وما جُعِل للحمل جعله هاديء الطبع، قليل الغضب، منقاداً، منفعلاً على صوّرٍ يتهيأ منه الحمل00 وما كان ذا غضبٍ وشرٍ إلا أنه قابل للتنظيم إذا نُظِّم خُلِق فيه هذا القبول للتعليم للإستعانة به على الصيد والحراسة، ومن جملة ذلك الفيل فإنه ذو فهم مخصوص به وهو قابل للتأنس كالحمام يألف موضعه ويستعان به في نقل الأخبار، وبسرعة إذا دعت الحاجة إلى ذلك، وجعله الله كثير النسل فيكون منه طعام ينتفع به، وما خُفيَّ في خلق الحيوان أكثر مما عُلِم، وما بينه من اختلاف الطباع ما يشير إلى أنه "فريقان" بينهما تفاوت وتفاضل وتباين في الصفات)
الروح الواحد

ويقول ابن الطفيل- في حكايته الفلسفية "حي بن يقظان" على لسان بطل روايته - وهو يتجول فكرياً في عالم الحيوان: (.. ثم أخذ ينتقل إلى جميع أنواع الحيوان، فيرى كل شخص منها واحداً بهذا النوع من النظر( النظر الذي قاده إلى أن التكثر العضوي في الكائن الحي إنما يجتمع في وحدة متعاونة منسقة عن طريق الروح ) ثم كان ينظر إلى نوع منها: كالظباء، والخيل، والحمر، وأصناف الطير صنفاً صنفا، فكان يرى أشخاص كل نوع يشبه بعضه بعضاً في الأعضاء الظاهرة والباطنة، والادراكات، والحركات، والمنازع، ولا يرى بينها اختلافاً إلا في أشياء يسيرة بالاضافة إلى ما اتفقت فيه، وكان يحكم بأن الروح الذي لجميع ذلك النوع شيء واحد، وأنه لم يختلف إلا أنه انقسم على قلوب كثيرة..

ثم كان يُحضر أنواع الحيوان كلها في نفسه ويتأملها فيراها تتفق في أنها تحس، وتتغذى، وتتحرك بالارادة إلى أية جهة شاءت، وكان قد علم أن هذه الأفعال هي أخص أفعال الروح الحيواني، وأن سائر الأشياء التي تختلف بها بعد هذا الاتفاق، ليست شديدة الاختصاص بالروح الحيواني، فظهر له بهذا التأمل أن الروح الحيواني الذي لجميع جنس الحيوان واحد بالحقيقة، وإن كان فيه خلاف يسير، اختص به نوع دون نوع "يريد أنه وجد أن الحيوانات على اختلاف أنواعها وتباين أشكالها وطبائعها تجمع بينها خصائص عامةهي: الاحساس، والاغتذاء، والحركة الإرادية، فهي تؤلف جنساً واحداً من الموجودات".

وهو الأمر- كما لاحظنا - الذي لم يحدث للصورة الأولى (الحجر) والتي افتقرت إلى هذه الإتجاهات، وضعفت فيها الصورة حتى شُبِهت بالمادة التي لا صورة لها، وبأنها كالأس للبناء، وكالمضغة بالنسبة للكائن الحي، لأنها أحدية الجهة، بينما تجلت بكامل تنامي اتجاهاتها في حقبتي النبات والحيوان ثم بتمامها في حقبة الإنسان كما سنذكر إن شاء الله، ويمكن القول بأن هذه الحقب أشبه ما تكون بـ "منازل" القمر، تلك التي يتدرج عليها نوره، وقد سميناها بـ "البيوت" - بدءاً من المحاق وانتهاءاً إليه- تدرجاً - !! ..

فهذا "الروح" سيتراءى لنا في مشارقه الأفقيـة هذى إلى أن تكتمـل استدارة "العقل" المعنوية في ذات الإنسان حينما تصل به سنوات العمر إلى الـ 41 عاماً (لاحظوا معي هنا أن الواحد يقع يمين الأربعة) !! وفي القمر يكفي أن أجمل وأبهى صوره تتجلى في استدارته الحسية ليـلة الـ 14 من مسيره (والواحد هنا كما نلاحظ- ويا للروعة - يقع شمال الأربعة)!!
الأمر الذي دعانا إلى القول- أيضاً - بأن هذه الاستدارة الحسية هي- كذلك - بمثابة سن "البلوغ" الحسي، عند الذكر والأنثى على حد سواء، وكل المطلوب- بعد الالتزام بالأوامر الفوقية واتباع التوجيهات الصادرة - المحافظة على هذه الاستدارة الحسية أولاً حتى تتهيأ الدواخل بعد هذا للوصول إلى تلك الاستدارة المعنوية الأخري المنشودة، ولن يتم كل هذا إلا بحفظ "الأمانـة" وأدائها على الوجه الصحيـح!! وبالعدم تبتعد وتختفي "الغاية العليا " ، وتدنو وتقترب "الغاية السفلى" و (كلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) !! فالقمر- كما نشاهد – يعود بعد انتهاء دورته إلى نقطته التي بدا منها!! عليه لا يكون الثبات إلا في الطاعة والمحافظة عليها وعلى ديمومتها..

الحركة الاختيارية

فعند هذه الحقبة نرى أن معالم الصورة قد بدت أكثر وضوحاً من سابقاتها، وذلك بزيادة الإدراك- أي "النور" - زيادة يسيرة– كالهلال الذي لا يرى بالعين المجردة - بحيث يمكن القول بأن كل حقبة من هذه الحقب إنما هي نتيجة لما قبلها ومقدمة لما بعدها دون أن يكون أحدها أصلاً للآخر، والإدراك بالحواس- كما ذكرالحكماء -:- (00خاصة من خصائص الحيوان لا النبات، ويتبع وجود الحس الشعور بـ "اللذة" و "الألم" ، ويتبع هذا وجود الدافع للبحث عن اللذيذ وتجنب المؤلم، وهذا لا يكون إلا بالحركة، والحس الباطني يثير فيه الرغبة أو الرهبة، والحركة تُمكِّنه من الإقبال أو الإدبار، طمعاً في اللذة أو تفادياً للألم، والحركة ضرورة يستتبعها الحس وإلا كان لغواً، ولهذا كان أكثر الحيوان قادراً على التنقل بخلاف النبات00 ) ..

النشوء ةالارتقـاء

فالنشوء والارتقاء– كما يقول أرسطو -: (لا يعني تحول النوع من شيء إلى آخر أرقى منه بمرور الزمان، إنما الترقي ترقٍ منطقي، أو ترقٍ في الفكرة، فالأدنى يحمل بذور الأعلى بالقوة، والأعلى يحمل بذور الأدنى فعلياً، وما هو ضامر مستتر في الجنس السافل، ظاهر جلي في الجنس العالي.. وهذا هو التنضيد المنطقي للكائنات على النحو السلَّمي، فيكون أرقى طوائف النوع الواحد أحط من أحط طوائف النوع الأرفع، كما تكون الأعشاب من أحط الأشجار، وأرقى الأعشاب أرقى من أرقى المعادن

ومن ثمَّ فالعالم كله سلسلة أو سُـلَّم ذو درجات، ولكن لا تتحول فيه الأنواع مع مرور الزمن إلى أنواع أرقى، فعملية النشوء والارتقاء تتلخص في أن "الصورة" - وهي صورة مجردة عن المادة - تجذب العالم إلى الرقي دائماً، و"الهيولي" - أي المادة القابلة لتلقي الأوصاف على اختلافها - تعوقه وتؤخره، ولا تستطيع أن تتغلب عليه غلبة تامة، ولعل هذا هو السبب أحياناً في وجود "فلتات الطبيعة" - وهي تلك المخلوقات الشاذة عن نوعها في بعض مظاهرها!! فجميع الموجودات في هذا العالم متدرجة في الرقي، وأنها واقعة بين نهايتين، هيولي لا صورة لها، وصورة لا هيولي لها، ونسبة الصورة إلى الهيولي في الكائنات نسبة تصاعدية وذات قدرٍ معين في كل أنواع الموجودات)

الحقيقتان النهائيتان

ويقول:- (فما دام هنالك حقيقتان نهائيتان، هما الوجود المطلق من ناحية، والعدم المطلق من ناحية أخرى، وبين هذا وذاك مرحلة متوسطة هي هذه الأشياء التي تقع تحت حواسنا والتي لها من الوجود وجودها، ومن العدم عدمها، وتميزت بتفاوت الأشكال والصفات، يتقرر في الذهن أن هذه الأشياء المُحسَّة إنما هي أنصاف حقائق، أي أنها مزيج من "الحق" و "الباطل" ، أو الوجود والعدم، فمن كان فيها مَنْ فيه "روح" الله– وهو هذا الإنسان - كان هذا هو جانب الحق، لأنه "ثابت" ، وما فيه من جانب "المادة" كان هذا هو جانب الباطل، أو العدم، لأنه دائم التغير")

الأنثى والشعور بالأمومة

فهذه– كما سنبين- هي الحقبة التي بدأت فيها "أنثى" الحيوان ذات "الأثداء تشعر- بالاضافة إلى لذة الشعورالصامت بلذة الاتصال الجنسي، التي يشاركها فيها ذَكرها والتي هي لذته الخاصة به – قد بدأت كذلك تشعر بذات الشعورالحسي الذاتي الخاص بها وحدها والذي لا يشاركها فيه ذكرها هذا، ونعني به إحساس "الأمومة" والشعور الخاص بمعناها !! - وبمعنى آخر لذة "الولادة" الممتزجة بلذة الألم– مثلما هو حال الجماع !! - هذه اللذة المتمثلة في هذه الظواهر الطبيعية الغريزية التي نراها من لعقٍ واستدرار للبن، يقابلها كيفية اهتداء هذا المولود - بذلك الصفاء المُحيِّر- إلى هذا الثدي دون أن تتمكن أمه من إعطائه له بيديها، لأنها لا تمتلكهما!! وهو عين صفاء "الفطرة" وجمالها العاطفي البديع عند الإنسان حينما تناوله أمه ثدييها بيديها بكل ما تملك من عاطفة وحنان وحب!! ناهيك عن هذا الحيوان الذي حُرِم نعمة النطق والتـبيان، ولم يحرم نعمة الأمومة ذات هذا الكيف العاطفي والحنان الخالد الكبيرين!!
الأعضـــاء الأثريــة

هذا وقد تدرجت هذه الأثداء من الكثرة في بعض الحيوانات إلى الإثنين في بعضها، لأن منطق العمق الأخير والتدرج يقول بأنه لا بد عند المحطة قبل الأخيرة، والأخيرة من وجود ثديين فقط للرضاع، لا واحد، ولا ثلاثة!! في حين أننا نرى- وفي هذا مدعاة كبرى للتأمل- أن هذه الأثداء في ذكور الثدييات قد صارت من أبرز الأعضاء الأثرية فيهم، غير مكتملة النمو، رغم احتفاظها- كما ذكروا - بإمكانياتها!! فقد ذكر جون سيمونز في مجلة "حياة النبات" قوله: (..بأن هنالك أمثلة كثيرة لهذه الأعضاء وقد صارت مكتملة النمو ومفرزة للبن في ذكور بالغة، وكذلك الحال بالنسبة للنباتات التي تتبع نوعاً واحداً، إذ توجد "البتلات" أحياناً كمجرد آثار، وأحياناً توجد في حالة جيدة من النمو، وتحمل الزهور الذكرية في النباتات الوحيدة الجنس في الغالب آثاراً من أعضاء التأنيث، وقد وجدوا بأنه بإخصاب مثل تلك النباتات الذكرية من أنواع خنثى يزداد حجم أعضاء التأنيث الأثرية في النتاج الهجين زيادة كبيرة، ويوضح هذا أن أعضاء التأنيث الأثرية والكاملة في النباتات متماثلة أساساً في طبيعتها..) ..

ويقول ابراهيم مظهر في مقدمة كتاب: "أصل الأنواع" :- (بأن الأعضاء الأثرية قد خُلِقت من أجل تحقيق "التماثل" أو حتى يكتمل "نظام الطبيعة" ، وبأن الأعضاء الأثرية لَشيءٌ يمكن مقارنته بالحروف التي تظل باقية في هجاء الكلمة بينما ليس لها أية فائدة في النطق، ولكن يستفاد منها كأدلـة عند البحث في اشتقاق الكلمة) ..

لا يوجد في عالم الحيوان شعور بذنب، أو إثم، أو تأنيب، أو عيب، أو خطيئة، أو فساد
الحركة الأنثــوية

واليوم نرى أن هذه الأثداء- في عالم الإنسان - قد صارت من بعد البلوغ– ويا للعجب - مصدراً من مصادرالإثارة والتحريك للشهوة الجنسية عند الطرفين، فماذا يعني هذا؟! هل هي حقاً من تلك الرموز القديمة العميقة لتلك المعاني من الارتواء القديم حيث لم يكن هنالك جوع ولا عطش؟!! وهل يمكن أن يكون في قوله- تعالى -: (وأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى)
"طه/119" .. ما يشيرإلى تلك الأنهارالخالدة المرموزة؟! بالرغم من هذا الاختلاف "الجوهري" !!؟ وهل هي إشارة إلى تلك "الذكرى" الغابرة، التي كثيراً ما نجد صداها يتردد في القرآن العظيم!!

نعم،

إن أتفه الظواهر- كما يقولون - لا تقل شأناً عن أجلِّها وأخطرها في نظر من ينظر بإيمانٍ عميق، فربما كانت التوافه مفتاحاً لأعصى الأسرار!! ..

لكننا نعود الآن إلى تلك الحركة "الأنثوية" التي صارت من أكبر المظاهر خلال هذه الحقبة الحيوانية، والتي تميزت خلالها هذه الأنثى وتفردت بعدة وظائف، ليس للذكر منها سوى وظيفة واحدة مشتركة هي تلبية الحاجة الغريزية الجنسية في كليهما، دون أن يكون لديهما الإدراك إلى ما يمكن أن يؤديه هذا الاتصال من توليد للمَثَل، إنما هي دوافع الغريزة المتشعبة لاغير، والحكمة الكامنة وراءها دفعاً، فصارت بحكم هذه الوظائف المتعددة هي المسئولة عن شئون هذه المملكة المترامية الأطراف، والمتحركة أفقياً في أرجائها، والإشارة كذلك إلى ما كانت تتمتع به من نفوذ وجبروت وشراسة، وهيمنة واستعلاء وسطوة، لأن "ذَكَرَها" كان- وقتها - مثلها، مظلم النصفين من القلب!! وهذا ما يمكن أن نلحظه بوضوح في أنثى الكثير من الحيوانات اليوم، وقوتها تعمل دون روية أعمالاً لا تجمعها غاية موحدة!!

وهي الوظائف التي لا شك في أن حالات الحمل والولادة هي التي أفرزتها، وما يتبع ذلك من رضاعة ورعاية، وتدبير وعطف وحنان لهؤلاء الصغار، بل ودفاع مستميت عنهم في حال تعرضهم لأي نوع من الأخطار، بينما ظل هذه "الفحل" الحيواني عند حده ودوره المفروض لا يتعداه، ذلك "الضرَّاب" الذي لا تحركه إلا الغريزة ومصدرها الخارجي المتعرض أمامه لاقتناص تلك اللذة بقذفه لهذه "الحرارة" التي تمور بداخله في شكل شحنات كهربية لابد- فرضاً - من قذفها إلى الخارج!! الأمرالذي يدفع إلى باب آخر هو باب الفساد والافتراس والوحشية، وسفك الدماء، وقتل الأبرياء الضعاف وأكل لحومهم، حتى يتمكن من إعادة هذه الطاقة المبددة مرات ومرات إلى باطنه من خلال هذا الغذاء الداخل إليه، وهكذا دواليك.. وهذا هو الحال بعينه عند آكل النبات، يستمدها من هذا النبات، تمكيناً للقوى المادية فيهما من أداء دورها المحسوس!!

الحيــاء المفقــود

هذا وما زالت جميع الحيوانات– بما فيها الحشرات - تمارس هذا الفعل الجنسي بلا حياء، وفي أي وقت أرادت- ليلاً كان أم نهاراً - شوهدت أم لم تشاهد، لأنها بلا غطاء "ديني" يُهذب غرائزها ويسترعوراتها، وبلا "شريعة" توجه سلوكياتها وتضبط تصرفاتها، بالرغم من أن بعضها- كما قيل - يبتعد بأنثـاه بعيداً عن أعين الناظرين ليمارس حظه من هذا الفعل، إلا أن الغالب هو الحكم، فقد اقتصر وجود الحيوان على هذين الفعلين، اللّذين هما في نهاية الأمر ذلك الدافع المزدوج للشعور باللذة، ولا شيء سواها، لأن أمر إنتاج المَثَل– كما ذكرنا- لا يعقله سوى الإنسان وحده، وفي وقت لاحق!! حينما يعلم– وقتها - ويتأكد له عمق هذا التجاذب الكيماوي الذي ما زال يربطه بهذه الأنثى على مدى كل الحقب وطول الدهور!!

وبذلك ندرك أن بشهوة "الأكل" تتولد شهوة "الفرج" ، فالفروج والبطون هما مكامن الشهوة!! التي هي: طلب النفس اللـذة، وقد خصهما الله بذلك لأنهما مرجع جميع الشهوات، فهما أقدم القوى وجوداً في الإنسان وأشدهما تشبثاً وتثبتاً به، وأكثرهما تمكناً، فإنهما يولدان معه، ويوجدان فيه وفي الحيوان الذي هو جنسه، بل وفي النبات الذي هو جنس جنسه، ولهذا فُسِّر "الهوى" بأنه عَرَض نفساني ناشيء عن شهوة نفسٍ في غير أمر الله، أي في الحرام!! ولا حمى لله في أرضه- كما نعلم - إلا محارمه!!

ولهذا قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: (أخاف على أمتي من بعدي ثلاثاً: ضلالة الأهواء، واتباع الشهوات في البطون والفروج، والغفلة بعد المعرفة) ..

وقد قال الشاعر:

تجنب الشهوات واحذر أن تكون لها قتيلا
فلرب شهوة ساعة قد أورثت حزناً طويلا

وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة التي هي- كما ذكرنا - أم الشهوات ، كما عرف الإنسان ذلك بحسه وعقله في ما بعد!! ولهذا السبب وحده- أيضاً - فرض الله - سبحانه وتعالى - الصوم على الإنسان، ووضع له- وبتطوعه - ترياقاً ضد جموحها وسطوة غشيانها!! وكما أبان نبي الإسلام ذلك في كثير من أحاديثه الشريفة!!

وحقاً: -

( وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) " العنكبوت64 " ..

الحريــة المطلقـة

فمن خلال هذه الآية الكريمة نستطيع أن نستنبط أن الدين بشرائعه وتكاليفها، وأوامرها ونواهيها، وإقراراتها وحدودها، لا وجود لها في تلك الدار الآخرة المسماة بـ "دار السلام" ، هذه الدارالتي ما أُعِدت إلا لهذا الإنسان التائب الذي قام بأمر دينه علمـاً وسلوكاً والتزاماً واتباعاً، ولم يتجاوز خطوط شريعته المبيَّنة له، في هذه الدار"الدنيا" ، لأن النهر هنالك يصب في أصله، والأصل هناك هو "الإباحة" !! فلا أمل يعظم مقداره إلا في الانغماس في تلك "الحرية" المطلقة المدهشة، في ذلك المناخ الكلي الصالح، وتلك المعاني القدسية المتوهجة، تماماً مثلما تهيأت- كنموذج لها هالك، يمكن رؤيته- لهذا الحيوان في هذه الدار "الدنيا" ، مع الفارق والبون الشاسع، فالحيوان في هذه الحياة الدنيا يحيا من غير شريعة و بلا خطوط حمراء مانعة، أو أوامر ونواهي، فلا إحساس ينتابه ولا شعور يؤنبه على ذنب، أو إثم، أو عيب، أو خطيئة، أو فساد،

الأمر الذي أكد ويؤكد لنا بأن هذه الدنيا- كما ذكرنا مراراً وتكراراً – ما هي إلا "المَثَل" ، النموذج المصغر المحدود، لذاك المناخ الكلي والمعنى القدسي لتلك الحياة المرجوة غداً في تلك الدار الآخرة الخالدة، المفتقرة للأقطار ونواهي الدين وأوامره وأحكامه وقيوده!!

الاصطكاك والاحتكاك "والحرارة"

فعند نهاية هذه الحقبة- وقبل أن تكتمل بدراً رائعاً مستديراً يخلب الألباب، وبعد التمادي في التمرد والوحشية والفوضى وشريعة أفعال عالم الغاب، رأينا أن الشرر في ما مضى- أي خلال الحقبة الأولى - كان يتطاير من "الحجارة" بالاصطكاك، ومازال، ورأيناه في الحقبة الثانية- أي حقبة "النبات" - أنه كان يخرج بالاحتكاك، وما زال، فها نحن نراه الآن في حقبة "الحيوان" يخرج في صورة أخرى، ليست كسابقاتها، هي جميعها في مجملها صور خروج "الحرارة"، ولهذا ظلت هذه "الحرارة" كامنة في البواطن طاقةً حرارية عنيفة، لا يجد الحيوان مفراً من قذفها إلى الخارج كلما استبدت به وأرادت الخروج، تساعده على ذلك قدرته على الحركة الاختيارية نحو أنثاه المرافقة!! لأن وجودها بالقرب منه هو الذي يحرك فيه هذه الطاقة ويهيجها بحثاً عن الخروج، فهذه الأنثى هي عين المعنى المعنوي الفوي الكامن فيه، والذي تقابله به هي كمعنىً حسي تجسد– ضرورةً - فيها وبها!! شاء ذلك أم لم يشأ!! فلا جدوى إذاً من المقاومة بالنسبة للأنثى ولا للكبت بالنسبة للذكر، ففي ذلك "عنتٌ" ما بعده عنت يقود إلى الاغتصاب وإلى الاقتتال وإلى الموت وإلى الافتراس!! فهي باقية في هذه البواطن تجري فيها كما يجري "الدم" في الجسد، طالما أن جُدُرالسور ما زالت قائمة، لم تتصدع بعد أو تنهار!! لذا كان من فروض "الحكمة" وقانونها الحكيم أن تقذف في فترات متباعدة، قد تطول وقد تقصر،
لتعود مرة أخرى من خلال مواد الترميم- أي "الأكل" - وهكذا دواليك..

وفي قذفهـا- كما ندرك - شعورعميق بـ "اللذة" مقروناً بآخر أكثر عمقاً هو "الألم" - وهما القطبان وحال التنازع القوي في هذا الحيوان وهذا الإنسان ما دامت أنفاس الحياة تخرج من منخريهما!! -

أزمنة الحياة أربعة

ونحن نختم هذا البيت لابد من الإشارة إلى ما ذكره العلماء من أن أزمنة الحياة أربعة، الأول منها:- (.. هو زمن الحيوانات اللافقارية بكافة أنواعها، ولم تظهر الحيوانات الفقارية إلا بالقرب من نهايته حيث تكاثرت الأسماك اعتباراً من العصر "السيلوري" ..

ويعتبر الزمن الثاني هو زمن الزواحف على اختلافها، كما ظهرت الطيور والحيوانات الثديية غير ذات المشيمة..

والثالث يمتاز بأنه زمن الحيوانات الثديية ذات المشيمة..

والرابع بأنه زمن الإنسان..

هذا وقد قدر علماء الجيولوجيا طول هذا الزمن الرابع بنحو مليون سنة (وفي تقدير آخر بنحو مليوني سنة) تطور خلالها الإنسان وارتقى حتى وصل إلى مظهره الحالي من الناحيتين الجسمية والعقلية، وينقسم هذا الزمن الرابع عادة إلى قسمين هما:-

1/ البليستوسين

2/ والعصر الحديث

وهذا العصر الحديث فإنه يمثل الفترة التي انقضت منذ زوال الجليد، وهي فترة قصيرة قد لا تزيد على عشرة آلاف سنة.. ) ..

وهنالك من أضاف: (.. بأن نضوج "البشر" - ولعله يعني بذلك جميع أنواع الكائنات الحية - قد مرَّ بثلاث مراحل من الخلق هي:

1- المرحلة البحرية

2- المرحلة البحرية البرية

3- المرحلة البرية

لأن في هذه المراحل الثلاث– كما يقول - لا توجد ظلمة واحدة، إنما ثلاث ظلمات، وأن من الخطأ أو الوهم أن نعتقد أن: (.. َخلْقاً مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ..) "الزمر/6" .. تعني غشاء البطن والرحم والخلاص، لأن الجنين في بطن أمه لا تغلفه سوى ثلاثة أغشية وظلمة واحدة، ومهما كان عدد الأغشية فإن الظلمة تبقى واحدة، لأنها لا تعد بعدد الأغشية، فحتى وصل الإنسان إلى هذا الشكل الذي نراه عليه الآن مرت الحياة "العضوية" على الأرض بهذه المراحل الثلاث، ليكون الإنسان هو وليد المرحلة البرية، حيث بدأ التكاثر عن طريق اللقاح بين الذكر والأنثى، أي زوجياً، والجنين في بطن أمه يمر أيضاً بهذه المراحل الثلاث، علماً بأن أساس الخلق أحادي دون قانون الزوجية، فعندما وُجِدَت الحياة على وجه الأرض وُجِدت "خلية" واحدة تكاثرت عن طريق الانقسام الذاتي لا عن طريق التلاقح الزوجي، ثم تطورت بعد ذلك وحيدة الخلية لتصبح كثيرة الخلايا مع اختلافها بالنوع.. ) ..

نقل الخلافــة

وهكذا صارت هذه الحقبة التاريخية الهامة- الطويلة - والتي مازالت تحتل حيِّزاً كبيراً من "ذاكرة" الإنسان و"مخيلته" هي الحقبة التي أكثر فيها الحيوان "الفساد" و"سفك الدماء" والوحشية الضارية والتمرد، حتى صارت كالتوطئة والتمهيد لنقل "الخلافة" من هذه "الحرارة" العنيفة الهوجاء، المضطربة المفترسة، إلى "خليفة" آخر لابد من منحه ما يؤهله ويجعله أهلاً لهذا المنصب الخطير، وإلا كان ضرباً من العبث، وحاشا لله!!

(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) "المؤمنون115" !؟ ..

وهكذا تقرر مجيء الإنسان.. ( آدم ) .. تمام معالم الصورة الكلية وكمالها!!

عليه، من كان من عالم الحيوان من هو "أليفاً" كان من أولئك "الجن" المسلم، يمكن الانتفاع به، كالغنم، والضأن، والبقر، والإبل، وغيرها من المذللات آكلات النبات، وللركوب والزينة، والكثير من المنافع، وما منعت الاستدارة التامة من الله- أي "العقل" - إلا لتذل للإنسان ولا تمتنع عليه مع منحها اليسير من الإدراك..

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ71 وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ72 ) "يسن" ..

ومن كان منهم كافراً كان ذا طبع متوحشٍ شرس، مفسد لا يمكن استئناسه..
"دارون" والقرد والصلة الوثيقة

وإذا انتهى بنا عالم الحيوان إلى مرتبة "القرد" الرئيس التي يحاكي فيها الإنسان من تلقاء نفسه ويشبهه من غير تعليم والتي يبلغ من ذكائه أن يستكفي من التأديب بأن يرى الإنسان يعمل عملاً فيعمل مثله من غير أن يُحوج الإنسان إلى تعب به ورياضة له، وقف عند هذه العتبة ولم يتجاوزها، لأن أية زيادة يسيرة في الإدراك الممنوح تخرجه من أفقه هذا إلى أفق الإنسان الذي يقبل العقل والتمييز والنطق، ومن هنا- أي من بين هذا الفاصل العميق بين هاتين المرتبتين – كما جاء في مقدمة كتاب "أصل الأنواع" لإبراهيم مظهر:- (تمّ العثور على تلك الصلة الوثيقة القائمة ما بين علم الإنسان القديم، وعلم الحيوان القديم (الحفريات، والتشريح، والأجنة) ، لهذا نجد أن بحث "دارون" قد اقتصر على ناحية واحدة من ناحيتي الإنسان، هي تلك الناحية التي تعود بأصله العضوي- أكرر العضوي فقط - إلى عالم الحيوان، وقد أغفل ناحية "النفس" ، (أو بمعنى أدق ناحية "الروح الإلهي" !! ) حيث أنه لم ينفها ولم يثبتها، إنما أثبت فقط أن الإنسان بجسده، وبجسده فقط إنما هو حيوان!! وهو بذلك قد تناول "الروح الطبيعي" وحده.. ) أما ذلك "الروح" الذي من علائقه التحرك والطيران نحو قمم المعارف العليا، والاشتياق إلى العلوم الراقية، والبحث عن "الحكمة" الإلهية- حيث تمام الإدراك وكمال تلألئه - فهذا ما سنلتقي به عند مجيئه في آخر بيوت الوجود الحياتية ، بيت الإنسان!! بيت "الوحي" و "الكتاب" و "النبوة" ،

بيت: (وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) !!؟ ..

انتقال الصفات وثباتهـا

ولا يفوتنا أن نشيرإلى أن هذه الحقبة الحيوانية قد حملت إلى عالم الإنسان مجمل الصفات التي كانت عليها هذه الحيوانات، بمعنى أن هذه الحيوانات- قبل خلق الإنسان - كانت تعيش في نواحي متفرقة من هذه الكرة الأرضية، في ذات القارات التي يعيش عليها اليوم أصناف البشر الإنساني، فالذئاب- مثلاً - كانت تستوطن الأجزاء الشمالية من قارة آسيا، والنمور في أجزائها الجنوبية، والثعابين معظمها في أمريكا الشمالية، وعديمات الأسنان معظمها في أمريكا الجنوبية، والطيور الجارحة في أوروبا، والأسود والقرود ومعظم الحيوانات الأليفة في أفريقيا، الخ.. فهل يمكن أن نضع هذا المقياس كحقيقة نقيس عليها اليوم أنفسنا وما نحن عليه من صفات نحاول تزكيتها بعد مقارنتها بتلك التي كانت في الحيوان في ذات الأمكنة التي نحيا ونعيش عليها نحن الان؟؟!!

وإلا، فما معنى أن يصف الله- سبحانه وتعالى - قوماً بأن جعل منهم قردة وخنازير، وآخرين بالأنعام؟! ولماذا يا ترى وصف النبي- صلى الله عليه وسلم - أناسا يكونون في آخر الزمان، أميرهم كالأسد، وتاجرهم كالثعلب، وغنيهم كالذئب، ومنافقهم كالكلب، ومؤمنهم كالشاة!! ألا يكون في كل هذا مجالاً لتأمل عميق، وبحث جدير بتكبد المشاق !!؟

إلى البيت الأخير "الإنسان" .. وما أدراك ما الانسان!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى