
الدراما العراقية.. الأديب قاتل والليبرالي مشوّه
«المواطن ج» و«فوبيا بغداد» نموذجا
احد الاعمال العراقية التي عرضت في احد مسارح بغداد مؤخرا («الشرق الاوسط»)
لندن: حميدة العربي
ظلت الدراما العراقية طوال اربعين عاما تدور في حلقة مغلقة واحدة هي الماضي، البعيد والقريب، هروبا من الحاضر او تشفيا به، لكن مع رياح التغيير وظهور الفضائيات التي تنتج وتبث من الخارج وجد الكتّاب فسحة لا بأس بها من الحرية، فاجأتهم نفسيا وادبيا.. لذا هيمنت حمى الحاضر على اغلب الاعمال الدرامية وصار الماضي امرا ثانويا لا يهتم به احد الا ما ندر.. فكانت المنافسة، في رمضان الماضي، على اشدها حول الحاضر المعاش، وبقدر ما كانوا يمجدون الماضي وينصرون فيه الخير على الشر، حتى لو كان عكس الحقيقة، بدأوا يلعنون الحاضر ويبرزون الشر كمنتصر وحيد.. فلا مكان للخير في هذا الحاضر، وهكذا اختفى البعد الدرامي - صراع الخير والشر - في الكثير من الاعمال، فامتلأت بأحداث الواقع الدموية، ونقلت مشاهده كما هي، دون تدخل العنصر الفني. في جمهرة المسلسلات العراقية التي ازدحمت في شهر رمضان المبارك الماضي، استوقفت المشاهدين حالتان غريبتان عليهم وليس على صانعيها. الاولى في مسلسل «المواطن ج»، حيث قدم المسلسل صورة مفجعة عن شخصية الاديب «الروائي» الذي قتل زوجته بتهمة تافهة دون التأكد من حقيقة تلك التهمة، فإذا كان الكاتب وهو قدوة المجتمع ومثاله الايجابي، يتصرف بهذه الهمجية دون ان يحقق مع المتهمة او يجهد نفسه بالبحث عن الحقيقة - اليس مهمته كأديب هي البحث عن الحقيقة؟ - وهو المتمكن من ادواته ومقدرته على البحث والاستقصاء والتحري - باعتباره اديبا - فماذا يفعل الجهلة والظلاميون اذن؟ ان ذلك الاديب، في المسلسل، ارتكب فعلته الشنيعة هكذا ببساطة لمجرد انه شكّ في المرأة، حين وجد قطعة ذهبية في حقيبتها ورفضت اخباره عن مصدرها.. هل يستوجب هذا الفعل، التافه، الواهي، القزم.. هكذا رد فعل هائلا مثل القتل؟
لا يختلف الرجال في تعاملهم مع المرأة حين يتعلق الامر بما يسمى الشرف... الفرق الوحيد بينهم هو ان الاديب «المثقف» لا تصل مشاعره الى حد الوحشية.. قد يحقد على المرأة ويؤذيها ايّما ايذاء لكنه لا يرتكب جريمة تثبّت ضده ماديا وقانونيا وتلاحقه اجتماعيا وادبيا.. لكن الكاتب رجل قبل ان يكون كاتبا، وهو نتاج المجتمع الذكوري الذي ينتمي اليه وجزء منه وبالتالي فهو يحمل نفس نظرة المجتمع المتخلفة عن المرأة ويقف منها نفس موقف المجتمع الظالم لها عندما يوضع على محك ما. لكننا نعرف ان الاديب لا يصل الى درجة الادب ولا يصدر اولى كتاباته الا بعد ان يكون قد مر بالعديد من التجارب الحياتية الغنية وقرأ عشرات او مئات الكتب في مختلف العلوم والآداب الانسانية، ولابد ان هذا الكم من التجارب والعلوم والكتب قد هذب نفسه وروّض بدائيته ولذا اصبح من الصعب تخّيل ان يرتكب الاديب جريمة مثل القتل!. اما عن الشك فهو احد صفات الاديب، والشك هنا هو البحث والتحري والتحليل والاستقصاء وليس سوء الظن بالآخرين، لذا فالمفروض ان لا يوصله هذا الشك الى ارتكاب الجرائم. اما عن الاديب في المسلسل فكان من اللاانسانية بدرجة انه ما احتاج الى ذنب عظيم ليقتل، بل مجرد اسورة في حقيبة امرأته ايقظت الوحش الكامن في داخله فمزقها بالسكين دون ان يكلف نفسه مهمة البحث عن دليل واحد يثبت ادعاءه خيانتها، لقد حكم عليها بالموت على فعل اقل ما يقال عنه، انه لا يساوي رد الفعل. اليس الاجدى بالمؤلف ان يظهر لنا الاديب في حالة شك وتشتت فكر حول عفاف امرأته وهناك جاهل ما يحرضه على قتلها وهو يمتنع ويتردد لكون الفعل الذي قامت به لا يستحق هذا العقاب الشديد؟ كما حصل لعطيل مثلا، الذي لم يكن اديبا.. لكنه، مع ذلك، احتاج الى كل التحريض الشكسبيري، لكي يقتل ديدمونة.
يقينا ان الذي كتب تلك الحالة وخلق تلك الشخصية هو الرجل وليس الاديب «المؤلف» وصورها كما يريد الرجل والمجتمع لا كما يريد الاديب «المؤلف» حيث عاد الرجل الى حقيقته «البدائية» لا تمدن ولا ادب ولا روح اجتماعية ولهذا حكم على المرأة حكم الرجل الذي هو حكم المجتمع المعروف بقسوته وظلمه، ووجد المؤلف مخرجا.. اتفق معه جملة وتفصيلا والدليل هو الصورة الاخراجية وبشاعة التنفيذ، وقد اداها الممثل بكل ما في الجاهل من حقد وبدائية، لقد انهال عليها طعنا وتمزيقا وكأنه يضمر لها حقدا وكراهية تراكما على مدى سني عمره.. ولعله تواطؤ بين الثلاثة، المؤلف والمخرج والممثل، لايصال رسالة الى كل النساء.. ان هذا هو مصيركن مع اي خطأ ترتكبنه.. فانتبهن لا فرق عندنا بين خطأ بسيط او عظيم.
لا اريد ان اقول ان الكاتب اعطى الضوء الاخضر للرجال لكي يقتلوا نساءهم.. فهم يفعلون ذلك دون حاجة لاي ضوء! الا انه بالتأكيد ايدهم ودعم موقفهم وشجعهم على الاستمرار، عبر شخصية ذلك الاديب القاتل، وقال لهم اقتلوا نساءكم لأتفه الاسباب من دون اعطاء الفرصة للدفاع.. او اثبات البراءة او الاتهام.. ثم ابحثوا بعد ذلك عن الحقيقة ان شئتم.
ان الكاتب يعرف، حتما، ان لحظة واحدة تفصل بين الارادة «ان تريد شيئا» والتنفيذ، عند تلك اللحظة يتميز العالم من الجاهل والانسان من الوحش.
المعروف عن مؤلف المسلسل انه يكتب اعمالا مسرحية «حوارية» قليلة الاحداث والمنعطفات الدرامية، واظنه عمله التلفزيوني الاول، لذا ركز على الحوارات الداخلية واهمل، في بعض الخطوط، الحبكة القصصية.. فكان الاهتمام بالحدث اكبر من الحدث نفسه، وجاءت ردود الافعال اعظم من الافعال نفسها كما في حكاية ذلك «الاديب القاتل»، ولكن كيف سمح المؤلف لخياله - وهو الاديب - ان يظهر الاديب بهذه الصورة البشعة ويشوّه صورته ومكانته؟.. اذا كان قصد المؤلف ان يبرز لنا الظلم الواقع على المرأة ويؤكد استهدافها لأتفه الاسباب فكان عليه ان يقتلها على يد متخلف او جاهل كما هو في الواقع، لا ان يفعل ذلك على يد اديب، واذا كان يقصد ان هذا الفعل نتيجة الضغوط النفسية والموضوعية الواقعة على الاديب فهذا يعني، حسب نظريته، ان العراقيين كلهم سيتحولون الى قتلة، لأنهم تعرضوا جميعاً لضغوط نفسية وموضوعية مختلفة.. وكأنه يبرر القتل تحت ظروف معينة.. وفي كل الاحوال فانه قد شوّه صورة الاديب وبرأ من يستهدفون المرأة فعلا.
اذا كان الاديب بهذه الافكار السوداء والنزعات البدائية والملامح اللانسانية، فسيكون من العار ان يطلق عليه صفة اديب.
اما الحالة الاخرى فهي في مسلسل «فوبيا بغداد» الذي اعتبره الأقل دموية والاكثر هدوءا بين المسلسلات العراقية. طرح هذا العمل شخصية الليبرالي، التي جسدها الفنان جواد الشكرجي، واظهره وكأنه الوحيد الذي يتعامل مع الاحتلال «الاميركان» ويتعاون معه «بصفقات تجارية» ويستعمل نفس الاساليب والممارسات اللاانسانية للارهابيين والجلادين في استخلاص الاعتراف من الآخرين، وقد كانت صفقاته التجارية اهم من حياة عائلته... كما اظهره المسلسل - وبوضوح - شخصا جافا، حاد الطبع، بلا قلب.. لا يهمه مصير عائلته وخوف زوجته على حياتها، وسط الجحيم العراقي، فقد هددها بالطلاق ان هي غادرت المنزل لحماية نفسها.. ونحن نعرف والمؤلف كذلك ان الليبرالي - الحقيقي- لا يمارس اسلوب الضغط والتسلط على نسائه، الزوجة او البنات، بل بالعكس سيسارع هو الى اخلاء عائلته بعيدا عن الخطر، والا فمن هم هؤلاء الاربعة ملايين الذين هجروا بيوتهم واملاكهم ووطنهم.. ولماذا فعلوا ذلك؟ اليس حفاظا على حياة عائلاتهم؟.
لقد وضع المؤلف كل سيئات الآخرين في شخصية ذلك الليبرالي. المؤلف يعرف ان الكثير من السذج تنطلي عليهم حكاية ان من يتعامل مع الاحتلال فهو انسان سيئ وطامع وربما خائن. وتناسى ان رجال الشرطة والجيش مثلا، يتعاملون مع الاحتلال وليس لديهم مطامع او مصالح شخصية معينة وليسوا اناسا سيئي الطباع او الاخلاق.. وليسوا خونة.
ربما يعّبر المؤلف عن موقف شخصي من الليبراليين.. والا ما معنى تشويه صورة الليبرالي واظهاره كأنه الوحيد في ذلك البلد الذي يتعامل مع الاميركان؟ وتناسى - مرة اخرى - ان الحكومة والبرلمان والاحزاب الحاكمة والدولة العراقية كلها تتعاون مع الاحتلال وهي التي جاءت به، وهي التي تتوسل لكي يبقى حتى استتباب الامن... يعني الى اجل غير مسمى. ثم لماذا اعطى المؤلف تلك الشخصية صفة الليبرالي، ولم يمنح بقية الشخصيات اي صفة او توجها او انتماء - لخلق صراع فكري وآيديولوجي مثلا - لماذا لم يجعله شخصا عاديا «اي مقاول» ينتهز ظروف الاحتلال والتشرذم لتحقيق مصالحه الشخصية.. او ان يكون من الاحزاب الحاكمة مثلا، عندها سيكون تشخيصه واقعيا او اقرب الى الواقع؟ اليس في تقديم هذا النموذج السلبي على انه ليبرالي يثير الشك في نوايا المؤلف؟.. فاذا كان موقفا شخصيا.. فإن المؤلف يعرف تماما ان الليبراليين، حاليا، يقفون في آخر صف المتعاونين مع الاحتلال، واذا كان يتجنب الاشارة الى المتعاونين الحقيقيين مع الاحتلال - بغض الطرف عنهم - فهو بطرحه هذا يبعدهم عن الصورة ليسلموا من النقد والاتهامات، لذا وجد في الليبرالي الحائط المنخفض الذي ليس لديه جهة تدافع عنه ولا ميليشيات تحميه.. فخلق بذلك شخصية ادّعى انها من الواقع.. والواقع يقول عكس ذلك لأن الليبراليين هم الاقل حضورا وتأثيرا في الساحة العراقية، سواء كان ذلك سلبا ام ايجابا.