الرمزية الميثولوجية في شعر محمود درويش
في هذه المدينة اللزجة صيفاً حين تنعطف الى اليمين من الشارع التاسع والخمسين باتجاه المركز الطبي في هيوستن ينتابك حزن عميق، فقبل عام من الآن في التاسع من آب عام 2008 توفي الشاعر محمود درويش في غرفة العناية المركزة في مستشفى ميموريال هيرمان الشاخص الآن أمام عينيك، وهناك على يسارك يسترخي متنزه هيرمان الذي تمشى فيه الشاعر قبل رحيله بأيام. إنها غيمة الحزن الدائمة هذه التي تظلنا نحن سكان هيوستن كلما مررنا بمنطقة المركز الطبي، وكأنه جرح سيبقى في ذاكرة المدينة وذاكرة سكانها العرب الى الأبد، فهنا مات شاعرنا. كم كنا نتمنى أن يغادرنا سليماً معافى، ولكن العناية الإلهية شاءت أن تنتهي حياته بين أيدينا وفي يوم سبت، وكأنه كما الماء انساب من بين أصابعنا ولم ننتبه. لم نكن سبباً في وفاته، ولكننا ما زلنا، وربما سنبقى، نحمّل أنفسنا ذنباً لم نقترفه.
من مآثر محمود الكثيرة أنه يحاصرني في شوارع المدن، فقبل ربع قرن أذكر أنني قابلته فجأة في أحد شوارع موسكو في منطقة مسارح وسط المدينة، حيث كان أحد المسارح يعلن عن تقديم مسرحية المحاكمة المستوحاة من رواية المحاكمة لكافكا. وعندما قرأت اسم كافكا داهمني محمود فوراً، فقد كان السبب في بحثي عن أدب كافكا حين ذكره في قصيدة بيروت (1982):
(ووجدتُ كافكا تحت جلدي نائماً/ وملائماً لعباءة الكابوس، والبوليس فينا)
كان يستفزني ويتحداني في قصائده للبحث عن تلك الشيفرة الثقافية التي يستودعها في نصوصه، مثل شيفرة كافكا: ماذا أراد أن يقول؟ ما هو المعنى في هذا البيت؟ ما علاقة كافكا؟ بل من هو كافكا هذا؟ كنت أسأل نفسي قبل ثلاث سنوات من مداهمته لي في شارع مسرح الاوبيريت، الأمر الذي دفعني الى قراءة فرانز كافكا (1883 – 1924) حتى لو كان ذلك باللغة الروسية.
وهكذا على طول رحلتي مع شعر محمود كان يتحدى ثقافتي ومعرفتي، ويجبرني على البحث والتقصي عن الرمزيات الثقافية التي كان يُكثّف بها معاني نصوصه، وأهمها بالنسبة لي كانت الرموز الميثولوجية. وعلي أن أعترف الآن أمام حضور غيابه الشاهق أنه كان السبب في شغفي المزمن بالميثولوجيا والانثروبولوجيا والأركيولوجيا. لهذا ارتأيت أن أكتب عن رمزية الميثولوجيا في شعر محمود درويش بمناسبة مرور عام على رحيله، علني أرد له بعضاً من الجميل. ولكن قبل البدء أود أن أشير الى بعض النقاط المهمة، الأولى هي أنني لست بصدد قراءة الرمزية الميثولوجية عند محمود قراءة سياسية كما فعل بعض النقاد في دراسة الرمزية التوراتية عند محمود، لأن ما يهمني من محمود هو الابداع الأدبي الشعري، وأنا لا أرى في شعره بياناً سياسياً وإن كان لقصائده امتداد سياسي. والثانية هي أنني سأستخدم مصطلح ميثولوجيا كمصطلح شامل يشمل اساطير الشعوب والقصص الفولكلورية والديانات. والثالثة أنني لست بصدد اعطاء نقد أدبي ينتمي الى هذه المدرسة الادبية أو تلك، وانما بصدد عرض فهمي وانطباعي الشخصيين للرمزية الميثولوجية عند محمود، فأنا أصلاً لست متخصصاً في الأدب وإنما في أبعد ما يكون عن الأدب: المعادلات التفاضلية والهندسة والمياه والبيئة.
في احدى المقابلات سُئل محمود عن كيفية قراءته للتوراة فأجاب بأنه "لا ينظر الى التوراة نظرة دينية وانما يقرأها كعمل أدبي وليس دينياً او تاريخياً". وهنا يكون محمود قد وضع قدمه على المسار الصحيح في التعامل مع الكتاب المقدس خصوصاً والأديان والميثولوجيا عموماً، حيث بامكاننا القول أنه ينتمي الى مدرسة المُقلّين التي ينتمي اليها أصحاب كوبنهاغن وعلى رأسهم استاذ الكتابيات توماس تومسون. وهذا المسار يجعل من محمود مثقفاً وأديباً بامتياز كون الأدب يبدأ من ملحمة جلجامش حيث بدأت الحضارة في سومر، وما الأدب سوى اعادة انتاج الميثولوجيا باستمرار، إنه اعادة التأليف أو التوليف كما يقولون. ولهذا عندما يتحدث محمود في شعره عن رمزية ميثولوجية ما فهو لا يتحدث عنها ليتقرب من أصحابها ويتودد اليهم كما ذهب بعض النقاد، وإنما لأنه يُعيد توليف الحكاية بتكثيف المعنى المكتنز في الرمزية الميثولوجية لما تتمتع به من قوة ساحرة وآسرة كونها جاءت من نتاج جمعي قامت به جماعة ما على مدى فترة زمنية طويلة نسبياً.
الرمزية التوراتية
إذا ما أردنا أن نتتبع الرمزية الميثولوجية عند محمود حسب التصاعد الزمني لأعماله الشعرية نجد أنه وظفها في بداياته الأولى في مجموعته الشعرية عاشق من فلسطين (1966) في قصيدة أبي، حيث يقول:
"في حوارٍ مع العذاب/ كان أيوبُ يشكرُ/ خالقَ الدودِ والسحاب"
حيث نلاحظ هنا أنه كان مطلعاً على الكتاب المقدس، فأيوب الذي يتحدث عنه محمود هو أيوب التوراتي بدليل استخدامه لكلمة دود التي ترد في سفر أيوب في الاصحاح السابع، ولا عجب في ذلك ففي تلك الفترة كان محمود يعيش في داخل الأرض المحتلة وكان بحكم دراسته خاضعاً لمنهاج اسرائيل وبرامجها التي كانت تعلم الطلاب أسفار العهد القديم باللغة العبرية، كما صرح محمود في احدى مقابلاته. ولكن ما يهمنا هنا هو أن محمود يتعامل مع النص التوراتي في سفر أيوب معاملة أدبية، فهو يرى فيه نصاً أدبياً يعالج ثيمة الصبر والابتلاء والخلاص بالإيمان، فيفكك الشاعر النص من التوراة ويعيد تركيبه في قصيدته بحكم تشابه المعاناة التي يعيشها الشاعر بالمعاناة التي عاشها أيوب (او ما يسمى أدبياً بالتناص)، وكأنه يعيد توليف الحكاية، لأنه كان واعياً بأن القصة التوراتية نفسها لم تكن سوى اعادة توليف من أدب سابق على العهد القديم، فاستاذ السومريات، كرامر، قد قام بترجمة صلاة سومرية قديمة تشبه قصة أيوب، هذه الصلاة السومرية تتحدث عن ما أصبح يُعرف بأيوب البابلي. ولكن لماذا اختار الشاعر توظيف رمزية ايوب الميثولوجية؟ الجواب في نظري هو لما تتمتع به هذه الرمزية من قوة ساحرة وآسرة، فهي من ناحية معروفة للكبير والصغير بحكم اعادة توليفها مسيحياً واسلامياً وفولكلورياً، ومن ناحية ثانية فإن كثافتها الدلالية وفرت على محمود الكثير من الجهد لعرض معاناته، أو كما يقول نقاد الأدب جنّبته الحشو والضجيج اللغوي، فأوصل المعنى المراد بأقصر الطرق وأبلغ الدلالات. هذا بالإضافة الى حمل معاناته الشخصية والوطنية الى مستوى العالمية والانسانية كون رمزية أيوب رمزية عالمية.
في مجموعته العصافير تموت في الجليل (1969) في قصيدة ضباب على المرآة يستضيف محمود النبي إرميا من التوراة في عملية تناص شائكة بعض الشيء تنم عن عمق معرفي بالعهد القديم:
"لم أجد جسمكِ في القاموس/ يا مَن تأخذين/ صيغة الأحزان من طروادة الأولى/ ولا تعترفين/ بأغاني إرميا الثاني.."
فرغم وضوح التناص بين احتلال القدس الفلسطينية وبين سقوط طروادة الاغريقية إلا أن هوية إرميا الثاني تبدو مربكة بعض الشيء، لولا أن الشاعر أسعفنا بإشارته الى الأحزان، وكأنه يتحدث عن مراثي إرميا، وهي مراثي تبكي سقوط اورشليم في قبضة البابليين عام 586 ق.م. تم جمعها في نهاية سفر النبي ارميا كونها ليست لإرميا نفسه، ولهذا استخدم محمود اسم إرميا الثاني، وهو تناص داخلي، إن صح التعبير، مع اشعيا الثاني كما هو معروف لدى فقهاء الكتاب المقدس (بعكس مصطلح ارميا الثاني الذي لا يستخدمه علماء الكتاب المقدس، بل نحته محمود على ما يبدو من عملية تناص داخل التوراة نفسها). لقد استفاد الشاعر من رمزية طروادة ومراثي إرميا ليُغني المعنى المراد من النص بكثافة التثاقف أولاً وببلاغة البياض المتروك للقارئ العارف بقصة كل من حروب طروادة والسبي البابلي ثانياً.
وبما أننا تطرقنا لذكر النبي أشعيا فلا بد لنا من استعراض توظيف رمزيته في قصائد محمود، حيث يقول في قصيدة بيروت (1983):
"أنادي أشعيا/ أخرجْ من الكتب القديمة مثلما خرجوا/ أزقة أورشليم تعلّق اللحم الفلسطيني فوق مطالع العهد القديم/ وتدّعي أن الضحية لم تغير جلدها/ يا أشعيا لا ترثِ/ بل أهجُ المدينة كي أحبك مرتين"
ولا شك أن شغف محمود بإرميا وأشعيا له ما يبرره، فهما من أنبياء الحصر المحوري كما يقول فقهاء الكتاب المقدس، وقد أحدثا ثورة لاهوتية في الفكر اليهودي، وذلك بتطوير مفهوم الألوهة، فلم يعد الإله الاسرائيلي يهوة إلهاً قبلياً عسكرياً (رب الجنود)، بل أصبح شبيهاً بالله الكوني المحب لجميع البشر. فهل هذا ما قصده محمود بقوله "اخرج من الكتب القديمة"؟. إن استضافة محمود لإرميا وأشعيا تعني في ما تعني رفضه للعسكرة والحروب المقدسة التي تشن باسم الدين والآلهة تماماً كما رفض إرميا وأشعيا الحروب. وكما في التناص السابق مع إرميا يعقد الشاعر هنا تناصاً بين سقوط أورشليم وبين حصار بيروت، ففي كلا الحالتين دفع الفلسطيني الثمن، لهذا يدعو محمود النبي إشعيا أن لا يرثي أورشليم كما فعل في سفره بل يدعوه الى أن يهجو أورشليم الآثمة (حسب أشعيا) التي تسببت بإثمها بتعليق اللحم الفلسطيني مرتين (حسب محمود)، مرة في زمن أشعيا، ومرة في حصار جيش الاحتلال "الأورشاليمي" لبيروت في زمن محمود.
ثيمة الاحتلال والتهجير والأسر (السبي) تأخذ من محمود الكثير من العناية في قصائده، فهو يستحضر قصة السبي البابلي في عملية اسقاط على الحاضر، يقول الشاعر في مجموعة أحبك أو لا أحبك (1972):
"ونغني القدسَ/ يا أطفال بابلْ/ يا مواليد السلاسل/ ستعودون الى القدس قريباً/ وقريباً تكبرون/ وقريباً تحصدون القمح من ذاكرة الماضي/ قريباً يصبح الدمع سنابل/ آه يا أطفال بابل"
فلم يقل الشاعر: ونغني القدس يا أطفال القدس او فلسطين، بل قال يا أطفال بابل، وهي عملية قفز فوق الزمن باستحضار الماضي حيث هُجّر أبناء يهودا الكنعانية الى بابل، وكذا حال الفلسطيني المعاصر. وبما أن أبناء يهودا عادوا من السبي البابلي كذلك سيعود أبناء فلسطين لأنهم سيحصدون القمح من ذاكرة الماضي. والشاعر نفسه عانى من التهجير والأسر (الاعتقال)، فكان توظيف رمزية السبي الى بابل خير تعبير عن مأساة الشاعر وشعبه. ولا أظن أن محمود قد فاته أن الاسرائيلي المعاصر لا علاقة له بيولوجياً بأبناء يهودا اللذين تم سبيهم الى بابل، فهو كان واعياً تماماً لحقيقة أن تاريخ يهودا وثقافتها جزء من التاريخ الفلسطيني وثقافته، كما هو واضح من قوله في قصيدة بيروت (1983):
"وأحملُ أرضَ كنعان التي اختلف الغزاة على مقابرها/ وما اختلف الرواةُ على الذي اختلف الغزاة عليه"
ففي هذا النص يبدو محمود واعياً للثقافة الكنعانية الشاملة وأن الرواة (التأليف والتوليف) لم يختلفوا على ثقافة أرض كنعان، بل الخلاف جاء من تسييس الروايات لصالح مشروع سياسي استيطاني (الغزاة). وما يؤكد هذا الاستنتاج قول الشاعر في مجموعة العصافير تموت في الجليل (1969) في قصيدة بعنوان المزمور الحادي والخمسون بعد المئة:
"والمزامير صارت حجارة/ رموني بها/ وأعادوا اغتيالي/ قرب بيارة البرتقال/ صار جلدي حذاء/ للأساطير والأنبياء"
فالشاعر يتعامل مع مزامير داود على أنها مزاميره ومزامير شعبه، بمعنى أنها من منتجات الثقافة الكنعانية وإن تم نسبها توراتياً الى النبي داود، فهذا النسب ليس إلا من أساطير الأنبياء، أو هو إعادة توليف النص الأدبي الكنعاني القديم، فمن المعروف من الاكتشافات الأثرية في الساحل الكنعاني الكبير (من شمال سوريا الى جنوب فلسطين) أن مزامير داود ليست إلا ابتهالات وأغاني فولوكلورية كنعانية قديمة، وحتى رافدية تم اكتشاف مثلها في العراق. إن تعامل الشاعر مع النصوص التوراتية على أنها نصوص ثقافته واضح في قوله في قصيدة شتاء ريتا من مجموعة أحد عشر كوكباً (1992):
"لي حصةٌ من مشهد الموج المسافر مع الغيوم، وحصةٌ/ من سفر تكوين البداية، حصةٌ من سفر أيوب، ومن/ عيد الحصاد"
فهو هنا يجمع سفرين من العهد القديم، التكوين وأيوب، وعيد الحصاد الكنعاني. ويتضح لنا أكثر كيف أن محمود يتعامل مع النصوص الدينية على أنها نصوص أدبية يُعيد العقل الجمعي إعادة انتاجها باستمرار. يقول محمود بهذا الصدد: "إن النضج الأدبي هو أن نتذكر أسلافنا وأن نشعر بأن وراء هذا النص الشعري أسلافاً.. في كل شاعر تاريخ الشعر منذ الرعويات الشفهية الى الشعر المكتوب، من الشعر الكلاسيكي الى الشعر الحديث". كما يجدر بنا التأكيد هنا على عمق معرفة محمود بالكتاب المقدس، فالمزامير عددها مائة وخمسون مزموراً، الأمر الذي دفع محمود الى تسمية قصيدته هذه بالمزمور الحادي والخمسون بعد المئة، وكأن الشاعر يصر على التعامل الأدبي مع الكتاب المقدس، فهو من ناحية يعتبر هذه المزامير انتاجاً جمعياً لأجداده الكنعانيين، ومن ناحية أخرى ها هو الشاعر نفسه يشارك في هذا الانتاج فيضيف مزموراً جديداً لمجموعة المزامير. هذا الوعي الدرويشي بالأدب الكنعاني يقوله محمود بصراحة في قصيدة مأساة الفضة وملهاة النرجس من مجموعة أريد ما أريد (1990):
(توراة كنعان الدفينة تحت أنقاض الهياكل بين صور وأورشليم)
فالتوراة بالنسبة لمحمود عمل أدبي كنعاني يُعيد توليف الحكايات الكنعانية إياها مع التركيز على نفس الثيمات والموتيفات الأدبية التي كانت وما زالت تشغل الحيز الأكبر من فكر الإنسان وانتاجه الديني الجمعي، إلا أن الشاعر يرفض خطف هذا الأدب الكنعاني من قبل جماعة دينية معينة، لذلك استخدم كلمة "أنقاض الهياكل" وما يعنيه ذلك من انهيار عملية الخطف هذه وانفضاح أمرها، مع الإشارة الى ما تحمله الكلمة من عمل أركيولوجي. وهذا ما يؤكد على علو شأن الرمزية عند محمود وقوتها، فاستخدامه لـ"أنقاض الهياكل" كان موفقاً بامتياز نظراً للإحتقان الهائل للرمز فيها. ولا يكاد القاريء يلتقط أنفاسه من هذه الرمزية حتى ينهال عليه الشاعر برمزية أخرى لا تقل إحتقاناً، إنها الثنائي صور وأورشليم، فمن ناحية تفصح هذه الثنائية عن كنعانية التوراة، ومن ناحية ثانية عن كنعانية الهيكل الأوشليمي الذي بناه مهندسو صور الكنعانية (سأتجنب هنا استعمال مصطلح فينيقيا كونه مسمى إغريقي لبلاد كنعان). هذا الوعي نراه أيضاً في نفس المجموعة الشعرية في قصيدة ربّ الأيائل يا أبي ربّها، حيث يقول الشاعر:
"فانهضْ يا أبي من بين أنقاض الهياكل، واكتبْ/ اسمكَ فوق خاتمها كما كتبَ الأوائل، يا أبي، أسماءَهم"
فمحمود هنا يستعمل رمزية الأب بما تحمله من معاني الجذور المترسخة، داعياً هذه الجذور أن تنفض عنها ركام الهياكل لتتضح الحقيقة. وسيدخل محمود في صراع على ذاكرة المكان كما سيمر معنا لاحقاً.
وتجاوز محمود رمزية الهيكل الى توظيف رمزية سليمان في قصائده، ففي قصيدة خطبة الهندي الأحمر من مجموعة أحد عشر كوكباً، يقول الشاعر على لسان الهندي الأحمر مخاطباً السيد الأبيض:
".. وأشعار كنعان والبابليين، تنقصُكُم/ أغاني سليمان عن شولميت.."
فأغاني سليمان بالنسبة لمحمود ليست إلا من أشعار الشرق الأوسط القديم (كنعان وبابل)، وهو هنا يشير الى سفر نشيد الأناشيد الذي لسليمان من العهد القديم من الكتاب المقدس، وهي مجموعة من أناشيد الحب والغزل العذري والفاحش تذكّر علماء الميثولوجيا بأغاني الكنعانيين المعنية بالخصب، فسليمان يبدو كإله خصب (بعل الكنعاني) وشولميت (صيغة المؤنث لسليمان لغوياً) تبدو إلهة الخصب المؤنثة. وقد اكتشف علماء الآثار صلوات كنعانية في أوغاريت تتطابق مع بعض أناشيد سليمان. إلا أن الشاعر يتجاوز استخدام رمزية سليمان الثقافية الكنعانية الى حالة من التناص الخاص بينه وبين سليمان في معرض تفكير الشاعر بمعنى الموت والحياة والوجود في مُطولته الرائعة "الجدارية" (1999)، حيث يبدو محمود مغرماً بسفر الجامعة المنسوب أيضاً لسليمان، وهو مجموعة من الحكم، يقول الشاعر:
"وكل شيء باطلٌ أو زائل، أو/ زائل أو باطل/ من أنا؟/ أنشيدُ الأناشيد/ أم حكمةُ الجامعة؟/ وكلانا أنا../ وأنا شاعرٌ/ وملِك/ وحكيمٌ على حافة البئر"
فمحمود في الجدارية حين "طار به الموت نحو السديم" على حد تعبيره يستدعي حكمة سليمان في سفر الجامعة، فقد كان سليمان ملكاً وحكيماً وشاعراً ووصل الى ذروة المجد، إلا أنه في النهاية اعترف بأن كل شيء باطل وزائل: "باطل الأباطيل يقول الحكيم. باطل الأباطيل، كل شيء باطل" (سفر الجامعة، 1 – 2). وكذلك محمود في تجربته مع الموت اختار حكمة سليمان، لهذا يستعمل جملة "باطل، باطل الأباطيل باطل" كلازمة يعيد تكرارها في القصيدة تماماً كما هو الحال في سفر الجامعة. ويتعمق محمود في سفر الجامعة أكثر ويعيد توليف بعض من نصوصه بما يخدم تصوره الخاص، وكأنه يشارك في نسج ثوب الحكمة الشرق أوسطية، فنراه يقول في الجدارية:
"عشتُ كما لم يعش شاعر/ ملكاً وحكيماً../ هرمت، سئمت من المجد/ لا شيء ينقصني/ ألهذا إذاً/ كلما زاد علمي/ تعاظم همّي؟/ فما اورشليم وما العرش؟/ لا شيء يبقى على حاله/ للولادة وقت/ وللموت وقت/ وللصمت وقت/ وللنطق وقت/ وللحرب وقت/ وللصلح وقت/ وللوقت وقت/ ولا شيء يبقى على حاله../ كل نهر سيشربه البحر/ والبحر ليس بملآن/ لا شيء يبقى على حاله/ كل حي يسير الى الموت/ والموت ليس بملآن/ لا شيء يبقى سوى اسمي المَذهّب/ بعدي: / "سليمانَ كان".. / فماذا سيفعل موتى بأسمائهم/ هل يضيء الذهب/ ظلمتي الشاسعة/ أم نشيد الأناشيد/ والجامعة؟"
هكذا يتعامل محمود مع التوراة والكتب المقدسة تعاملاً أدبياً، فيرى فيها توليفات (روايات) قامت بها الجماعة للتعبير عن همومها وانشغالاتها، وهذه التوليفات ليست إلا اعادة انتاج روايات ميثولوجية سابقة عليها، لهذا اعتبر محمود التوراة جزءاً من تراثه، ورأى أن من مهمته كشاعر ينتمي لأرض فلسطين أن يشارك في اعادة توليف الروايات، فكانت الاقتباسات والرمزيات التوراتية جزءاً من عملية إعادة التوليف هذه.
الرمزية المسيحية والاسلامية
في قصيدة الجدارية وأمام تجربة الموت الرهيبة يقف محمود بين تجربة السيد المسيح عليه السلام وتجربة سليمان الحكيم، فيختار حكمة سليمان كما مر معنا أعلاه، ربما لأنه وجد صعوبة في اختيار تجربة قيامة المسيح، ولهذا نراه يقول:
"مثلما سار المسيحُ على البحيرة/ سرتُ في رؤيايَ. لكني نزلتُ عن/ الصليب لأنني أخشى العلوّ، ولا/ أبشّرُ بالقيامة.."
فتجربة محمود بشرية، بعكس تجربة المسيح الإلهية، لهذا يقول الشاعر في نفس القصيدة نافياً عن نفسه امكانية الخلود على طريقة المسيح:
"وانتظرْ/ ولداً سيحمل عنك روحك/ فالخلود هو التناسل في الوجود"
ومما لا شك فيه أن شخصية السيد المسيح لها حضور كبير في قصائد محمود، فالتشابه كبير بينهما، فكلاهما من الجليل، وكلاهما تعرض للإضطهاد، وكلاهما رأى في الفداء خلاصاً، ولهذا نجد رمزية المسيح في قصائد محمود المبكرة، ففي قصيدة قال المغني من مجموعة عاشق من فلسطين (1966) يقول الشاعر:
"المغني على صليب الألم/ جرحه ساطع كنجم/ قال للناس حوله/ كلّ شيء.. سوى الندم/ هكذا متّ واقفاً/ واقفاً متّ كالشجر/ هكذا يصبح الصليب/ منبراً او عصا نغم/ ومساميره وتر"
بهذه الطريقة يعيد محمود توليف الحكاية في عملية تناص بين فداء المسيح من أجل الخلاص وبين الموت وقوفاً من أجل النصر. إلا أنه بعد سقوط القدس عام 1967 يصبح لمعنى الصليب بعداً آخراً هو المحبة والعطاء والخير، كما هو في قصيدة أغنية حب على الصليب من مجموعة آخر الليل (1967) التي يخاطب فيها مدينة القدس أو مدينة كل الجروح الصغيرة كما يقول في مطلع القصيدة:
"أحبكِ، كوني صليبي/ وكوني، كما شئتِ، برجَ حمام/ إذا ذوّبتني يداك/ ملأت الصحارى غمام"
عملية التوليف الشعري تنهال على محمود بغزارة في قصيدة مديح الظل العالي (1983) التي كتبها عن حصار بيروت، وكأن قساوة الحصار والحرب قد أخرجته عن طوره فإذا بالتوليف وكأنه وحي ينزل عليه من السماء، وذلك بتوليف قرآني من سورة العلق وانجيلي عن المسيح الفادي الذي سيهدم هيكل جسده ويبنيه في ثلاثة أيام:
"الله أكبر/ هذه آياتنا فاقرأ/ باسم الفدائي الذي خلقا/ من جرحه شفقا/ باسم الفدائي الذي يرحل/ من وقتكم.. لندائه الأول/ الأولِ الأول/ سندمر الهيكل/ باسم الفدائي الذي يبدأ/ اقرأ.. / بيروت صورتنا/ بيروت سورتنا"
التوليف القرآني من سورة يوسف والكتابي من سفر التكوين نجده عند محمود في قصيدة أخرى بحكم التناص بين قضيته وقضية شعبه التي تخلى عنها العرب وبين تخلي أبناء يعقوب عن أخيهم الصغير يوسف بعد أن غدروا به وأودعوه البئر، يقول الشاعرفي قصيدة أنا يوسف يا أبي من مجموعة ورد أقل (1986):
"أنا يوسف يا أبي، يا أبي اخوتي لا يحبونني، لا يريدونني بينهم يا أبي، يعتدون علي ويرمونني بالحصى والكلام، يريدونني أن أموت لكي يمدحونني، وهم أوصدوا باب بيتك دوني، وهم طردوني من الحقل، هم سمموا عنبي يا أبي... فماذا فعلت أنا يا أبي، ولماذا أنا؟، أنت سميتني يوسفاً، وهمو أوقعوني في الجب، واتهموا الذئب، والذئب ارحم من اخوتي.. أبتِ! هل جنيت على أحد عندما قلت اني: رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر، رأيتهم لي ساجدين"
وفي مرحلة ما بعد بيروت حين يحس الشاعر بأن الكل قد تخلى عنه وعن قضية شعبه يبدأ حواراً مع الله فينهل من الرموز الانجيلية كقول المسيح على الصليب قبل أن يلفظ الروح، في قصيدة إلهي لماذا تخليت عني؟ من مجموعة ورد أقل:
"الهي.. الهي.. لماذا تخليت عني؟ لماذا تزوجت مريم؟ لماذا وعدت الجنود بكرمي الوحيد.. لماذا؟ أنا الأرملة/ أنا بنت هذا السكون، أنا بنت لفظتك المهملة/ لماذا تخليت عني؟ الهي، إلهي لماذا تزوجت مريم؟"
ويسأل الشاعر الله كما سأله المسيح بأن لا يبعد عنه كأس الموت في قصيدة يطول العشاء الأخير من نفس المجموعة:
"يطول العشاء الأخير، تطول وصايا العشاء الأخير/ أبانا الذي معنا كن رحيماً بنا، وانتظرنا قليلاً، أبانا/ ولا تبعد الكأس عنا/ تمهل لنسأل أكثر مما سألنا"
إلا أن الشاعر في مزاج آخر في قصيدة كتب فيها عن هاجس العودة الى الوطن يحتفي بعودة المسيح ومريم الى العشاء الذي يريده الشاعر أن يُنهي الاحتلال، يقول في القصيدة الملحمة "مأساة الفضة ملهاة النرجس" من مجموعة أريد ما أريد (1990):
"عاد المسيحُ الى العشاء، كما نشاء، ومريمٌ عادتْ إليه/ على جديلتها الطويلة كي تغطي مسرحَ الرومان فينا"
وفي قصيدة الجدارية في بحث الشاعر عن معنى الخلود يستحضر امتحان الشيطان للسيد المسيح كما ورد في الأناجيل، ولكنه يُسقط هذه الحكاية على نفسه حين كان بين الموت والحياة، وكأن الاختبار كان له:
"أعلى من الأغوار كانت حكمتي/ إذ قلتُ للشيطان: لا، لا تمتحنّي/ لا تضعني في الثنائيات، واتركني/ كما أنا زاهداً برواية العهد القديم/ وصاعداً نحو السماء، هناك مملكتي/ خُذ التاريخ، يا ابن أبي، خذ/ التاريخَ.. واصنع بالغرائز ما تريدُ"
وكما في الرمزية التوراتية فإن محمود ينهل من الرموز المسيحية والاسلامية في عملية تناص يعيد من خلالها كتابة السردية الشعرية الشرق أوسطية بما يلائم حاضره وأماني مستقبله مرتكزاً على الثيمات والموتيفات نفسها، وكأن الحكاية هي نفس الحكاية ولم يتغير شيء سوى الزمن.
الرموز العربية والرافدية والمصرية والكنعانية
في نفس القصيدة السابقة يجمع محمود في أسطر قليلة ثقافة شرق المتوسط في مشهد تخيلي يفترض أن العائدين الى فلسطين يستعيدونه مع عودتهم، إنها تقنية لربط الاستعادة المادية بالاستعادة الثقافية ليغلق الخارطة من النيل الى الفرات:
".. واستعادوا/ ما ضاع من قاموسهم: زيتون روما في مخيلة الجنود/ توراة كنعان الدفينة تحت أنقاض الهياكل بين صور وأورشليم/ وطريق رائحة البخور الى قريش تهبّ من شام الورود/ وغزالة الأبد التي زُفّت الى النيل الشمالي الصعود/ والى فحولة دجلة الوحشي وهو يزف سومرَ للخلود"
هكذا يتنقل الشاعر بين رمزيات الشرق الأوسط القديم غير عابئ بالزمن الذي ينحل بين يديه، فيستدعي ثقافة الأمة من العراق الى مصر وما بينهما، ويدعو القاريء لأن يستعيد معه هذه الثقافة، لأن العودة لا تكتمل إن كانت فيزيائية، بل لا بد لها من استعادة ثقافية لتكتمل.
في قصيدته الرائعة بعنوان رحلة المتنبي الى مصر من مجموعة حصار لمدائح البحر (1984) يعقد الشاعر تناصاً بين حاضره وبين الماضي العربي غير البعيد، فيستحضر حكاية المتنبي مع كافور مُطرزاً القصيدة برموز تاريخية عربية اسلامية، حيث يشبه نفسه تارةً بالمتنبي وتارةً بالقرمطي، وكأنه يرثي حال مصر والأمة معها:
"قد جئتُ من حلبٍ، وإني لا أعود الى العراق/ سقطَ الشمالُ فلا ألاقي/ غير هذا الدرب يسحبني الى نفسي.. ومصر/ .. أمشي الى نفسي فتطردني من الفسطاط../ .. لا مصر في مصر التي أمشي الى أسرارها/ فأرى الفراغ، وكلما صافحتُها/ شقتْ يدينا بابلُ/ في مصر كافورٌ وفيّ زلازل/.. هل تتركين النيلَ مفتوحاً/ لأرمي جثتي في النيل؟/ لا، لن يستبيح الكاهن الوثني زوجاتي/ ولا، لن أبني الأهرام ثانية، ولا/ .. والقرمطي أنا، ولكن الرفاق هناك في حلبٍ/ أضاعوني وضاعوا.."
إنها نفس الخارطة الجغرافية الشعرية يرسمها الشاعر في فترتين زمنيتين مختلفتين من التاريخ العربي، الأولى في الزمن الميثولوجي الغابر، والثانية في الزمن الحقيقي القريب. ولكن ضمن نفس الحدود ما بين مصر والعراق وبلاد الشام. وفي مجموعة سرير الغريبة (1999) يحرر محمود المرأة من رمزية الوطن في شعره ويتعامل معها كإمرأة لا أكثر، وفي هذه المجموعة يعقد حواراً مع جميل بثينة ومع مجنون ليلى في قصيدتين منفصلتين باحثاً عن معنى الحب عند العرب:
"هل تشرح الحبَ لي ، يا جميلُ/ لأحفظه فكرةً فكرة؟/ أعرفُ الناس بالحب أكثرهم حيرةً/ فاحترق، لا لتعرف نفسك، ولكن/ لتُشعلَ ليلَ بثينة.."
في نفس المجموعة يرحل الشاعر عميقاً في الزمن في البحث عن معنى الحب في الشرق الأوسط القديم، فيصل الى إنانا، إلهة السومريين، ليجد معنى الحب في الخصب او في زفاف السماء والأرض المقدس:
"فليصقُل الثورُ، ثورُ العراق/ المُجنّح قرنيه بالدهر والهيكل المتصدع/ في فضة الفجر. وليحمل الموتُ آلته/ المعدنية في جوقة المنشدين القدامى/ لشمس نبوخنصّر. أما أنا، المتحدر/ من غير هذا الزمان، فلا بد لي/ من حصان يلائم هذا الزفاف. وإن كانَ/ لا بدّ من قمرٍ فليكن عالياً.. عالياً/ ومن صنع بغداد، لا عربياً ولا فارسياً/ ولا تدّعيه الإلهات من حولنا. وليكن خالياً/ من الذكريات وخمر الملوك القدامى/ لنُكمل هذا الزفاف المقدس، نكمله يا ابنةَ/ القمر الأبدي هنا في المكان الذي نزّلتهُ/ يداكِ على طرف الأرض من شرفة الجنة الآفلة"
مفهوم الخصوبة، او زفاف الآلهة المقدس، يؤكد عليه محمود في الثقافة الكنعانية أيضاَ حيث يستدعي، عناة، إلهة الخصب الكنعانية، حيث يقول في الجدارية:
"فغنّي يا إلهتي الأثيرة، يا عناةُ/ قصيدتي الأولى عن التكوين ثانيةً"
مبيناً دور عناة في استمرار التكوين، او دورات الخصب، حين يتحدى الموت قائلاً له في نفس القصيدة:
"فماذا يفعل التاريخ، صنوُكَ او عدوك/ بالطبيعة عندما تتزوج الأرضَ السماءُ/ وتذرفُ المطرَ المقدس؟"
عناةُ الكنعانية هذه سيهيم الشاعر بحبها في نفس الجدارية لدرجة العبادة مستخدماً مصطلحاً قرآنياً ولا أجمل "يممتُ وجهي شطرَ" وما يحمله من معاني التعلق والقداسة والعبادة، ولكنه يمم وجهه شطر كنعان، بلاد الإرجوان:
"كلما يممتُ وجهي شطرَ آلهتي/ هنالك، في بلاد الأرجوان أضائني/ قمرٌ تُطوّقهُ عناةُ، عناةُ سيدةُ/ الكناية في الحكاية.."
فمحمود هنا سومري وكنعاني يشارك في نسج ثقافة المنطقة بشعره بعمليات اعادة توليف الملاحم السومرية والكنعانية، وكأنها مشاركة منه في النقاش الثقافي حول ثيمات مثل الحب والخصب والموت والحياة والخلود. وفي نفس الجدارية في بحثه عن الموت والخلود يستضيف أوزيريس الفرعوني والسيد المسيح على قاعدة البعث من الموت، وكأن الشاعر يريد أن يؤكد لنا أن هذه الروايات ليست إلا تواليف لا نعرف مُؤلفها الحقيقي الأولاني، وإنما نقوم كشعب شرق أوسطي بإعادة التوليف لإبراز المعنى والمفهوم:
".. من أنا في الموت/ بعدي؟ من أنا في الموت قبلي/ قال طيفٌ هامشي: كان أوزيريسُ/ مثلكَ، كان مثلي. وابنُ مريم/ كان مثلكَ. كان مثلي.."
يجد محمود في ملحمة جلجامش السومرية، التي يعود تاريخها الى مدينة أوروك في الألف الثالثة قبل الميلاد، مادةً غنية لمناقشة ثيمة الموت والخلود في قصيدة الجدارية، وكأنه يشارك في اضافات (توليفات) على هذه الملحمة التي خضعت عبر الزمن الى الكثير من الاضافات عبر العصور حتى وصلت الى بابل الكلدانية. فجلجامش ملك اوروك مولود من الإلهة ننسون التي حملت به من ملك أوروك لوجليندا، فكان ثلث جلجامش بشراً وثلثاه إلهاً. ولكنه كان مشغولاً بتجاوز الموت الى الخلود، فصاحبَ الوحش البري أنكيدو، ومضيا الى غابة حيث سر الخلود. ووصلا إليها، وظن جلجامش أنه أمسك بسر الخلود. إلا أن الآلهة قررت موت أنكيدو، فمات بين يدي جلجامش الذي اكتشف أن الموت حق وأن الخلود يكمن في أعمال الانسان:
".. أنكيدو! خيالي لم يعُد/ يكفي لأكملَ رحلتي. لا بدّ لي من/ قوة ليكون حلمي واقعياً. هاتِ/ الدمعَ، أنكيدو، ليبكي الميتُ فينا/ الحيَّ . ما أنا؟ من ينامُ الآن/ أنكيدو؟ أنا أم أنتَ؟.."
وهكذا أدخل الشاعر نفسه في نفس التجربة وهو بين حدود الوجود والعدم، ولكنه يخلص لمفهوم الخلود، وكأنها اضافة درويشية رائعة للملحمة السومرية:
"هزمتكَ يا موتُ الفنونُ جميعها/ هزمتكَ يا موتُ الأغاني في بلاد/ الرافدين. مسلّةُ المصريّ/ مقبرةُ الفراعنة/ النقوش على حجارة معبدٍ هزمتكَ/ وانتصرتْ، وأفلتَ من كمائنكَ/ الخلودُ..."
الصراع على ذاكرة المكان
كان محمود واعياً للصراع الثقافي على أرض فلسطين بين الذاكرة الفلسطينية وبين المشروع الثقافي الصهيوني الذي ما انفكّ الى الآن يحاول تجيير ثقافة الأرض لصالحه عبر ربطها بالتوراة من جهة وربط المشروع الصهيوني بيهودا الكنعانية وثقافتها من جهة أخرى (بما فيها الكتاب المقدس نفسه)، ففي إحدى مقابلاته يقول محمود: "يأخذني شعوري الى أن الصراع بيننا ليس عسكرياً فقط وأننا نحن مدفوعون الى صراع ثقافي عميق"، لهذا نجده ومنذ وقت مبكر ينبه في شعره الى هذا الصراع، فيقول في قصيدة يوميات جرح فلسطيني التي أهداها الى الشاعرة فدوى طوقان في مجموعة حبيبتي تنهض من نومها (1970):
"عالمُ الآثار مشغولٌ بتحليل الحجارة/ إنه يبحث عن عينيه في ردم الأساطير/ لكي يُثبت أني/ عابرٌ في الدروب لا عينين لي/ لا حرفَ في سِفر الحضارة"
لا شك أن محمود كان مطلعاً على علم الآثار في فلسطين والذي كان آنذاك توراتياً منحازاً، حيث كان جل اهتمام الباحث الآثاري العثور على أي نص او قطعة أثرية لكي يقوم بتأويلها توراتياً بما يخدم مقولة أرض الآباء الصهيونية، وهذا التوجه الصهيوني في علم الآثار سرعان ما انهار مع بداية الثمانينات من القرن العشرين بسبب الاكتشافات الآثارية الهائلة التي تتعارض مع اطروحات المشروع الاستيطاني الصهيوني الكولونيالي وتؤكد على كنعانية الأرض وثقافتها، فقد أكد على ذلك علماء غربيون مثل توماس تومسون في كتابه "الماضي الخرافي" وكيث وايتلام في كتابه "اختلاق اسرائيل القديمة، طمس التاريخ الفلسطيني". وكما قلنا أعلاه فإن الشاعر وجد نفسه منخرطاً في الصراع على ذاكرة المكان في شعره، فهو في نثرية عابرون في كلام عابر (1987) يستند على الفعل "عبَرَ" لما يحمله من معاني البداوة والمرور الذي لا يستقر، فهم عابرون ومشروعهم كلام عابر:
"أيها المارون بين الكلمات العابرة كدسوا أوهامكم في حفرة مهجورة، وانصرفوا.."
وفي قصيدة على ساحل البحر الأبيض المتوسط من مجموعة حصار لمدائح البحر (1984) يبحث محمود عن آثار أجداده التي يعرف تماماً أنها مدفونة في أماكن كثيرة على ساحل المتوسط:
"يا بحرَ البدايات/ يا جثتنا الزرقاء، يا غبطتنا، يا روحنا الهامد بين يافا وقرطاج/ يا ابريقنا المكسور، يا لوح الكتابات التي ضاعت/ بحثنا عن أساطير الحضارات/ فلم نجد سوى جمجمة الانسان قرب البحر"
ففي تلك الفترة بعد حصار بيروت والخروج منها يبحث الشاعر عن جذوره ومكانه على ساحل البحر الذي حمل شعبه بعيداً، إلا أن جماجم هذا الشعب ستبقى على سواحل هذا البحر تماماً مثل جماجم الانسان الأول التي تم اكتشافها على سفوح الكرمل، والتي ستبقى شاهدة على انتماء الانسان لهذه الأرض. ففي مجموعة هي أغنية هي أغنية (1986) يخاطب الشاعر أصحاب المشروع الصهيوني الاستيطاني بأن لا يُتعبوا أنفسهم في البحث الآثاري لأنهم لن يجدوا ما يدل عليهم:
"ولن تجدوا جثةً تحفرون عليها مزامير رحلتكم في الخرافة/ ولن تجدوا شرفةً كي تُطلّوا على الأبيض المتوسط فينا/ ولن تجدوا ما يدل عليكم.."
وفي نفس المجموعة يفضح الشاعر أعمال المشروع الاستيطاني في تجيير ذاكرة المكان لنفسه ونفيها عن الفلسطيني:
"لصوصُ المدافن لم يتركوا للمؤرخ شيئاً يدلّ عليّ/ ينامون في جثتي أينما طلع العشب منها، وقام الشبح/ يقولون ما لا أفكر، ينسون ما أتذكر..."
إلا أن هذا الغريب القادم مع المشروع الاستيطاني يبقى غريباً عن ثقافة هذه الأرض وذاكرتها، ولهذا فإنه يجد صعوبة في التماهي فيها، لهذا تراه يعتمد على جماليات السرد لكي يثبت حقه في الأرض، فكلما كتب عن الأرض بشكل أجمل كلما استحق المكان أكثر، من وجهة نظره. ومحمود كان واعياً لهذه المسألة، فهو يقول في احدى مقابلاته: "الشاعر الفلسطيني لم يشعر يوماً بأنه محتاج الى تقديم براهين على حقه بالمكان، وعلاقته بالأرض تلقائية وعفوية ولا تحتاج الى أي إيديولوجيا أو تبرير. الشاعر الإسرائيلي الذي يعرف كيف تمّ مشروعه وماذا كان قبل إسرائيل، والذي يعرف أيضاً ان هذا المكان له اسم آخر وسابق هو فلسطين، يبدو هذا الشاعر في حاجة الى شحذ كل طاقته الإبداعية من أجل امتلاك المكان باللغة كجزء مكمل للمشروع الاستيطاني". ألهذا أكثر محمود من استدعاء الرمزيات الميثولوجية في شعره، ودخل في ثنايا سردياتها ليشارك في نسج هذه الروايات؟ وكأنه يقول للآخر: إني لا أجد صعوبة في الاحتفاء بعناة وبعل وإنانا وجلجامش وأوزيريس وأشعيا وأرميا والمسيح والعذراء وغيرهم، لأنهم جزء من ثقافتي وأنا امتداد لهم، وأستطيع أن ألج رواياتهم بتلقائية وأشاركهم في نسج الحكايات، حكاياتنا. فلننظر الى هذا النص الدرويشي الجميل الذي يذكرنا بملاحم الكنعانيين في قصيدة ربّ الأيائل يا أبي ربّها من مجموعة أريد ما أريد (1990):
".. منفايَ أرضُ/ أرضٌ من الشهوات، كنعانيةٌ، ترى الأيائل والوعولْ... / لو كنتَ من حجر لكان الطقسُ آخر، يا ابن كنعان القديم/ لكنهم كتبوا عليكَ نشيدهم لتكون أنت هو الوحيد... / سرقَ المؤرخ، يا أبي لغتي وسوسنتي وأقصاني عن الوعد الإلهي/ وبكى المؤرخ عندما واجهته بعظام أسلافي.../ فانهض يا أبي من بين أنقاض الهياكل واكتبْ/ اسمكَ فوق خاتمها كما كتب الأوائل يا أبي أسماءهم.../ وأنا حزين، يا أبي، سلّم على جدي إذا قابلتهُ/ قبّلْ يديه نيابة عني وعن أحفاد بعلٍ أو عناة/ واملأ له ابريقه بالخمر من عنب الجليل أو الخليل.."
أما الأبلغ والأجمل من هذا في الصراع على ذاكرة المكان فهو استحضار محمود لعدة تناصّات من أمكنة مختلفة وأزمنة مختلفة ليقيم الحجة على المشروع الاستيطاني الصهيوني، ففي قصيدة خطبة الهندي الأحمر أمام الرجل الأبيض من مجموعة أحد عشر كوكباً (1992) يخاطب محمود المشروع الصهيوني عن طريق مخاطبة الهندي الأحمر للرجل الأبيض الذي استوطن في أرضه، مستخدماً رمزيات من ميثولوجيا الهنود الحمر:
"لكم ربكم ولنا ربنا، ولكم دينكم ولنا ديننا/ فلا تدفنوا الله في كتبٍ وعدتكم بأرضٍ على أرضنا/ كما تدعون، ولا تجعلوا ربكم حاجباً في بلاط الملك... / .. هذه الأرضُ جدّتنا/ مقدسةٌ كلها، حجراً حجراً، هذه الأرض كوخٌ/ لآلهة سكنت معنا، نجمةً نجمةً، وأضاءت لنا/ ليالي الصلاة... / ... تاريخنا كان تاريخها"
في مجموعة أحد عشر كوكباً يبدو أن الوحي الكنعاني قد سيطر على محمود، فنراه في معظم قصائد المجموعة مشغولاً بهذا الهم، ناسجاً قصائد كنعانية كأنها تعود الى شاعر كنعاني مات في أوغاريت او سفوح الكرمل او بيبلوس جبيل، وكأن ما نقرأه الآن ليس لمحمود وإنما لأحد أسلافنا الذي اكتشف مخطوطاته علماء الآثار، يقول الشاعر في قصيدة على حجر كنعاني في البحر الميت:
".. يا غريبُ/ علّقْ سلاحكَ فوق نخلتنا، لأزرع حنطتي/ في حقل كنعان المقدس.. / خذ نبيذاً من جراري/ خذ صفحة من سِفر آلهتي.. وقسطاً من طعامي/ وخذ الغزالة من فخاخ غنائنا الرعوي، خذ/ صلواتٍ كنعانية في عيد كرمتها، وخذ عاداتنا/ في الري، خذ منا دروس البيت.../ واترك أريحا تحت نخلتها، ولا تسرق منامي... / أأتيتَ.. ثم قتلتَ.. ثم ورثتَ... / .. والأنبياء جميعهم أهلي، ولكنّ السماءَ بعيدةٌ/ عن أرضها، وأنا بعيدٌ عن كلامي"
هكذا يعترف محمود أن جميع الأنبياء هم أهله، وأن ثقافته هي امتداد لكتبهم المقدسة وطقوسهم المقدسة، لهذا قال للغريب: "خذ صفحة من سِفر آلهتي". وفي قصيدة بعنوان سنختار سوفوكليس من نفس المجموعة يؤكد الشاعر على حقه في هذه الطقوس:
"وإن كان هذا الخريفُ الخريفَ النهائيّ، فلنختصرْ/ مدائحنا للأواني القديمة، حيث حفرنا عليها مزاميرنا/ فقد حفر الآخرون على ما حفرنا مزاميرَ أخرى/ ولم تنكسر بعد... /.. كأن أناشيدنا في الخريف أناشيدهم في الخريف/ كأن البلادَ تُلقننا ما نقول.../ ولكن عيد الشعير لنا، وأريحا لنا، ولنا/ تقاليدنا في مديح البيوت وتربية القمح والأقحوان/ سلاماً على أرض كنعان/ أرض الغزالة/ والأرجوان"
وفي الجدارية يعيد محمود التأكيد على حقه في هذه الطقوس والأعياد:
"في عيد الشعير أزور أطلالي/ البهية مثل وشم في الهوية.. / وفي عيد الكروم أعبّ كأساً/ من نبيذ الباعة المتجولين.. خفيفةٌ/ روحي، وجسمي مُثقلٌ بالذكريات وبالمكان"
هذه الذكريات وهذا المكان استحضرها محمود في المشهد الافتراضي للعودة في القصيدة الملحمة بعنوان مأساة الفضة ملهاة النرجس كما أسلفنا أعلاه:
"عادوا على أطراف هاجسهم الى جغرافيا السحر الإلهي/ والى بساط الموز في أرض التضاريس القديمة:/ جبلٌ على بحر/ وخلف الذكريات بحيرتان/ وساحلٌ للأنبياء"
هذا الصراع على ذاكرة المكان يختتمه محمود في قصيدة الجدارية كونه كان بين الوجود والعدم، فربما لأنه كان، شعرياً، على مسافة قصيرة من الموت، فقد استحضر مدينة عكا برمزيتها، كونها أجمل المدن القديمة أو أقدم المدن الجميلة كما قال، وعلى جسدها يكتب التاريخ كله، وكأنه يقول لأصحاب المشروع الاستيطاني: هذا هو آخر الكلام عندي:
"لديّ ما يكفي من الماضي/ وينقصني غدٌ../ سأسيرُ في الدرب القديم على/ خطايَ، على هواء البحر.../ هذا البحر لي/ هذا الهواء الرطب لي/ هذا الرصيف وما عليه/ من خطايَ وسائلي المنوي لي/ ومحطة الباص القديمة لي.. ولي/ شبحي وصاحبه، وآنية النحاس/ وآية الكرسي، والمفتاح لي/ والبابُ والحراس والأجراس لي/ لي حذوة الفرس التي طارت/ عن الأسوار.. لي/ ما كان لي، وقصاصة الورق التي/ انتُزعتْ من الانجيل لي/ والملحُ من أثر الدموع على/ جدار البيت لي.. "
ويرحل الشاعر عنا، وتبقى عكا وسائر أرض كنعان وثقافة المتوسط له، فسلاماً على أرض كنعان، أرض الغزالة والأرجوان.
مشاركة منتدى
31 آذار (مارس) 2016, 11:28, بقلم saida
تشرفت بالقراءة لكم بالتوفيق والنجاح ودمتم