الخميس ١٢ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٢٠
بقلم عصام شرتح

الشعرية بين فضاءات القول الجمالي.. ولعبة القفلات المثيرة

قصيدة الحزن لنزار قباني:

يخطئ من يظن أن الحداثة تنتهي بانتهاء إنجاز النص،أو القول الشعري الحداثة كالفضاء المتجدد المفتوح، لأن القصيدة الحداثية نفسها تتجدد، وفي تجددها تنتعش المخيلة المتلقية لتكتشف كل ما هو جديد ويومي وحداثوي في النص الشعري الذي سبق وقلنا اكتمل؛ فقصائد القباني مازالت حية وما زالت متطورة في حداثويتها اليومية لتحاكي واقعنا الحالي بكل متغيراته وتطوراته اليومية، ولهذا؛ يبقى الفن الشعري الفن اللامنتهي أو الفن اللامنقضي ما دامت الحياة، ولهذا، يبقى الأثر الجمالي خالداً كخلود الحياة. وهنا نصل إلى حقيقة جوهرية: إن الشعرية ذاك الأفق اللامنتهي المنفتح على كل مستجدات الحياة ومبتكراتها الجمالية، وتأسيساً على هذا يبقى القول الشعري الفضاء المحموم بالمستجدات والمتغيرات اليومية، والشعر لا ينقضي ولا تنقضي لحظاته الإبداعية بانقضاء النص وانتهاء إنجازه.

وإننا في قصيدة (الحزن) لنزار قباني نجد الشعرية غير مكتملة، أو لنقل الشعرية حالمة متجددة كتجدد الحياة بأفقها الجمالي المبدع،لأن النص الشعري ابن الفضاء الإبداعي المفتوح الذي ينفتح كما الحياة في تجددها وانفتاحها على كل ماهو جديد ومؤثر في حياتنا اليومية، لأن قصيدة ( ) عانقت رؤى الشاعر ومخيلته في لحظة من اللحظات ،وسجلت شعورها العاطفي الخالد بريشة الكلمات المغمسة بدماء العاطفة الغزلية المتوهجة في حياة الشاعر نزار، فطبيعي أن تحمل شحناتها العاطفية إلى أعماقنا لنتفاعل معها، ونحس بحرقتها ولذتها الجمالية، يقول نزار قباني:

علمني حبك أن أحزن
وأنا محتاج منذ عصور
لامرأة تجعلني أحزن
لامرأة ابكي فوق ذراعيها
مثل العصفور
لامرأة تجمع أجزائي
كشظايا البلور المكسور

هنا، نحن أمام فاتحة نصية استهلالية مثيرة بإيقاعين:إيقاع تشكيلي عاطفي، مثيره الكلمات المنسجمة المتوترة وإيقاعاتها المموسقة مع حركة المشاعر والتحولات النسقية التي تشد أواصر النص من خلال اللازمة التكرارية (علمني حبك) التي فعَّلت أواصر التلاحم والتفاعل بين الأنساق الشعرية،لاستثارة الشعرية،وبعث التيار التصويري المتلاحم الذي يشد بعضه بعضاً بإيقاع تلاحمي متضافر، ثم خلق نوسة جمالية مثيرة عبر التحركات الجمالية التي أثارتها القصيدة في تحولاتها النسقية من صورة لصورة، ومن دلالة غزلية إلى أخرى، بمعنى :أن شعرية التشكيلات النصية حملت معها تماثلاتها النصية المنفتحة التي حركت الأنساق الشعرية، وأثارت فتنتها الجمالية،ففي قوله:[ لامرأة أبكي فوق ذراعيها
مثل العصفور/لامرأة تجمع أجزائي/كشظايا البلور المكسور]؛خلق التجانس الصوتي بين إيقاعات الصورة الأولى:[ مثل العصفور]/ وإيقاعات الصورة الثانية:[كشظايا البلور المكسور]؛وكأن حزن الشاعر حزن مضاعف الرؤى والأحاسيس المتوترة المأزومة كشظايا البلور المكسور، وهذا دليل أن الفاتحة الاستهلالية ما جاءت تحصيل حاصل في القصيدة للدخول إلى عمق الرؤى والأحاسيس الشعرية،ووفق هذا التصور، فإن غنى الشعرية من غنى مؤشراتها الجمالية الخلاقة التي ترتكز إلى فاعلية الرؤى الشعرية المحركة للشعرية،أي ثمة تفاعل جمالي بين الفاتحة الاستهلالية كعلامة أيقونية لتحريك الصور الشعرية،وبين اللازمة التكرارية المفصلية التي جعلت النص كتلة نصية متفاعلة تستدعي الرؤى والتفاصيل الشعرية العميقة،كما في قوله:

علمني حبك سيدتي أسوأ عادات
علمني أفتح فنجاني في الليلة آلاف المرات
وأجرب طلب العطارين، وأطرق باب العرافات
علمني أخرج من بيتي لأمشط أرصفة الطرقات
وأطارد وجهك في الأمطار، وفي أضواء السيارات
أطارد ثوبك في أثواب المجهولات
أطارد طيفك
حتى
حتى
في أوراق الإعلانات"

إن التكرار هنا شكل علامة بؤرية مفصلية أشبه بالأيقونة التصويرية المتحركة التي تبث ألق الصورة التفاعلية لتنفتح على متتاليات جملية في الانتقال من صورة إلى صورة، تبعاً لمحفزات النسق الشعري الجمالي وفق الشكل التالي:

*علمني حبك ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أسوء عادت

*علمني حبك ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أفتح فنجاني في الليلة آلاف المرات
أجرب طلب العطارين- أطرق باب العرافات).)

*علمني ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أخرج من بيتي لأمشط أرصفة الطرقات
(أطاردُ وجهك في الأمطار،وفي أضواء السيارات-أطارد ثوبك في أثواب المجهولات-أطارد طيفك حتى حتى في أوراق الإعلانات).

إن هذا التراكم في العطف وتتابع الأنساق الوصفية الشعورية قد جعل النص في موضع الاستشراف الجمالي في ترسيم الأنساق الشعرية الجمالية لتحقق غايتها الإبداعية؛وكأن كل صورة تحقق إيقاعها الجمالي الخلاق المبدع في المجموع؛ فالصور تتألف فيما بينها لتشكل لحمة جمالية في موقعها النصي.

ثانياً- التحولات الجمالية في قصيدة الحزن:

لاشك في أن لكل قصيدة تحولاتها الجمالية التي تبرز مصدر حراكها الجمالي أو متراس حراكها الجمالي،ومحور ثقلها الإبداعي؛ ولو دقق القارئ في محور ثقل قصيدة الحزن لنزار قباني جمالياً لأدرك أن مصدر ثقلها هو التكرار البنيوي اللزومي الذي يبدأ بالفعل (علمني) مقترناً بلفظة (حبك) تارة، ومفرداً بدون هذه الكلمة تارة أخرى، ليجعل القرينة الغائبة حاضرة في الذهن دون ذكر الكلمة أحياناً؛ مما يجعل الجملة أبلغ وأشمل من الذكر؛ وهذا ما يجعل القارئ في حيرة من أمره: هل حبها هو الذي علمه كل هذه الممارسات والطقوس في البحث عن اللذة الجمالية في الأشياء بدعوى حب الاكتشاف،ودافع حبها المتوهج في نفسه،لأن للحب أبجديته الجمالية وتطهيره الوجودي الخاص؛ لينقلنا القباني من وجهة جمالية إلى أخرى، كما في قوله:

"علمني حبك كيف أهيم على وجهي ساعات
بحثاً عن شعر غجري تحسده كل الغجريات
بحثا عن وجهٍ عن صوتٍ هو كل الأوجه والأصوات"

هنا، علمه حبها المغامرة في البحث ،أن يقامر في كل شيء ليتحصل على مصدر جمالها في شعر الغجريات ، في جميع الأوجه والأصوات، وهذا يجعل حبها شمولياً حالاً في كل مكان في الطرقات في الوجوه في الأصوات، وكأن القباني نقلنا بوحي إبداعي إلى حافة الكمال في البحث والتلذذ بالأشياء التي ولدتها الأنثى في نفسه:

أدخلني حبك سيدتي مدن الأحزان
وأنا من قبلك لم ادخل مدن الأحزان
لم اعرف أبدا أن الدمع هو الإنسان
وان الإنسان بلا حزن ذكرى إنسان"

هنا، أدخله حبها دائرة الأحزان ومدن الأحزان، إلى مملكة الدمع والذكرى والأمل ليتلذذ القباني بأحزانه كما الكثير من العشاق، ليؤكد أن أحزانه هي لذيذة لأنها ناتجة عن حبها، وشتان ما بين إيقاع الأحزان التي تولدها النوائب والأقدار على المرء، وبين الأحزان ورومانسيتها التي تولدها التأملات والأشواق في النفس لحظة تذكر الحبيب والاستئناس بمعانقته، لقد أدخلنا القباني دائرة النص المفتوح الذي يسبح في فضاء من الأمل والحلم الجمالي في اللقاء ليكون الحزن لديه بوحاً رومانسياً شفيفاً عما يعاني من أجل الوصول للحبيب.وهنا يأتي التحول الجمالي في القصيدة ليحول النص من دائرة الإغلاق إلى دائرة الانفتاح الجمالي ،وفتح الدارة الجمالية إلى مسندها الرئيس أو متراسها الفني وهو عبارة (علمني حبك)،إذ يقول:

علمني حبك
علمني حبك أن أتصرف كالصبيان
أن ارسم وجهك بالطبشور على الحيطان
وعلى أشرعه الصيادين على الأجراس على الصلبان
علمني حبك
كيف الحب يغير خارطة الأزمان
علمني أني حين أحب تكف الأرض عن الدوران
علمني حبك أشياء
ما كانت أبداً في الحسبان

هنا،، تأتي اللازمة التكرارية لتشد صور القصيدة وزفراتها العاطفية المحمومة، وفق الشكل التالي:

*علمني حبك ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أن أتصرفَ كالصبيان

*علمني حبك ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــأن أرسم وجهك بالطبشور على الحيطان
(على أشرعة الصيادين- على الأجراس- على الصلبان)

*علمني حبك ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كيف الحب يغير خارطة الأزمان

*علمني ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــأني حين أحبُّ تكفُّ الأرضُ عن الدوران

*علمني حبك ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أشياء ما كانت أبداً في الحسبان

إن القارئ يلحظ المتعة الجمالية في حركة الأنساق الشعرية وفق التحولات المرتكزة على محرق تكراري (علمني حبك)، ليأتي التكرار مؤشراً جمالياً في الانتقال من مؤشر جمالي إلى آخر، ومن صورة إلى صورة،وفق متغيرها الجمالي الخلاق.
وتعد التحولات الجمالية التي مرتكزها الفني الجملة البؤرية ذات المرتكز الإبداعي الخلاق الموحي (علمني حبك) لينقلنا من ممارسة جمالية إلى أخرى ومن طقس إبداعي إلى آخر، ينقلنا إليه القباني، ليجول بنا العالم بطقس عاطفي إبداعي مثير،كما في قوله

فقرأت أقاصيص الأطفال دخلت قصور ملوك الجان
وحلمت أن تتزوجني بنت السلطان
تلك العيناها أصفى من ماء الخلجان
وحلمت أن اخطفها مثل الفرسان
وحلمت باني اهديها أطواق اللؤلؤ والمرجان"

هنا، لقد دفعه حبها ليعيش مغامرة الوجود والخيال، مغامرة الطفولة و مغامرة الرجولة، متنقلاً من مغامرة جمالية في حبها والتلذذ بجمالها إلى مغامرة أشد استثارة وجمالية، وكأن الشاعر يحركنا بمتراسه الفني التكراري اللزومي المثير، محققاً في دواخلنا لذة التلقي لكل ما يجول في خاطره من رؤى وتطلعات ومنظورات جديدة (أصفى من ماء الخلجان- مثل الفرسان- أطواق اللؤلؤ والمرجان)، وهذا دليل أن التحولات الجمالية التي تخطها القصيدة تحولات استشرافية نصية تباغت القارئ بجمالية الممارسات واللقطات التصويرية والأوصاف الجمالية المثيرة التي حركت شعورنا وشعور القصيدة في آن.

واللافت أن التحولات الجمالية التي تطرحها القصيدة تنقلنا من متغير جمالي أو من مثير جمالي إلى آخر، محققاً قيمة جمالية في الاستثارة والمباغتة واللذة الجمالية وفق مايلي:

علمني حبك يا سيدتي ما الهذيان
علمني كيف يمر العمر ولا تأتي بنت السلطان
علمني حبك كيف أحبك في كل الأشياء
في الشجر العاري في الأوراق اليابسة الصفراء
في الجو الماطر في الأنواء
في أصغر مقهى نشرب فيه مساء
قهوتنا السوداء

لابد من الإشارة بداية إلى أن التحولات الجمالية التي تعتمدها هذه القصيدة تبدأ كما أشرنا من اللازمة التكرارية( علمني حبك)، وهذا التحول الارتكازي البؤري العميق أثار المخيلة الشعرية، لتبعث اللذة الجمالية في الانتقال من نسق جمالي إلى آخر، مما أثار المخيلة الجمالية في تلقي النص الشعري جمالياً،وفق المخطط التالي:

*علمني حبك ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ياسيدتي مالهذيان

*علمني ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــكيف أحبك في كل الأشياء
(في الشجر العاري في الأوراق اليابسة الصفراء)

(في الجو الماطر/ في الأنواء/ في أصغر مقهى نشرب فيه مساء/ قهوتنا السوداء)

فالقارئ هنا يلحظ حنكة القباني الجمالية في الوقوف على النهايات السطرية المؤثرة في خلق التشكيلات النسقية المراوغة التي تحفز الشعرية، وتخلق مؤشرها الجمالي.

هنا، نلحظ براعة القباني في الانتقال من نسق لغوي تصويري إلى آخر، مما يرفع درجة الحساسية واللذة الجمالية في التلقي الجمالي، كما في قوله:

علمني حبك أن أوى
لفنادق ليس لها أسماء
ومقاه ليس لها أسماء
علمني حبك كيف الليل يضخم أحزان الغرباء
علمني كيف أرى بيروت
امرأة تلبس كل مساء
علمني كيف ينام الحزن
كغلام مقطوع القدمين
في طرق الروشة و الحمراء"

هنا، نلحظ بلاغة القباني التشكيلية في الانتقال من نسق تشكيلي لغوي إلى آخر، محققاً لذة جمالية في الارتقاء بالنسق الشعري إلى آفاق رؤيوية خصبة، كما في المخطط التالي:

*علمني حبك ـــــــــــــــــــــــــــــأن آوي لفنادق ليس لها أسماء/ ومقاه ليس لها أسماء

*علمني حبك ـــــــــــــــــــــــــــــــــــكيف الليل يضخم أحزان الغرباء

*علمني ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كيف أرى بيروت امرأة تلبس كل مساء

علمني ـــــــــــــــــــــــــ كيف ينامُ الحزن كغلام مقطوع القدمين في طرق الروشة والحمراء

وهكذا، تتأسس القصيدة في مرتكزها الجمالي على حراك الرؤى الشعرية التي تحقق قيمة إبداعية في الانتقال من نسق تصويري إلى آخر، مما يدل على حنكة تشكيلية مراوغة تستثير اللذة الجمالية في النسق الشعري الخلاق الموحي؛ مما يزيد الشعرية في النص محققاً فاعلية جمالية.

ووفق هذا التصور، يمكن القول: إن اعتماد القباني على اللازمة التكرارية يثير اللذة الجمالية في القصيدة لتقف على إيقاعها الجمالي الموحد لتقف على حنكتها الجمالية الخلاقة، كما في قوله:

علمني حبك أن احزن
وأنا محتاج منذ عصور
لامرأة تجعلني احزن
لامرأة ابكي فوق ذراعيها
مثل العصفور
لامرأة تجمع أجزائي
كشظايا البلور المكسور

هنا، أدت اللازمة التكرارية دوراً شعرياً موحداً، محققاً لذة جمالية في التشكيل لتحقق قيمتها الجمالية،وهذا دليل أن اللذة الجمالية التي تثيرها القصيدة تنبعث من التآلف والتناغم النسقي في النص الشعري لتسمو وترتقي جمالياً.

وصفوة القول: إن شعرية القباني يمكن أن نطلق عليها شعرية القول الجمالي ولعبة القفلات النصية المثيرة وإيقاعاتها الصوتية المتآلفة لتحقق إيقاعها الرومانسي الغنائي، وهذا دليل أن الشعرية شعرية تحولات إسنادية خلاقة بكل ما تقتضيه من رؤى ومؤثرات جمالية وهذا ما اعتمدته قصيدة الحزن للقباني في تحولاتها النسقية التشكيلية المثيرة.


مشاركة منتدى

  • ثنائية العشق والحزن ثنائية أزلية وُلدت من رحم الإنسان، من خفق ونبض الدقّات، ومن اعتصار الأمل والألم في لحظات البوح وجغرافيات المثول...

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى