«الطريقة الخماسية» لتدريس القصة القصيرة
قبل عام تقريبا صدر للأستاذ محمد هيبي كتاب بعنوان "القصة القصيرة بين البحث والتدريس". ولأكثر من سبب لم أطّلع عليه إلا مؤخرا. وقد رأيت في الكتاب بحثا واقتراحا جديرين بالاهتمام.
الأستاذ محمد هيبي مدرس للغة العربية وآدابها، وطالب اللقب الثالث (الدكتوراه) في جامعة تل أبيب، يخرج علينا في الكتاب المذكور بدراسة خاصة تقدم بها لنيل اللقب الثاني (الماجستير)، ويقدم في هذه الدراسة اقتراحا لطريقة تدريس للقصة القصيرة. وهو يعتمد في دراسته على أكثر من ثمانين مرجعا، بين عربي وعبري وإنجليزي، وقد قام بإرشاده في دراسته البروفيسور إبراهيم طه رئيس قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة حيفا.
يدخلنا الكاتب معه في متاهة القصة القصيرة حيث يجتهد في تعريفها واطلاعنا على مقارناته بين وجهات نظر متعددة في تعريفها، لأدباء ونقاد عرب وعالميين، إلى أن يخلص في تعريفه إلى ما ورد صفحة 25 "ومع ذلك، لا بد أن نخلص إلى القول أن القصة القصيرة هي فن أدبي نثري سردي لا بدّ أن يكون قصيرا نسبيا بحيث تمكن قراءته مرة واحدة وليس على مراحل. لا بدّ أن يحدِث تأثيرا أو انطباعا في نفس المتلقي بحيث يجعله يتعاطف أو يتساءل أو كليهما معا. ولا بدّ، كذلك، أن يخضع لقواعد معينة، ما كنت لأقول: "صارمة" ولكن تحافظ على الأقلّ على الحبكة بعناصرها الخمسة الأساسية: الزمان، المكان، الشخصية (الشخصيات)، الحدث (الأحداث) والراوي. هذه العناصر التي لا يمكن لأيّة حبكة قصصية أن تستغني عن واحد منها. وبديهي أنّه لا بدّ من تحديد كميّ ونوعيّ معين لكي لا نعدم التمييز بينها (القصة القصيرة) وبين أمثالها من فنون القصّ المختلفة، وعلى رأسها، الرواية.
بعد هذا التعريف المختصر ينتقل المؤلف إلى القصة القصيرة كنوع أدبي، وينفي أن يكون ظهورها في الأدب العربي مرتبط بالأدب الغربي فقط، لأنّ لها جذورا في أدبنا العربي ترتبط بفنون القص المختلفة مثل المقامات وقصص ألف ليلة وليلة وغيرها الكثير.
"الطريقة الخماسية" لتدريس القصة القصيرة
يتخوّف صديقنا الأستاذ محمد هيبي عندما يطرح طريقته الجديدة لتدريس القصة القصيرة خاصة لأنه غير متأكد من أنّ هذه الطريقة هي المثلى، خاصة وإنّ الطرق الأخرى، وإن كانت قديمة نسبيا، قد تكون مقبولة وتؤدي المطلوب منها، ولكنه يعتقد أنّ "الطريقة الخماسية" تفي بحاجات الدارس في مراحل دراسية مختلفة، وتتميّز بجذب الدارس من خلال إشراكه في فهم النص وتأويله، الأمر الذي يدفعه إلى التفكير والتساؤل، وهذا بحدّ ذاته هدف أساسي من أهداف الطريقة.
ولا يدخل الكاتب إلى صلب طريقته قبل أن يستوفي الحديث عن عدد من أساليب وطرق التدريس لدى عدد من أصحاب النظريات في هذا المجال. ومن بين هذه الطرق ما جاء في كتاب "المرشد في تدريس الأدب العربي للمرحلة الثانوية" الذي أصدرته وزارة المعارف عام 1990، والذي يتحدّث عن ثلاث مراحل لتدريس القصة القصيرة هي:
مرحلة التمهيد وخلق الحافز عند الطالب.
مرحلة الفهم والتحليل.
مرحلة التقويم.
ويقول المؤلف عن هذه الطريقة أنها ربما تكون الأقرب إلى "الطريقة الخماسية" من غيرها من الطرق التي ورد ذكرها في الكتاب، وذلك لأنّ هذه الطريقة أيضا، تعتمد هي الأخرى النصّ أساسا لفهمه، وذلك عن طرق مناقشته مع الطلاب.
ومع أنه لا يهاجم الطرق الأخرى، إلا أنه يرى أنها تُبقي الطالب تحت سيطرة المعلم الذي يملى عليه فهمه الخاص للنص. بينما يدّعي محمد هيبي أنّ التربية الحديثة والتقنيات المتطورة تتطلب تغييرا بعيد المدى في طرق التدريس، وذلك لأن الطرق القديمة لا تعطي الطالب مكانته الصحيحة في استغلال قدراته الذاتية على العمل المستقل، والتفكير الذاتي السليم، والتساؤل، وحل المشاكل، والمقارنة والاستنتاج.
وأما "الطريقة الخماسية" المقترحة، فتمكن الطالب من سبر أغوار النص، وحل رموزه، وتضع الطالب في مركز عملية الفهم والتحليل والتأويل وحل الرموز، وهذا بحدّ ذاته، كما أسلفت، هدف تربوي أساسي توليه "الطريقة الخماسية" الكثير من الاهتمام.
وهنا أتساءل: كيف يقوم معلم، ايّ معلم، بشرح وتوضيح أية مادة تعليمية للطلاب؟ من خبرتي الطويلة في التعليم، 43 عاما، اتضح لي أنّ قسما لا يستهان به من المعلمين يلجأ إلى طريقة التلقين، حيث يدخل المعلم غرفة الصف وفي يده دفتر تلخيصاته التي أعدها خلال السنين السالفة، أو حصل عليها من أحد زملائه، ثم يبدأ بتنقيل المادة للطلاب. وهنا يحقق هدفا أبعد في تمرير الدرس بدون ضجة، لأنّ الطلاب ينهمكون بتسجيل ما يقوله المعلم، ويكون الصف هادئا تماما. وهكذا يتحول الطالب إلى جهاز تسجيل وليس إنسانا مفكرا، أو إنسانا يراد له أن يكون كذلك.
حدث انني انتقلت ذات عام لتدريس موضوع المدنيات في إحدى المدراس، ولم يقبل الطلاب طريقة شرح المادة من خلال الحوار معهم حول القضايا المعقدة، بل أصرّوا جميعا على ضرورة أن أنقـّلهم رؤوس الأقلام وهم يكتفون بذلك. ولكنني رفضت رفضا قاطعا أن أتحول إلى آلة تنقيل، وأن يتحول الطلاب إلى آلة تسجيل. ولم تنفع شكواهم إلى مدير المدرسة مدّعين أنهم لا يفهمون المادة، ولكن بعد مرور أسابيع قليلة على عملي معهم، حصلت الاستثارة الكبيرة، فتحولت الحصص الى دروس حية يتحاور فيها الطلاب معي وفيما بينهم، وبإرشادي، عند الحاجة فقط، يتوصلون الى النتائج التي يجب أن يتوصلوا إليها وهكذا نجحت، وإن بصعوبة، في إلغاء طرق التنقيل والتلقين. وقد أثر ذلك على طرق عمل معلمين آخرين وجاءت النتائج في الامتحانات السنوية والنهائية مميزة عن الأعوام السابقة. وانتقلنا بالعمل التربوي والتعليمي الى طرق الحوار والإقناع حتى أن بعض الطلاب يلجأون إلى مصادر أخرى وبلغات الأخرى غير العربية أحيانا. واتسعت رؤية الكثيرين منهم حول القضايا المطروحة في إطار برنامج التعليم. وبدأ الطلاب يتحولون من آلات تسجيل إلى أناس مفكرين يستطيع أحدهم أن يحقق ذاته من خلال فهمه للقضايا المطروحة، وخاصة تلك التي تحتاج الى التفكير.
وخير مثال على أهمية هذا الأسلوب قد يكون في طرح مواضيع مثل الحريات: حرية العمل، حرية الفكر، حرية التعبير، ومدى انسجامها مع النظام الديمقراطي! هذا لأن "الطريقة الخماسية" التي يقترحها محمد هيبي تتعامل مع النص السردي على أنه نص ديمقراطي منفتح، وتحض على التعامل معه بانفتاح يمكن كل دارس من الوصول لكل التأويلات الممكنة لهذا النص.
العمل بموجب "الطريقة الخماسية" في محك الواقع
بعد دراسة متعمقة توصل الأستاذ محمد هيبي إلى حقيقة أنّ الطالب الذي يحب الحاسوب والإنترنت عادة، يستطيع اذا شاء، أو إذا حظي بالتوجيه الصحيح، أن يستعين بهما كحافز لدراسة القصة القصيرة، على أن يهتمّ المعلم بالتوجيه الصحيح لذلك، وهكذا نكون قد ضربنا عصفورين بحجر واحد. من جهة رشّدنا علاقة الطالب بالحاسوب، ودفعناه إلى استعمال الحاسوب واستغلال وقته أيضا بما ينفعه فقط. ومن جهة أخرى، حددنا هدف الطالب من التعامل مع الحاسوب والإنترنت، ويتم ذلك حسب "الطريقة الخماسية"، كما أسلفت، بأن يوجه المعلم الطلاب إلى الإنترنت للبحث عن مصادر تتحدث عن النص المطلوب، أو عن أية جوانب ذات علاقة بالنص. وبهذا يكون المعلم قد خلق الحافز عند الطالب. ولا ضير في أن يلجأ المعلم إلى توظيف حوافز أخرى تقوم بالمهمة.
بعد ذلك يبدأ البحث بين الطلاب في المركبات الخمسة الأساسية للطريقة الخماسية، التي هي العناصر الخمسة الأساسية للقصة، وهي:
الزمان.
المكان.
الشخصية (الشخصيات).
الحدث (الأحداث).
الراوي.
بعد ذلك يأتي دور النقاش حول العلاقات بين هذه العناصر، وخاصة بين الشخصية وباقي العناصر، لأنّ الشخصية في اعتبار معظم الباحثين والنقاد هي أهمّ عناصر القصة، وإذا نجح الطالب في اكتشاف الروابط أو العلاقات بين هذه العناصر الخمسة ونجح في دمج هذا الاكتشاف مع قدراته الذاتية وتفكيره العميق وتجاربه وثقافته، سنجد أنّ بإمكانه التوصل الى أمور قد لا يتوقعها المعلم نفسه. كما ويمكن أن يكتشف الطالب أمورا جديدة كانت كامنة في خبايا نفسه لم يكن قد اكتشفها من قبل.
هكذا يتوصل المعلم مع طلابه الى الاستنتاجات العملية التي يريدها بحيث يجعل من كل طالب أداة للتفكير والتحليل وليس أداة للتسجيل! وهكذا أيضا نكون قد حولنا معلمينا المحترمين الى أناس مفكرين ومربين لا ملقنين يهمهم بالأساس نجاح الطلاب فقط، بل تربيتهم على الفكر والتحليل والمنطق السليم.
يناقش المؤلف كل واحد من العناصر الأساسية الخمسة للقصة، ويحيطنا علما بكل عنصر على حده، كما ينتقل بعد تعريف وتوضيح كل عنصر الى العلاقة الجدلية بين هذه العناصر، كالعلاقة بين الزمان والمكان ليكونا معا مصطلح "الزمكانية". وبعد أن يستوفي الحديث عن العناصر والعلاقات بينها، لينتقل إلى تطبيق هذه النظرية على إحدى القصص التي اختارها كنموذج للطالب أو المعلم الدارس لفن القصة القصيرة.
قصة "حالة تلبس" للكاتب القاص يوسف إدريس على محك التجربة النموذجية
السؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا اختار المؤلف هذه القصة؟ ويجيب هو على هذا السؤال بقوله: هناك خمسة أسباب جعلته يختار هذه القصة وهي: (ص-(93-94):-
لأن القصة مأخوذة من المنهج الجديد لتدريس الأدب العربي الحديث.
لأن كاتب هذه القصة هو الكاتب المبدع يوسف إدريس الذي يعتبره النقاد تشيخوف القصة العربية القصيرة، بل أكثر من ذلك، إذ يقول عنه الحمامصي: لقد وصل يوسفنا (يوسف إدريس) بالقصة القصيرة فنيّا الى أبعد مما أوصلها إليه الذين يعتبرون مرموزها في الآداب العالمية.
لأنها تتوفر فيها كل عناصر القصة القصيرة بشكل واضح يمكن الطالب من اكتشافها واكتشاف العلاقات التي تربط فيما بينها التي.
لأن الأحداث تدور في كلية / مدرسة، مما قد يجعلها قريبة من عالم الطلاب.
لأن الحدث المركزي هو تدخين سيجارة، تقوم به طالبة في الفناء الخلفي للمدرسة بعد انتهاء الدوام، الأمر الذي يمكن أن يثير نقاشا ساخنا حول موضوع التدخين بين الطلاب في المدرسة أو خارجها، وما قد يكون فاتحة لنقاش مواضيع أخرى ذات علاقة، وبشكل ديمقراطي يعود بالفائدة على الطلاب والمدرسة والمجتمع. وما قد يؤدي إلى تغيير وتحسين في العلاقة بين الطالب والمعلم، وما إلى ذلك من قضايا ذات علاقة.
ما تقدّم يسهّل على المعلم والطالب على حدّ سواء، الدخول في حوار حول الشخصية بشكل جذري، وعلاقاتها مع باقي العناصر، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الطالبة المدخّنة هي شخصية مميّزة ومؤثرة في صنع أحداث القصة، وخاصة تلك الأحداث الداخلية التي تعتمل في نفس العميد، وهو الشخصية المركزية والبطل في القصة. لا يشكّ المؤلف في أنّ الطالب سيجد لذة كبيرة في اكتشاف ما يعتمل في نفس العميد وخاصة محاسبته لنفسه. وأخيرا يأتي الحديث عن شخصية الراوي وما لها من دور بارز في القصة وتأثير على الشخصيات والأحداث. وينتهي النقاش باكتشاف العلاقات بين العناصر: العلاقة بين الشخصيات وتمثلها شخصيتا العميد والطالبة. والعلاقة بين الشخصيات والزمن الذي يتواطأ مع العميد، لأنه مكنه من التمهل في أخذ القرار. والعلاقة بين الشخصية المكان. المكان المغلق (غرفة العميد)، الذي يعبر عن انغلاق شخصية العميد ورجعية الأفكار التي تحاصره. ويخلص المؤلف إلى أن عناصر هذه القصة بالذات، متشابكة ومتعالقة ومتناغمة، بشكل سيؤثر إيجابا عل الطالب، رغم الموقف القاسي الذي يتخذ الراوي، والمؤلف كذلك، من العميد فيجعله يعيش فترة زمنية قصيرة لا تتجاوز مدة تدخين سيجارة، أي ما يعادل 5 دقائق أو أقل، ولكنها تتكثف فيها أفكار العميد وتساؤلاته، من جهة حول ما تقوم به الفتاة وطريقة تعاملها مع السيجارة والولاعة وخبرتها الكبيرة في ذلك رغم صغر سنّها. ومن جهة أخرى، وهذا هو الأهمّ، تتكثّف افكاره حول ماضيه وشبابه المتحرر والمنفتح، وحاضره المنغلق والمحاصر بفكره المتحجر. هذه المقارنة داخل نفس العميد، لا شك ستدفع باتجاه التغيير إلى الأفضل.
أسلوب البحث
يلجأ المؤلف في هذا الكتاب إلى دراسة مقارنة لكل موضوع أو لكل عنصر من عناصر القصة ثم يعود إلى المصادر المختلفة المتعلقة بموضوع القصة القصيرة، لكي يخلص في النهاية إلى خلاصة حول كل عنصر وإلى العلاقات بين هذه العناصر، على المستويين: النظري والتطبيقي.
يعتمد الكاتب لغة، وإن كتبت بفنية معينة، إلا أنها لا تخرج عن إطار لغة البحث العلميّ المبسّطة والخالية من التعقيدات، بحيث يسهل على الطالب، أي طالب مهما كان عاديا، أن يتعامل معها.
ونهاية، نعتقد أنّ المؤلف في اقتراحه للطريقة الخماسية كان مجددا أولا، ثم أنه يطرح بين أيدينا طريقة يمكن أن نناقشه فيها، فهو من الوعي والانفتاح على درجة تتعادل مع ما في "الطريقة الخماسية" من الوعي والانفتاح على الرأي والرأي الآخر. ولولا ذلك، ما كان لأستاذ مرشد بقامة بروفيسور إبراهيم طه أن يتبنى مثل هذا العمل.
على كل حال، إن قُبِل هذا الاقتراح لاعتماده طريقة للتدريس في المدارس الثانوية العربية في البلاد، أو لم يقبل، فقد وضع المؤلف بين أيدينا مادة تستحق أن يعتمدها المعلمون في أساليب تدريسهم، وأن يهتم بها النقاد والدارسون، وأن يقولوا فيها كلمتهم إن سلبا وإن إيجابا.
وأخيرا نقول لصديقنا الأستاذ محمد هيبي، شكرا على ما قدمته من عمل يضيف إلى أدبنا العربي وإلى طرق التدريس في آن معا. وإلى الأمام في إثراء فكرنا ومكتباتنا البيتية والمدرسية والعامة بكل جديد، ولك الحياة.