الأحد ٥ كانون الثاني (يناير) ٢٠٢٠
بقلم علي القاسمي

الظَّمَأ

(إلى روح الفنان الكبير الدكتور خالد الجادر)

سقطتْ سماعة الهاتف من يده قبل أن يسمع بقية كلام مخاطبه، وهبّ يهرول متعثِّراً في اتِّجاه الباب، مُغالباً الدمع المنبجس في مآقيه، وهو في طريقه إلى شقّة صديقه الرسّام الكبير.

طالعتْه في مدخل الشقَّة لوحاتٌ متناثرةٌ، بعضها لم يكتمل، وبعضها لم يؤطَّر، منها ما هو معلَّق على الحائط، ومنها ما هو مُلقًى على الأرض، ولكنَّها بدتْ له جميعها داكنة الألوان، منكسرة الخطوط، منبعجة المنظور، وتكتسي كلُّها مسحة أسًى دفين في عصر ذلك اليوم الشتائيِّ الغائم.

في غرفة الجلوس الخافتة الضوء الباهتة اللون، فتاتان تنتحبان حول تابوت مُغطَّى بقطعة قماش سوداء. ودون أن يعبأَ بهما أو يوجّه الكلام إليهما، وضع يده اليمنى على رأس التابوت، وأخذ يقرأ الفاتحة ويدعو للراقد داخله. ثمَّ دلفَ مسرعاً إلى غرفة النوم الوحيدة في الشقَّة، ليلفي أخا الرسام الأصغر وهو مُستلقٍ على وجهه في سريره وقد وضع كفيه على عينيه، فبادره سائلاً :

ـ وماذا عن نقل الجثمان إلى الوطن؟

ـ عليّ الانتظار يومَيْن لعدم وجود طائرة هذا اليوم.

ـ بلى، هنالك رحلة مباشرة بعد ساعتيْن، وسأهاتف وكالة السفر التي نتعامل معها لاتخاذ ما يلزم في المطار، وسآتي بسيارتي إلى باب العمارة خلال دقائق خمس، وعليك إنزال النعش إلى هناك.

انطلقتِ السيّارة كجوادٍ جامح على الطريق المحاذي للبحر نحوَ المطار، وهي تحمل النعش على متنها، واحتلَّت الفتاتان المنتحبتان المقعد الخلفي، في حين جلس أخو المُتوفَّى واجماً صامتاً في المقعد الأماميّ بجانبه.

آه لو كان المُتوفَّى بجانبه لراح يحدّق، بعينيْن مغرورقتَيْن، في الحقول على جانبَي الطريق، ويحملق، والبسمة على شفتيْه، في الفلاحين المُنكبِّين على أعمالهم. وللفتَ نظر صديقه المنهمك في قيادة السيّارة إلى تنوّع أغطية الرأس التي يلبسها أولئك الفلاحون وغِنى ألوانها، كتنوُّع نباتات طبيعتهم وأزاهيرها، وثراء ثقافتهم وعراقتها. وهل هناك أدنى شكٍّ في ذلك. فلينظر مَن لا يُقرُّ بذلك إلى الإسكيمو وأهل الصحراء فهم لا يعرفون إلا نوعاً واحداً من أغطية الرأس... وللفتَ نظره كذلك إلى ضوء هذه البلاد. آه، إنّه الضوء المعتدل في قوته وسطوعه، ليمكّن ألوان الطبيعة جميعها من الظهور. آه، إنّه الضوء العادل الذي لا يسمح بطغيان لونٍ على آخر، بل يدع كلَّ لونٍ يتواجد بجميع درجاته بانسجام، ففي اللون ألوان لا تدركها إلا العين الخبيرة، حتّى إنْ عجزتِ اللغة عن تسميتها برمَّتها. ومن بين أطياف اللون الواحد، هنالك لون يخفق لمرآه قلبُ الرسّام، وتبحث عن خلطته مقلتاه، وتتعذَّب ريشتُه في محاكاته. آه، إنّه الضوء العادل الذي يشهد على جوهر الألوان ونقائها ويعرضها على حقيقتها. ليس هنالك شيءٌ أقدر من الحقّ على إظهار الحقيقة. أتظنّ أنّ أمطار الشتاء هي التي تفتِّق الأرض عن خباياها الأخّاذة الألوان في الربيع؟ لا، إنّه ضوء الربيع المعتدل العادل العدل الذي يهب الأرض ألوانها الساحرة الفاتنة. حتّى أمهر الرسّامين لن يستطيع أن ينقل روعة الطبيعة في لوحاته، دون أن يعضده الضوء المعتدل العادل العدل، فينفذ من خلاله إلى موضوعه ويندمج فيه، بحيث تغدو الذات والموضوع كياناً واحداً ينبض بالحياة على سطح اللوحة...

في عصر هذا اليوم الشتائي الغائم، يختبئ الضوء الذي بهركَ وأَسَرَكَ وراء الغيوم، وتُقفر الحقول من أهلها الذين أحببتَ.

يستغرق الطريق إلى المطار، عادة، ساعة ونصف الساعة، وتحتاج الإجراءات في المطار إلى نصف ساعة على الأقل، وهكذا كان عليه أن يقود السيّارة بسرعة غير اعتياديّة تجاوزت المائة وخمسين كيلومتراً في الساعة. وما إنْ بدأت الرحلة حتّى أخذ الظلام المتربّص خلف الحقول الغامقة الخضرة يزحف على الطريق، وغدت الريح القادمة من البحر تضاعف سرعتها وتسوق غيوماً كثيفة أمامها كقطعانٍ هائجة من الجاموس، وما لبثتْ قطرات المطر أن انهمرت بوتيرةٍ متصاعدة، مهدِّدة بخطر انزلاق السيّارة على الطريق المغطّاة بالمياه والأوحال، فأدرك إدراكاً يشوبه التوجّس والخشية أنَّ عليه أن يركِّز انتباهه كلَّه على الطريق وقيادة السيّارة. بَيدَ أن نحيب الفتاتَين المتقطِّع وأنينهما غير المتناغم طوال الطريق، كان يفسد عليه التركيز المطلوب.

في المطار، شيَّعت عيناه النعش حتّى ابتلعته بطن الطائرة، دون أن يلاحظ تحية الوداع التي لوَّح بها أخو الرسّام وهو يجتاز حاجز إجراءات المغادرة. ولم يطُل به الانتظار، فقد أقلعت الطائرة بعد لحظات، وسرعان ما اختفت في غياهب الغيوم القاتمة التي كانت أشبه بخيمةٍ كبيرةٍ سوداءَ على فضاء المطار.

وخُيِّل إليه أنَّ طريق العودة إلى المدينة لم يكُنْ طويلاً، كما كان أثناء الذهاب إلى المطار. وعلى الرغم من استمرار الفتاتين في نحيبهما المتقطِّع فقد حلَّق ذهنه بعيداً، وهو يسابق الطائرة في رحلتها إلى أرض الوطن. وتراءى له جمْعٌ من المستقبلين المشيِّعين، حفاةَ الأقدام، حاسري الرؤوس، يحملون النعش على جماجمهم، مكبِّرين مهلِّلين، وهم يسرعون الخُطى إلى قلب الصحراء، حيث وُلِد الفنّان الراحل وحيث يرقد أجداده منذ قرون. وظلّوا يحملون النعش على أعناقهم، وهم يندفعون بعيداً بعيداً نحو لحدٍ فاغرٍ فاه عند خطِّ الأُفق، في فلاةٍ لا متناهيةٍ زاخرةٍ بكثبانٍ رمليّةٍ صفراءَ تمتدّ إلى ما وراء حدود البصر، تلفحها أشعة الشمس الشديدةُ اللمعان، حتّى تحيلها سراباً يغطّي الأرض والسماء. وكلّما دنوا من اللحد ابتعدَ عنهم ونأى. وفجأةً، رأى نفسه يجري وراءَهم ليلحق بهم، حاسرََ الرأس حافي القدمين، يمدّ عنقه إلى أعناقهم ليحمل النعش معهم. وعندما اقترب من النعش أخذتْ تتناهى إليه أصوات مخترقة التهليل والتكبير لتنفذ في أذنيْه وعينيْه، ضاغطةً على شغاف قلبه كلحنِ ناي حزين، وانطلق منها صوتٌ نائحاً :

تذكّرتُ مَن يبكي عليَّ فلم أجدْ

وارتفع صوتٌ ثانٍ متسائلاً:
يقولون لا تبعد وهم يدفنونني
وأين مكان البــعد إلا مكانيــا؟!
ودوّى صوت آخر موصياً:

إذا متُّ فادفني إلى جنبِ كَرمةٍ
تروّي عظامي بعدَ موتي عروقُها
ولا تدفننِّي في الفلاة فإنـَّـني
أخافُ إذا ما متُّ أن لا أذوقُهــا

بَيدَ أنّهم واصلوا سيرهم الحثيث في فلاةٍ لا نبع فيها ولا كلأ، حتّى الآبار انطمرت، وجفّت الواحات، وانتحرَ النخيل.

ولم يقطع عليه هذا السَّفَر الذهنيّ المضنيّ إلا إيقافه السيَّارة أمام منزل إحدى الفتاتَين لتغادرا معاً، ويعود وحيداً إلى دارته الكائنة في أحد الشواطئ البعيدة التي يلجأ إليها كلّما ألمّ به الأسى أو استبدّ به الإرهاق، لينعمَ بشيءٍ من الهدوء والراحة، فالمنازل المشيّدة في ذلك الشاطئ تُهجَر تماماً في الشتاء، ولا تدبّ فيها الحركة إلا عندما يعود فصل الصيف.

كانت دارته على الشاطئ مباشرةً، لا يفصلها عن مياه البحر إلا بضعة أمتار، وعندما يهيج البحر تغسل أمواجُه درجَ الباب الخلفيّ المُفضيّ إلى الشاطئ. وكانت واجهة الدارة المُطلّة على البحر، زجاجيّةً واسعةً تسمح له برؤية البحر وسماع هديره. وغالباً ما كان صديقه الرسّام يأتي إلى هذه الدارة ليرسم بعض لوحاته. وهناك كان حبُّ البحر يجمع الصديقَيْن فيتحدّثان عن الحياة والموت، والحياة بعد الحياة، والموت قبل الموت، وغربة الجسد، واغتراب الروح، وتغرّب الفكر.

حين وصل إلى الدارة كان الظلام حالكاً، والرعد متلاحقاً يصمّ الإسماع، والبرق متتابعاً يخطف الأبصار، وكانت العاصفة متداركةَ الصهيل، وحبّاتُ المطر كبيرةً تُلحِف في ضرب زجاج السيّارة كطلقات مدفع رشاش، وتحيل الزقاق إلى وادٍ ضيقٍ متدفِّقِ السيل. ولجَ الدارة مبتلاً محموماً، ليكتشف انقطاع التيارِ الكهربائيِّ بسبب الزوبعة.

ومِن غير أن يكلِّف نفسه إيقاد شمعة، ألقى بجسده المنهَك على الأريكة الكبيرة مُلتحفاً العَتَمَة وراح يحملق في اللاشيء. وأضاء البرق الذي كان ينفذ إلى فناء الدارة بين الفينة والفينة، إحدى لوحات صديقه الراحل المثبَّتة على الجدار، لتطلَّ منها وجوه القرويين الكالحة بعيونهم الجاحظة، وشفاههم الجافة، ونظراتهم البائسة، تظلّهم أشجار أنهكها الخريف، ولوت ريحٌ خفيّةٌ أغصانها، وبعثرت أوراقها المصفرّة على رؤوس القرويّين، وأقدامهم الغليظة الناشبة في الأرض، كجذور الأشجار ذاتها.

ها هو ضوء البرق ينحسر بسرعةٍ خاطفةٍ ليخلّف الفضاء والهواء فريسةً لزمجرةِ الرعد الثائر، وأزيز العاصفة العاتية، وهدير البحر المدوّي. ثمَّ يعود البرق ليضئَ لوحةَ أُخرى يشرئِبُّ منها وجهُ ساحرٍ أسود الملامح يغمد نظراته الثاقبة في عينَي قرويَّة غرّة تجثو أمامه، فاغرة الفم، متدلّية الشفتيْن، شاحبة الوجه، مرتعبة الفرائص. ثمَّ يخيِّم الظلام مرّةً أُخرى، لا ينافسه إلا صوت الغيث المتهاطل، وتلاطم الأمواج وارتطامها بصخور الشاطئ الصلداء. ويعود البرق من جديد ليُضئ لوحةً أُخرى يطلُّ منها ضريحُ وليٍ جاثم على شاطئ البحر، وبالقرب منه ثلاثة قوارب منكفئة على الرمال، لا بدّ أن أمواجاً رعناء قد ألقت بها إلى الشاطئ قبيل الفجر، بعد أن ابتلعت أصحابها الصيّادين أثناء الليل. وهكذا ظلّ البرق يفتح عينيْه المرهقتَين المستسلمتَين على اللوحات المعلَّقة على الحائط واحدة تلو الأخرى، ويُغمضهما بعد انحساره لا تَريان ولا تُريان. وظلَّ على تلك الحال مدّةً لم يعِ أمدها ولم يُدرِك أثرها.

وبينما كان مغمضَ العينَيْن مسترخي الأوصال، سمع فجأةً صوتاً غريباً يختلف عن جميع الأصوات التي ألفتها أُذناه في تلك الليلة. أحسَّ بحركةٍ مريبةٍ لا تُشبه أيَّة حركة سببتها عواصف ذلك المساء. لم يكُن ذلك الصوت قادماً من جهة البحر، ولم تكُن تلك الحركة آتيةً من مبعث الريح الغربيّة، وإنّما بدا له أنّهما صادران من الجهة الشرقيّة من الدارة. وبصورةٍ لاإراديَّةٍ، وقبل أن يُتاح له حتّى القليل من التفكير، التفتَ صوب مصدر الصوت والحركة، ليرى... ليرى بحدقتَي عينَيْه المنفتحتَين تماماً، شبحَ صديقه الراحل: طويلاً، مارداً، رهيباً، مُريعاً، في بياضٍ كالكفن، يدفع النافذة مشرعةً على مصراعيْها، ويندفع كصاروخٍ منطلقٍ، كنجمٍ مذنَّبٍ هائلٍ، إلى وسط الدارة.

حينئذٍ، انبعثت منه صرخةٌ حادَّةٌ مرعوبةٌ: لماذا؟ لماذا؟ وخرَّ مغشياً عليه...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى