الأحد ٥ كانون الثاني (يناير) ٢٠٢٠
بقلم جورج سلوم

العدوّ الموروث

مات أبواي وكان أمر الله مقضيّاً..وما صلّيت إليه يوماً أن يمنع عنهما الموت، ولكن أن يستأخره..وأن يستلطف في استيفاء أرواحهما إليه.

وكان الله (جلّ اسمه) رؤوفاً ورحيماً ولطيفاً في سلخ الروح عن هيكلها وجسدها.. فتبخّرّت أرواحهما وانسلّت خلسة وهما نائمان..وجاءهما ملاك الموت كاللصّ الجبّارالذي سيسرقهما حتماً كحتميّة القضاء والقدر، وجميلٌ أن يأتيك اللص السارق ولا تستفيق عليه لأنك إن استفقت سيثخنك بالجراح وأنت تقاومه قبل أن يسرقك.. ولن تفلح وكفى بالمرء رعباً عندما يستفيق على لصٍّ ويحاول الفكاك من براثنه.. ساعتها ستدافع أولاً عن نفسك وستخسر معركتك، وقبل أن تلفظ أنفاسك تكون قد عرفت تفاهة الهدف الذي ناضلت من أجله.

متاعٌ وحطامٌ دنيويّ زائل أنت أصلاً لن تأخذه إلى قبرك الوثير..دعه يسرق ما طاب له من مخازنك إن كان في ذلك فديةً لروحك.

هذا وإن كنت أشكر المولى على لطفه بهما، وإن كنت الآن أرجوه أن يرحمهما في نهايتهما الأبدية..إلا أنني وكأيّ بشريٍّ ناكرٍ للجميل أقول أنّه استعجل عليهما وما استأخر!
ولن أطيل..

فقد ورثتهما كأيّ وريث..وصارت تركاتُهما ملْكاً ليميني..بيوتاً وأموالاً وأوراقاً ممهورة ببصماتهم المُغيّبة..والتي ما زال معمولاً بها بالرغم من جفاف أحبارها.

ولا أزال أستذكر بعض دعواتهما إلى الله أن يروا ذلك اليوم..وما رأوه!

ذلك اليوم الذي تُعلَن فيه وفاة عدوّهما المشترك قبلهما وهما ما يزالان على قيد الحياة.. ويموتان بُعَيده بسويعة..سويعة يحتفلان فيها بالنصر النهائيّ..بحيث لا معارك بعده ولن تقوم له قائمة..ولم أكن لأجنّد نفسي في تلك العداوات العائلية المتوارثة، فأسميه عدوّهما فقط على طريقة النأي بالنفس والإرتقاء بالذات..إذ أنني ما تصوّرت نفسي يوماً معادياً لآدميّ من أجل شبرٍ من أرض أو ذيل ناقة أو أذن حمار..نعم قد يكون عندي منافسون ولكن لا يرتقون لمنزلة العدو

وكان يقول أبي.. عندها سأسلِمُ الروح مرتاحاً..لأنّ ورثتي سيكونون مرتاحي البال.. وكنت أستهجن وأمتعض وأستخفّ بأقواله، وأجدها عدائيّة وكيديّة ولا تليق برجلٍ شاخ الزمان عليه..وما ذلك العداء إلا استفراسٌ على أمتارٍ من أرض وعندكَ منها الكثير يا أبي.. وما ذلك العدوّ العتيد إلا شيخاً طاعناً في السن مهتزّاً بلا ريح، مرتجفاً ولا برد، دبقاً كدودةٍ أرضيّة، طريّاً كحلزونٍ هلاميّ، متقوقعاً بلا صوت ولا صورة..وماذا سيفعل لي ذلك المهزوز من بعدك يا أبي؟
وأين منه شبابي وقوّتي وعلمي وصلاتي المجتمعيّة الراقية؟

ليس أكثر من حشرة

وحتى أولاده الكثُر كالصراصير لا يحلمون أن يجلسوا في أطراف مجالسي.

نم هنيئاً في سريرك فقد أدّيت رسالتك على أكمل وجه..ولا تعبأ بحُطام الدنيا وترفّع عن عداواتٍ قديمة سيطويها النسيان..

وما كان أبي قادراً على مجاراتي في فنّ الكلام..لذا كان يفضّل الصمت ساخراً من عنجهيّة الشباب..وأمسك بعكّازه الخشبي وهزّه في الهواء كمن يشهر سيفاً وقال:

 احتفظ به للذكرى كما احتفظتُ أنا بعكّاز أمّك المعدنيّ الخفيف..وقد يلزمك للدفاع عن نفسك كعصا لمن عصا

ضحِكتُ وقلت:

 لا تبتئس..وقد رأيت بيوتاتٍ راقية يحتفظون فيها بالعكاكيز كإيقونات معلّقة جنيب الصور الجدارية لكبارهم الراحلين

وقبل أن ينام ليلتها قال:

 في نفس الخزنة التي ادّخرت فيها ما لي وما عليّ، هناك مسدّسٌ حربيّ حافظ عليه وامسحه بالزيت،وطبطب على رأسه كالكلب الحارس..دغدغْه فقد يلزمك في ساعةٍ تكون فيها مع العدو لوحدك..قد يعوي فيخيف العدو إن كنت لا تحبُّ له أن يعضّ ويدمي!

وجذبْتُ عندها فوقه الغطاء وأطفأت النور وتركته مع تلفازه قويّ الصوت، ومع أحلامه التي سيحكيها لي صباحاً وكلُّها قتال وأفاعٍ وعقارب وكوابيس.. إنه اكتئاب كبار السن وهو مرضٌ معروف..إنها ضريبة العجز والوحدة والضعف اللي سيدفعها المسنّ الهرم..وكلها طبعاً خاضعة لسخرية الشباب.

ولن أطيل..

فما أسرع ما أطلّ العدو برأسه بعد أن مات أبي..

كالجرذ كريه المنظر صار يعدو بحرّية في حياض الدار..وقال لي القوم انتبه فالجرذ يعيث فساداً وانتبه من تكاثر الجرذان..وما ارتكسْتُ لأنّ الجرذَ ذليلٌ سيلهو بالقمامة ويسكن البلاليع والمجاري..وإن كنت بدأت أرى روثه ينتشر في زوايا البيت كبصماتٍ لمروره في غيابي..وكان عليّ أن أنظّفه فيناتٍ وأحايين كواجبٍ وعملٍ وظيفيٍّ جديد عليّ..وبقيت رائحته المميّزة فأضفت مطهراً ومعطراً للجو..ووضعت في خططي المستقبلية أن أضع بعض السموم في الزوايا لترسله إلى حتفه..

إنها البداية من عدوٍّ متغطرس أن يجعلك جامعاً لبرازه!

كالثعبان يطلّ برأسه وأظنّ أنه لحَسَ كاحلي بلسانه المشطور وما لدغني.. وكان عليّ أن أغلق جحره بإسمنتٍ مجبول..وكان عملاً جديداً عليّ وواجباً إذ أنني خفت من منظره على صغاري..وما اعتبرتُ الثعبان إلا خوّافاً من صوت النعل في حذائي عندما يضرب الأرض بثقة الشباب.

ولن أطيل..

فما طال الوقت حتى رأيته يفترش فراشي لمّاعاً بجلده المرقّط شاخصاً ببصره إليّ بعيونٍ جريئة متحدّية..لا بل ويقتسم ممتلكاتي ويتلاعب بالحدود الفاصلة بيننا ويقضم منها أمتاراً تلوَ أمتار..وتذكّرت أمتار أبي وسنتيمتراته المقدّسة من الأرض.. لا بل ويلوك الثعبان طعامي ويقيء سمّه في صحني..لا بل ويعلو صوت فحيحه عن صمتيَ اللطيف واستئذانيَ الدّمث بأن يلتزم الحدود.

لكنّ العدو يبقى قوياً أمام ضعفك..

ونهرته فما انتهر وزجرته فما انزجر وهدّدته باللطف فما انحسر وبالصوت العالي فما اندحر..ورغيتُ وأزبدت وأقدمت وأدبرت فما انكسرت شوكته..لا بل أطلق إليّ لسانه المشطور وكشّر عن نابه المدبّب يسيل منه فيض السّم المحتقن والغيظ الموروث.

غيظك المتوارث أيها العدو الصديق يجب أن يكون اضمحلّ وخبا واختفى مع وفاة خصمك..وما بيني وبينك إلا السلام والكلام..فلمَ نبني جديدنا على موروث قديمك؟..نحن وإياك صفحة جديدة..أليس كذلك؟

لكنّ الحقد الكامن كان يعتمل في صدره..والثأر الموروث والشرّ المبيّت طاغيان من أمره ويفشيان عن سرّه ويفيضان من قربته ويتوثّبان من جعبته.

وكانت عصا أبي معلّقة في الجدار..وامتشقتها وهويت بها عليه فالتفّ عليها وسحبها من يدي واندفع نحوي في مطاردة نهائيّة..وحاصرني من غرفة إلى غرفة ومن زاوية إلى زاوية..حتى يمّمت وجهي نحو خزنة أبي أحاول الهروب بما فيها.

وبين رزم أوراقه وسنداته وأمواله الموروثة ارتطمَتْ أصابعي المرتجفة بمسدّسه الحربيّ.. وكأنني غريقٌ والتمستُ طوق النجاة..وكان عليّ أن أطلق النار قاتلاً أو مقتولاً.
وكان التلقيم قاسياً على المسدّس المنسيّ والمُهمَل..والزّناد صعب المراس..لكنه زغرد أخيراً وخرج عن صمته..

وأطلقت وأطلقتُ بين فكّي العدو الذي ما زال فاغراً فاه وقريباً مني..وكأنني أغمدت مسدسي في جوفه وأطعمته لذيذ طلقاتي.. لكنّ نابه المعقوف وصل إليّ وخدش مقبضي مؤلماً ورأيت دمائي الرّاعفة

وصحْتُ من الألم ووضعت يدي في فمي أسترطبها

وصحوت من غفلتي على منامٍ مزعج.. وتفقّدْتُ يُمنايَ وما كانت جريحة ولعقتها بلساني كالطفل أبلسِمُها بالرّيق الرّطب وأخفيها خجلاً من صورة أبي الجدارية، وحمدت الله على صحوتي ونجاتي.

رحمك الله أبي..فقد أورثتني ما لك وما عليك.. ولم تنسَ أن تورثني عداواتك وكوابيسك من جملة ما ورثت.

لا تؤاخذوني فلست عدائياً.. فمهما تجاهلتهم سيأخذوني لا بجريرة أعمالي بل بجريرة اسميَ الموروث من جملة ما ورثت.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى