الاثنين ١٩ آب (أغسطس) ٢٠١٩
بقلم صادق جواد سليمان

العلاقة بين الفكر والحرية

محاور هذه الورقة:

1: مفهوم الحرية وأهميتها

2: الفكر العربي المعاصر

3: العلاقة بين الفكر والحرية

4: معوقات الفكر الحر

5: رؤية مستقبلية لحرية الفكر

تعريفات عامة:

1: الحرية، بجميع تفريعاتها، هي تلك التي تكون حقا أصيلا للناس عامة بالتساوي أينما وجدوا، بمعنى أنها لا تحد بعرق أو جنس أو دين أو دولة.

2: الحريات المدنية هي تلك التي تكون بالتساوي حقوقا دستورية للمواطنين كافة ضمن كل دولة، بمعنى أنها، خلاف الحرية كحق إنساني أصيل، حقوق في إطار الدولة، تتفاوت في معطاها من دولة لأخرى.

3: حقوق الإنسان هي حقوقه من حيث هو إنسان، لذا لا تخضع لأيما تحديد بناءً على جنس أو عرق أو دين أو دولة.

4: الحقوق المدنية هي تلك المقررة دستوريا بالتساوي لكافة المواطنين ضمن كل دولة، بمعنى أنها، خلاف حقوق الإنسان الأصيلة، حقوق في إطار الدولة، تتفاوت في معطاها من دولة لأخرى.

5: مما تقدم يستخلص: الحريات المدنية والحقوق المدنية تحدد دستوريا ضمن كل دولة على حدة. الحرية كحق أصيل للناس عامة، وحقوق الإنسان من حيث هو إنسان، مرجعيتهما إنسانية عالمية، لذا هي تستلزم المراعاة من جميع الدول.

1: مفهوم الحرية وأهميتها

مفهوم الحرية وحقوق الإنسان قديم في وعي الإنسان، والتذكير بهما والتأكيد عليهما كأصدق صائن لكرامة الإنسان، وأهم ممكن للإنسان من تحقيق إنسانيته على الأمثل المتاح له، لم ينقطع عبر العصور. نجد ورورد ذلك في باكورة التاريخ المدون في شريعة حمورابي 1750 قبل الميلاد، والتي أجرى الملك البابلي حفر بنودها في لوحات نصبت في ساحات عامة لأجل توعية الناس بحرياتهم وحقوقهم المشروعة، ومن ثم تحصينهم من التعرض لظلم أو تعسف أو معاملة غير متساوية. نجد مثل ذلك عامة في طيات الرسالات الدينية والأطروحات الفلسفية في أدبيات مختلف الحضارات.

في الزمن الأقرب لنا نجد بلورة أوضح لمفهوم الحريات والحقوق في وثيقة "ماجنا كارتا" (الميثاق العظيم( الإنكليزية لعام 1215، ثم بلورة أوضح فأوضح في أطروحات فلاسفة الحقوق الطبيعية والتنوير التي اقتبست أفكارها لاحقا في إعلان الاستقلال الأمريكي، فالدستور الأمريكي، فإعلان الثورة الفرنسية.

الحرية كمفهوم هي القدرة على ممارسة الخيارات الذاتية، خاصةٍ وعامة، فكريةٍ وعملية، ضمن الأمور المشروعة والمتاحة في الحياة، دونما تعدٍ على حرية الآخرين، أو إتلاف لملكية عامة، أو إضرار بالصالح العام، ومن ثم، دونما إعاقة قسرية من أية جهة خارجية، ودونما ممانعة متعسفة من أي نوع. وفق هذا المفهوم تعتبر الحرية حقا إنسانيا أصيلا، إلا أنها توازنً بالمسؤولية الاجتماعية، وبذلك يغدو الإثنان بمثابة كفتي قسطاس مستقيم يلزم تواجدهما في تقابل في جميع الأحوال.

على الصعيد الفردي، الحرية حق إنساني أصيل، غير قابل للنزع أو الانتقاص دونما سبب مشروع. أكثر تفريعات الحرية محل التأكيد في العرف العالمي المعاصرهي ما وردت في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948، الذي اعتبر الإقرار بما لجميع أعضاء الأسرة البشرية من كرامة أصيلة فيهم ومن حقوق متساوية وثابتة بينهم أساسَ الحرية والعدالة والسلام.

ثم عقب التصديق على الميثاقين الدوليين عام 1976، ميثاق الحقوق المدنية والسياسية، وميثاق الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، شكل الميثاقان مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان منظومة موحدة تُراعَى من الجميع كونها بمثابة مرجعية دولية لحريات وحقوق الإنسان، ناصةٍ بالأهم على حرية وحق العيش في أمان، حرية وحق العيش بكرامة، حرية وحق اختيار المعتقد، حرية وحق التعبير، حرية وحق التجمع لغرض مشروع، حرية وحق العمل، حرية وحق التنقل، حرية وحق اللجوء، حق التحرر من الخوف، وحق التحرر من العوز.

في الإسلام، جميع تفريعات الحرية والحقوق هذه واردة ضمنيا بوجه عام، لكن دونما استقرار واضح لها بمعنى حقيقي. مثلا على صعيد حرية وحق اختيار المعتقد، والذي يعتبر من أهم تفريعات الحرية والحقوق إن لم يكن أهمها، أقر القرآن المجيد حرية وحق الإنسان في اعتناق أيما دين أو مذهب أو منظور فكري يستصوبه باقتناع ذاتي، وبذلك رفض مطلقا نقض حرية وحق اختيار المعتقد بالإكراه: " لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي - من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر - إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر" هي بعض من الآيات المقررة حرية وحق اختيار المعتقد في الذكر الحكيم. وأكد حق الحرية مبدئيا وعامة الخليفة الراشد عمر ابن الخطاب في استنكاره الشديد الشهير: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا. مع ذلك لا نرى لمفهوم الحرية عامة، ومفهوم حرية المعتقد خاصة، استقرارا في الفضاء العربي الاسلامي بشكل صريح ومطمئن، إذ أننا حتى هذا الحاضر، لا زلنا نواجه في عقوبة الردة تهديدا قائما أمام من يتجرأ ممارسة حرية اختيار المعتقد من المسلمين، بينما غير المسلم، إذا ما اختار أن يترك دينه ويُسلم، يُتلقى في الإسلام بحماس وترحاب.

في العصر الحديث اعتبر إعلانُ الاستقلال الأمريكي الحرية، والحياة، والبحث عن السعادة حقوقا ممنوحة من الخالق، غير قابلة للنزع. عقب ذلك اعتمد إعلانُ الثورة الفرنسية الحرية أحد مبادئها الثلاثة، إلى جانب المساواة والإخاء. بالإعلانين معا، وقد جاءا بتوال زمني قصير في الربع الأخير من القرن الثامن عشر، تدشن انتقال عالم الإنسان تدريجيا من عهود مديدة لملكيات مطلقة التصرف في الشأن الوطني، بناءً على زعم حق إلهي لنفسها في الحكم، أو استنادا لتقليد عتيق مجحف، إلى عصر جديد تحكمه سيادة الشعوب ضمن أطر حكم جمهورية كان العهد بها قد انقطع منذ جمهورية أثينا البدائية قبل أكثر من ألفيتين.

بمثل ذلك، عقب الحرب العالمية الثانية، فإنشاء الأمم المتحدة، أرسى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الحرية حقا إنسانيا أصيلا تنتفي بنقضه كرامة الإنسان، وتضيع في غيابه حقوقه الأساسية. وقد أضحى هذا الإعلان اليوم تعبيرا عالميا يُرجع له في تعريف حقوق الإنسان، وتباعا تعريف حقوق المواطنة، رابطا بين الاثنين كصنوين، حيثما يوفي بأحدهما بشكل جامع وأمين يستوفي الآخر بمثل ذلك كتحصيل حاصل، والعكس صحيح.

في إطار المواطنة تحديدا، تورد الحريات المدنية على صعيدين: صعيدٍ داخليٍ وآخر خارجي. على الصعيد الداخلي الحرية تتيح التمتع بكافة حقوق المواطنة بالتساوي مع عامة المواطنين دونما إعاقة أو ممانعة غير مبررة: مجتمعية كانت أو دينية أو سلطوية. هنا تتحدد للمواطنين حقوق واستحقاقات، وتترتب عليهم واجبات ومندوبات، دونما تمييز بينهم على أساس جنس أو حسب أو نسب أو قرابة أو جاه اجتماعي أو موقع سلطوي، ودون تخصيص قلة منهم بامتيازات مجعولة فيما الناس كافة فيه سواء. المواطنة بذلك تعني المواطنة المتساوية، لا تفريق فيها بين مواطن وآخر، كما لا تفريق بين الرجال والنساء، وحقوقها بذلك تتوازى مع حقوق الإنسان. بذلك أضحى اليوم مدى الوفاء بحقوق الإنسان وضمان الحريات الأساسية، تشريعا وتطبيقا، المسطرة الرئيسة التي تقاس بها جدارة الدول عالميا، وضمن الدول تقاس بها جدارة الحكومات.

في إطار المواطنة ترد الحرية السياسية مترجمة في أهم أبعادها إلى حق الشعب في اختيار حكامه وفي المشاركة ديمقراطيا في صنع القرار الوطني. وترد الحرية المدنية مترجمة في أهم أبعادها إلى حرية المعتقد، حرية التعبير، حرية ممارسة الخيارات الشخصية، وحرية التجمع والتعاون مع الآخرين لغرض مشروع. وترد الحرية الاقتصادية مترجمة في أهم أبعادها إلى حرية اختيار مجال العمل وحق وفور فرص العمل لجميع المواطنين (مسؤولية الحكومات) على أساس أجر متكافئ لعمل مماثل. وترد الحرية الاجتماعية مترجمة في أهم أبعادها إلى حق الاستفادة بالتساوي من التعليم والرعاية الصحية والإعانة الاجتماعية وحرية الزواج حسب الرغبة المشتركة للمقدمين عليه. وترد الحرية الثقافية مترجمة في أهم أبعادها إلى حرية الاحتفاظ بالهوية الثقافية واللغة الأم وإرث الآداب والفنون. هذا إلى جانب حرية الناس طرا في الاطلاع على عموم الإرث الإنساني العالمي من أديان وفلسفات ومناهج معرفية، ومذاهب فكرية وألوان الآداب والأعراف والفنون، ومن ثم حق الإنسان، أيا كانت خلفيته، في أن يتبني أو يستفيد من أي من هذه الروافد الإنسانية الفكرية المعرفية بناءً على اقتناع ذاتي.

أما على الصعيد الخارجي فالحرية تترجم سياسيا إلى استقلال الكيان الوطني واستقلالية قرارته السيادية، وتباعا إلى رفض أي نوع من سيطرة أو وصاية أجنبية. إلا أن حرية الدول لا تتحقق عمليا بشكل مطلق، بل هي في المعتاد تُحد طواعية في بعض مساحاتها بضرورات الاعتماد المتبادل بين الدول في معاملات تحكمها رغبة مشتركة في تبادل مصالح ذات نفع مشترك على أساس مبدأ التعامل بالمثل.

2: الحرية في الفكر العربي المعاصر.

في الفكر العربي ظل ولا يزال لدرجة ملحوظة أكثر التأكيد على الحرية واردا في خطاب التحرر من الخارج، وأقله على مطلب التحرر في الداخل. عبر عهود الفردية والاستبداد المديدة التي مرت بها الخبرة العربية وحتى عهد قريب، قلما ورد لفظ الحرية من حيث مدلول التحرر من قيود الداخل المفروضة عنوة على الشعوب من قبل أنظمة سلطوية متعسفة، بما في ذلك بالأخص الأدهى فروض طاعة غير مشروطة للحاكم وعقوبة فظة لمن يتعرض له بانتفاد.

في المقابل، ظل التأكيد دعائيا في جله على حرية الأوطان، أو بالأحرى على سيادة الدول، مقرونا بحرية الحكومات، ملكية أو جمهورية لا فرق، في التصرف في الشأن الوطني كيفما ترى أو ترغب. نادرا ما جاء التأكيد على حرية المواطنين مقرونا بالتأكيد على حقوق الإنسان وحقوق المواطنة. بتعبير آخر، حيثما ذكرت الحرية في الأدبيات العربية على مدى التاريخ، وهي نادرا ما ذكرت، قلما كان ذلك في نسق حق إنساني أصيل، ومن ثم كحق أساس من حقوق المواطنة المتساوية، وقلما كان على أساس ربط شرعية الحكومات بفرض وفائها بمطلب ضمان حرية المواطنين في سائر تفريعات الحرية والحقوق: سياسيةٍ، مدنية، اقتصادية، اجتماعية، ثقافية.

ترددُ الدول العربية المحافظة أمام قبول الصيغ العالمية الحديثة للحريات المدنية وحقوق الإنسان وحقوق المواطنة، بسبب تعارض تلك الصيغ هنا وهناك مع مقررات الشريعة الإسلامية، ظهر رسميا في العصر الحديث عند تبني الصيغ العالمية الحديثة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948. يومها كانت عضوية الأمم المتحدة 51 دولة، منها ست دول عربية، أربع منها – مصر، العراق، سورية، لبنان - تبنت الإعلان العالمي دون تحفظ (لم يكن التيار الإسلامي يومها بالشوكة التي يتسم بها اليوم). أما الخامسة، المملكة العربية السعودية، فإنها امتنعت عن التصويت، متحفظة على مادتين تحديدا: المادة 18 الناصة على حرية المعتقد، تحديدا حرية المرء في أن يغير دينه إلى دين آخر أو إلى لا دين، والمادة 16 الناصة على تكافؤ حقوق الزوجية بين الرجل والمرأة. أما الدولة العربية السادسة، اليمن، وهي يومئذ تحت نظام إمامة إسلامية تقليدية، فلم تشارك، في الظاهر بحكم ذات التحفظات.

إن أحد أخطر أسباب تراجع الأمم هو تعطل توليد فكر حيوي حر بسبب غياب حرية التفكير ومن ثم الإدمان على نقيض ذلك: أي الإدمان على اجترار أفكار الماضي ومعارفه غير المحققة علميا والتشبث بها في حاضر تجاوزها بأفكار ومعارف علمية محققة، وإزاء مستقبل متوسع المعرفة على قدم وساق، ومتزايد التشعب والتعقيد نتيجة تطور التكنولوجيا وأنظمة الإنتاج والإدارة والاقتصاد. حيثما يستمر هذا الحال لمدى طويل تخسر الأمة قدرتها على استقراء ماضيها بدقة وموضوعية، ومن ثم تعجز عن الاستفادة من أخطاء الماضي التي بسببها كان تخلفها على مسار التقدم الحضاري. عندها تضعف الأمة في تعاملها مع تحديات الحاضر بفكر الحاضر، وتفقد مكنة التبصر في المستقبل بنظر ثاقب سديد. عندها تدمن على استحضار الماضي، متعلقة بأهداب ما تعتبره منجزات جديرة كانت لها في عهد سلف، عندها تتجاهل تحديات الحاضر، متعاجزة عن مواجهتها بشكل ناجع، تاركة نفسها على مسار ونحو مصير يتشكلان عشوائيا كيفما اتفق. عندها تصرف النظر عن بذل أي جهد يذكر لسد نقص الحاضر وتأمين استحقاقات المستقبل، متعلقة بأمل كاذب أن يُسعَف أمرُها بقضاء وقدر، أو ربما بمدد يأتيها من السماء.

هناك عديد بين المفكرين العرب من يرون الأمة العربية على مثل هذا الحال ومن يرون أن غياب الاهتمام بإفساح نطاق الحرية وغياب تأصيل حقوق الإنسان وحقوق المواطنة في البنية الدستورية للدول العربية، ومن ثم الإخفاق في ترسيخ الحرية والحقوق تشريعا وتطبيقا في الحياة العربية، كل ذلك كان ولا يزال السبب الفاعل في استدامة الرباعي المعوق للانتهاض العربي: رباعي الاضطراب السياسي، التشرذم الطائفي، العجز الاقتصادي، والتخلف المعرفي. بدوري أراني مشاركا هذا الرأي، وأراني مع الكثيرين منا بأسىً شديد إزاء هذا الّذي ما زلنا نشهده ونعانيه من أوجه قصور حضاري خطير ومزمن في الحياة العربية المعاصرة.

(ملاحظة يجدر أن تذكر: لفظ الحر، بخلاف لفظ الحرية، عريق الورود مكررا في العربية، وينطوي على معنى يعلو على مجرد معنى الطليق. في العربية الحر إنسان أبي، وفي، شهم، منصف، كريم، وإن استلب، في أيما ظرف مجحف، حرية الحركة والاختيار. بهذا المعنى يمكن القول عربيا: رب طليقٍ غيرِ حر، ورب حرٍ غيرِ طليق. نلاحظ هذا التمييز مثلا في قول النبي مخاطبا أبا سفيان ورهطه إثر فتح مكة: اذهبوا فأنتم الطلقاء – أي أن لكم سائر حريات التنقل والحراك الاجتماعي، لكنكم لم تتحلوا بعد بشمائل الأحرار. مثل ذلك نجده في قول ابن زيدون الأندلسي مخاطبا محبوبته: دومي على العهد ما دمنا محافظة، فالحر من دان إنصافا كما دينا. ونجد مثله في قولِ أحمد شوقي: وللأوطان في دم كل حر، يد سلفت ودين مستحق).

3: العلاقة بين الحرية والفكر:

في سجل الخبرة البشرية نرى تحولات كبرى تنشأ من أفكار تولد صغيرة وتؤول إلى نقل الخبرة الإنسانية إلى مسارات كبرى جديدة. ذلك أن عالم الفكر ليس عالما راكدا وإن بدا أنه راكد إزاء ما نشهد من صخب عالم الحركة. في عالم الحركة يوجد كثير من زبد، وأقل من ذلك مما ينفع الناس. بمعنى آخر، قليل من الحركات الصاخبة يكون وراءها فكر نير، وحيث الحركات لا تنبثق من فكر نير، ولا تندفع بهديه، تكون أدعى للإخفاق، وبالنتيجة أدنى أن تضر بدل أن تنفع. من هنا نرى أن كل وضع تقليدي راكد يخشى أثرالفكر النير الذي يتحداه أكثر مما يخشى صخب الحركة التي تنازعه. ذلك أنه إذ يستطيع مواجهة أيما حركة بحركة أقوى، وأن يقابل أيما عنف بعنف أشد، فإنه لا يستطيع مواجهة فكر إلا بفكر أرقى، وهو ما هو منه فقير.

تاريخ الفكر هو تاريخ الإنسان منذ أن وعى الإنسان على نفسه ومحيطه. الحضارات عامة في انطلاقاتها الفكرية الأولى أودعت أفكارها في صياغات دينية. جميعها في مسعاها لأجل فهم الذات والكون والسنن السارية في الكون، وبالأهم، لأجل فهم المقادير المؤثرة في حظوظ الناس، تعاملت مع الوجود بفكر متهيب من المجهول، الأمرالذي جنح بها نحو تأويلات غيبية في قراءة الطبيعة وتمظهراتها، في استقراء نشوء الحياة على الأرض وتطور أجناسها، في فهم وضعية الإنسان ضمن حراك الحياة، وفي تخيل مآل الإنسان بعد الوفاة.

إلا أن الفكر الديني بعد ردح من الزمن، إزاء تراجع اقتناع الناس بشروحاته الغيبية، لم يجد مناصا من أن يطرق باب المعرفة العلمية المستنبطة بالاجتهاد الإنساني، فطرقه لكن بشديد حذر. في ذلك، بانتقائية غير عابهة كثيرا بمعيار المنهج العلمي، صنع الفكر الديني سندا كلاميا زاخرا لتبرير تأويلاته، سندا متناغما مع المعرفة العلمية حيثما ناسبه، وخلاف ذلك، متفاديا التصادم مع مخرجاتها المحققة علميا ما امكنه. بذلك تصالحت الديانات مع المعرفة العلمية لكن على مضض كامن وارتياب مستتر، بعد أن خاصمتها جهارا لأمد طويل، وتعاملت مع رادتها من العلماء والفلاسفة بغلظة وجفاء.

الفكر هو ما نشعر به بوجودنا، ونهتدي به إلى وجود ما حولنا، قريبه وبعيده، ظاهره وباطنه. هو ما ننطلق منه في تعاملنا مع كافة أمور الحياة وما نحاول استنباطا به فهم خفايا الوجود. فإن كان فكرا سليما جاء نظرنا وأداؤنا سليما وفق نسقه، وإن كان فكرا معتلا جاء نظرنا وأداؤنا معتلا على شاكلته. من هنا ضرورة أن نحرص دوما على سلامة التفكير، وذلك باجتناب جميع مشوهات التفكير، أكانت عضوية الأثر، كمواد السكر والتخدير، أو نفسيةً الوقع، كالانفعالات التي تخرج المرء عن طور الرشاد، كما يحصل في حالات الغضبِ والغرور والحسد وكراهية الآخر ونزعة الانتقام واتباع الهوى والأثرة المجحفة بحقوق الآخرين.

إلا أن أشد عوامل تعطيل التفكير السليم هو الخوف الذي يستلب الانسان حرية الإرادة والاختيار. تحت تأثير فقدان الحرية تنشل ملكة التفكير فيفقد الإنسان قدرات المبادرة والريادة ويتطبع وضعه على التبعية والتقليد. وحيثما يعم هذا الحال سواد مجتمع ما ترى المجتمع يتراجع في حراكه الحضاري نتيجة انحسار أفقه الفكري ومن ثم توقفه عن الابتكار والإبداع. بذلك نستبين وضوحا طبيعة العلاقة بين الحرية والفكر: أنها علاقة عضوية طردية، فحيثما تكبت الحرية ينضب الفكر، وحيثما ينضب الفكر تضعف مكنة الاستنارة والاستبصار، فيصاب اجتهاد المجتمع بخبط وشطط، وتتكرر الأخطاء. في المقابل، حيثما تسود الحرية موازنة مع المسؤولية الاجتماعية بتناسب عادل محكم، ترى المجتمع يتنفس بملء رئتيه، منتجا، مبدعا، وصانعا حياة طيبة يقوم صرحها الحضاري على الثنائي الأساس لتطور الإنسان للأوفي والأمثل: أي ثنائي التوسع في المعرفة العلمية والارتقاء في مكارم الأخلاق.

4: معوقات الفكر الحر

من التفكير تتولد المشاعر، ومن المشاعر يتولد أسلوب التعامل مع الأشخاص والأمور، ومن أسلوب التعامل تتولد الأفعال، ومن تكرار ذات الأفعال تتولد العادات، ومن العادات ترتسم شخصية المرء، ومن شخصية المرء تنتسج سيرته وتصاغ نوعية خبرته الحياتية.

من التفكير إذن يكون البدء وصولا إلى نوعية الحياة التي يعيشها المرء. نوعية الحياة بمعايير الطيب والسعد والعلم والإنتاج والعطاء هي ما يصبو إلى تحقيقها المرء في نفسه وفي مجتمعه في المؤدى الأخير. لكن كيف يمكن ضمان سلامة التفكير ابتداء حتى تضمن تباعا سلامة المشاعر، فسلامة التعامل، فسلامة الأفعال، فسلامة العادات، فسلامة السيرة الحياتية، وصولا إلى نوعية حياة راقية؟

العوامل التي تؤثر في التفكير سلبيا أو إيجابيا ثلاثة، وعلى المرء أن يرصد كلا منها، محاولا إبطال كل تأثير سلبي، وتعزيز كل تأثير إيجابي. العامل الأول هو التجارب الشخصية، بمعنى أن ما يمر به المرء من سلبية أو إيجابية العلاقات الشخصية والظروف الحياتية تضفي على تفكيره سلبية أو إيجابية مماثلة. العامل الثاني هو ما يستقبل المرء في المعتاد من أخبار ومعلومات سلبية أوإيجابية، محلية أو عالمية، بمعنى أن الطبيعة السلبية أو الإيجابية لما يستقبل مكررا تضفي على تفكيرة سلبية أو إيجابية مماثلة. العامل الثالث هو ما يعتقد المرء من معتقدات غرست فيه من صغره ثم إنه لم يعمل تفكيره فيها مراجعة أو تمحيصا من جديد، فارتست في وعيه. معتقدات كهذه إن كانت سلبية المضمون والمنظور تضفي على تفكيره سلبية مماثلة، والعكس بالعكس. العامل الأخير هذا، المتصل بالمعتقدات، هو أكثر العوامل الثلاثة تجذرا، لذا أشدها تأثيرا على التفكير وأمنعها على المراجعة والتقويم.

بسلبية العامل الأول والعامل الثاني - التجارب الشخصية والمتلقي مكررا من أخبار ومعلومات - تتصل العادات والتقاليد السلبية، أي تلك المعوقة لسلامة التفكير. العادة هي الممارسة التي يعود لها المرء دون إعمال تفكير جديد. هي ما ينزلق إليها المرء لسهولة العمل بما هو معتأد لديه بشكل مكرر، لذا لا يتطلب الإتيان به أي تفكير. هي ما اعتاد عليها المرء مرارا فلا يجد في العودة إليها أية مخاطرة نحو حيز مجهول. التقليد هو الممارسة التي يقلد فيها المرء غيره دون مراجعة أو تمحيص. بالتقليد تتضاءل لدى المقلد المقدرة على ممارسة تفكير مستقل. من التقليد تتولد التبعية وتنضب مكنة الريادة والمبادرة والإبداع.

العامل الثالث يتصل بالمعتقدات، وهي في الأعم معتقدات الأديان. أيا كانت مضامين المعتقدات الدينية السائدة في المجتمعات المعاصرة فهي قد غدت مألوفة ومقبولة ومحل توقير لدى عامة الناس، لذا هي أجدر أن تصطحب إيجابيا، وربما أيضا استرشاديا، لا أن تزدرى أو تهجر. بهذا المعنى تبقى الأديان إرثا ثقافيا يستفاد من معطياتها حيثما يرد ضمن معطياتها ما يتطابق مع المعطى المعرفي المستنبط بالاجتهاد الإنساني المتبلور باطراد، وحيثما أيضا تتطابق معطياتها مع المعايير الخُلقية المتطورة في الوعي الإنساني من خلال ارتقاء الفكر المسند بالمعرفة العلمية والناشد دوما الأوفى والأمثل عدلا وعلما وطيبا وسعدا وإنتاجا ويسرا لعامة الناس مدار الأرض.

نظري هذا يتطابق إجمالا مع ما انتهى إليه اجتهاد سائر الأمم في صياغة تعاملها مع دياناتها الموروثة من حيث الحفاظ عليها والاحتفاظ بما ورد فيها واصطحابها بالتوقير والحسنى، دون محاولة تعريضها لأي تفنيد جارح أو تحريف. مقابل ذلك، توافقا مع الاجتهاد الأممي المعاصر أيضا، أرى فك الارتباط بتشريعات الأديان في مجال تنظيم وتدبير وإدارة الشأن العام. في مجال الشأن العام، تنظيما وتدبيرا وإدارة، تتبنى الأمم المعاصرة نهجا متوافقا مع حركة العصر الحديث، مستهدية بإناراته المعرفية المتبلورة باطراد. بذلك هي تمكن نفسها من الوفاء بمتطلبات العصر وتباعا من التعامل بنجاعة مع المستجدات المتسارعة في الحراك الإنساني ذات التأثير الحيوي المرتقب على حياة الشعوب، وبالأهم على مستقبل الأجيال وسلامة الأوطان.

بتعبير آخر، أرى أن يستفاد من إضاءات الأديان حيثما ترد مستوفية المطلبين: مطلب التوافق مع المعارف العلمية المعاصرة، ومطلب الالتزام بالمعيار الخلقي الحضاري المتصل بالحريات والحقوق. بناءً على ذلك، لا أرى أن تبقى الأديان مرجعية معرفية يعتد بطروحاتها الميتافيزيقية في صياغة فهمنا لطبيعة الوجود والسنن الكونية السارية في ثنايا الوجود، أكان في سياقات الطبيعة عامة أو في الحراك الإنساني بالتخصيص. تباعا، لا أرى أن تتخذ طروحات الأديان مصدرا لتشريع وتنظيم وإدارة الشأن العام، لا على الصعيد الوطني ولا على الصعيد العالمي المشترك بين الشعوب.

5: رؤية مستقبلية لحرية الفكر

ما هي عناصر التفكير السليم الذي لا يمكن أن ينتج ويتبلور إلا في مناخ مجتمعي تسود فيه الحرية موزانة مع المسؤولية الاجتماعية وفق تناسب عادل محكم؟ تلك العناصر هي بنظري ثلاثة: المعرفة العلمية، المنطق العقلي، الضابط الخلقي. من ترافد هذه الثلاثة ينبثق المنهج المعرفي الصائنُ سلامة التفكير. لأجل تكوين رؤيا مستقبلية لما نرغب أن نرسي عليه اجتهادنا الوطني لننظر مليا في كل من هذه العناصر الثلاثة ومن ثم في المنهج المعرفي ككل.

العنصر الأول في المنهج المعرفي الصائن سلامة التفكير هو المعرفةُ العلمية ذاتها، أي الإحاطةُ بالشيء أو الأمر الذي نتعامل معه إحاطة موضوعية وافية. المعرفة العلمية في سياقها التاريخي نتاجٌ إنساني مشترك، تداورت على بلورتها الحضارات من خلال تقابس متبادل مستدام. مضمار المعرفة مفتوح أبدا أمام الاستنباط: تحققا وتوسعا وتعمقا في كافة المجالات. في عصرنا المعرفة تتضاعف طردا أضعافا مضاعفة في الرصيد الإنساني، بفضل أبحاث جادة وجريئة يقوم بها باجتهاد دائب علماء أجلاء من مختلف الأمم. في عصر سلف كان للأمة العربية الإسلامية شأن معرفي مشهود حين جمع وترجم وشرح علماؤها وفلاسفتها المحاصيل المعرفية لمختلف الحضارات التي خلت قبلهم، ثم أنتجوا باجتهاد ذاتي أبحاثا معرفية رائدة على مدى عدة قرون تكون من معطاها الصرح المعرفي الأساس للعصر الحديث. حصلل ذلك بعد أن انحسر المد العربي الإسلامي المعرفي أمام ممانعة أهل الكلام، ثم تلقفت النتاج المعرفي العربي الاسلامي أمم الغرب بعد حين. بعملية اقتباس نشط وغزير، ثم باجتهاد ذاتي متواصل، بنى الغرب تراكميا الحضارة التي نعيش معطاها اليوم مدار الأرض في عموم حراك الحياة.

العنصر الثاني في المنهج المعرفي الصائنِ سلامة التفكير هو المنطق العقلي. بالمنطق العقلي نتعامل مع التعالقات بين الأشياء والأمور: بين العلة والمعلول، بين السبب والأثر، بين التنظير والتجريب، بين الاستقراء والاستدلال، وصولا الى استبيان الأوفق من الإمكانات المودعة في الطبيعة واستنباطا للأصوب والأمثل من الخيارات المتاحة للإنسان لأجل حفظ ذاته، إنماء وعيه، وتدبير معاشه. بصرامة ذهنية، وبموضوعية لا تساوم، يُبين المنطق العقلي الواقعَ كما الواقع عليه، فلا يدع مجالا لبناءات ظنية أو شطط أو تورية أو تحريف. بالمنطق العقلي نبطل تأثيراتِ رضا أو سخط، فلا تعود عين رضانا كليلة عن كل عيب، ولا عين سخطنا كفيفة عن كل فضل.

بالمنطق العقلي ندرك أن في أيما مجتمع، الظلم يؤدي إلى اضطراب سياسي فتفكك اجتماعي، التمييز بين الناس على أساس جنس أو نسب أو جاه أو مال أو موقع سلطوي يخل بكرامة الإنسان. غياب شورى صادقة ينقض المساءلة، فيتولد الاستبداد. تفشي الجهل والفقر يكرس التخلف ويزيد المعاناة. النزوع الطائفي يفرخ التعصب والخصام. ليكن لأيما مجتمع أيما دين أو ثقافة أو عرق، إذا ارتضى تحكم هذه العوامل السلبية في تسيير شأنه فليس له سوى أن يلوم نفسه إذا تعثر سيره وتردى حاله، وانقطعت عليه سبل تحقيق الأمن والنماء.

على الوجه الآخر، بالمنطق العقلي ندرك أن في أيما مجتمع العدل يؤدي إلى استقرار سياسي ووئام اجتماعي. المساواة بين المواطنين تعزز روح الانتماء للوطن وتحفز على خدمة الصالح العام. رسوخ شورى صادقة يوطد قاعدة المساءلة ويقي من مفاسد الاستبداد وشرور التسلط. نشر العلم واليسر المعيشي يخلق النماء ويثري خبرة الحياة. ثبات الوسط الوطني يستجمع الطاقات من كافة الأطراف وبتظافرها يمكن من نهوض حضاري. هنا أيضا، ليكن لأيما مجتمع أيما دين أو ثقافة أو عرق، إذا ما حافظ على استمرار هذه العواملِ الإيجابية في بناء خبرته، فإنه يشهد تطورا للأحسن ويجد ميسورا أمامه تحقيق الأمن والنماء.

بالمنطق العقلي ندرك أن المباعدة بين المسؤولية والمساءلة تعطب أداء كل منهما فلا المسؤولية تنجز بشكل صحيح ولا المساءلة تمارس كما ينبغي أن تمارس لأجل ترشيد الأداء وتقويمه. ذلك أنه عندما تحصرالمسؤلية العامة في شخص أو في نفر معين كأمر ثابت ولمدى مستدام دونما مساءلة يحدث خلل في النظام العام وتباعا يحدث صدع في الاستقرار السياسي ومن ثم في الوئام الاجتماعي. فإذا طال هذا الحال فإنه يستولد ظاهرة الاستبداد التي، كاستتباع منطقي، تستولد ظاهرة الفساد.

الضابط الخلقي، ثالث عناصر المنهج المعرفي الصائنِ سلامة التفكير، يرشد الغاية والوسيلة معا، وبذلك، يدفع الفرد والمجتمع معا للارتقاء للأمثل. مسعى الارتقاء كثيرا ما يتعرض لمزالق الهوى والحمق. الضابط الخلقي يحصن المسعى بتوطيد مبادئ العدل، والمساوة، وكرامة الإنسان، والشورى: المبادئُ الأربعة المؤصَلةُ قرآنيا، والتي منها تتفرع جميع حقوق الإنسان المشخصة عالميا، ومنها تُستمد، أو يجب أن تُستمد، حقوقُ المواطنة في كل دولة. من بعد ذلك، الضابط الخلقي يلزمنا بالصدق دوما، وباللاعنف ما أمكن: الثنائيّ الذي برهن مهاتما غاندي نضاليا في الهند، وماتن لوثر كنج في الولايات المتحدة، ونيلسن مانديلا في جنوب أفريقيا، نجاعة تأثيره في إحقاق الحق وإزهاق باطل عنيد.

الضابط الخلقي هو بمثابة جرس أودع في ضمائر البشر ليحذر من مغبة كل جنوح لعمل آثم أو تصرف مشين لا يليق بالإنسان كمخلوق كريم. فإن جافى المرء ضميره وأجرم عاد الضمير ليلومه ويقلق مضجعه حتى يكفر عن جرمه ويتوب. في ذلك رحمة، كي لا يستمر المرء في غيه فتتراكم تبعاته، بل أن يتدارك ويصحح سريعا ما يكون قد بدر منه من خطأ أو تقصير، لأن في ذلك إزالة لما علق به من ردن الإثم واستعادة لكرامته كإنسان.

في قناعتي، أي فكر لا يستند إلى هذه العناصر الثلاثة المكونةِ مجتمعةً المنهجَ المعرفي: أي أن أي فكر لا يستند إلى المعرفة العلمية ؤلا يستقرئ الأمور بالمنطق العقلي ولا يلتزم بالضابط الخلقي مرشدا عموم النظر والأداء، هو فكر غير قويم، أمورس على صعيد شخص، أو جماعة، أو مورس في سياسة دولة أو من منظور دين.

بما وعيتُ عن الشأن البشري أستبنتُ أن ما يَصلح وينمو به حال فرد، يَصلح وينمو به حال أمة، وبما يَصلح وينمو به حال أي فرد أو أمة، يَصلح وينمو به حال جميع الأفراد والأمم، بصرف النظر عن فارق دين، أو عرق، أو جنس، أو ثقافة، أو موطن. سنة الله قسطاس مستقيم: لا تحابي أحدا ولا تجافي أحدا. كما نزرع نحصد. لا عمل يصدر منا إلا ويعود علينا أثره: خيرا بخير، وشرا بشر. فإذا شكرنا شكرنا لأنفسنا، وإذا أحسنا أحسنا لأنفسنا، وإذا ظلمنا ظلمنا أنفسنا، وإذا كدنا بالمكر السيء حاق بنا المكر السيء: تلك بصائر من الفكر النير للناس كافة نتدبرها في القرآن المجيد.

أخيرا، أفكار ستة أرى أنها بقدر ما تستقر في وعي الإنسان ووجدانه، فتفعَل عمليا في عموم نظره وأدائه، تصنع، وطنيا وعبر العالم، حياة طيبة ثرية، حياة مهيأة لانطلاق حضاري.

*الفكرة الأولى هي فكرة وحدة الإنسانية: على هدي الآية: هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها، وعلى هدي قول الإمام علي ابن أبي طالب: الناس صنفان، إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق.

*الفكرة الثانية هي فكرة الحرية: الحرية ليس بالمطلق، وإنما كحرز أمان ضد الاستعباد: على هدي الآية: ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله، وعلى هدي قول الفاروقِ عمرِ ابن الخطاب: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا.

*الفكرة الثالثة هي فكرة المساواة: على هدي الآية: إن أكرمكم عند الله أتقاكم.

*الفكرة الرابعة هي فكرة العدالة والإحسان والصلاح والنماء: على هدي الآية: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي .... ولا يجرمنكم شنئآن قوم على ألا تعدلو، اعدلوا هو أقرب للتقوى.

*الفكرة الخامسة هي فكرة كرامة الإنسان: على هدي الآية: ولقد كرمنا بني آدم و حملناهم في البر والبحر. ..

*الفكرة السادسة والأخيرة هي فكرة الشورى الحاصنةِ ضد الاستبداد والفساد: على هدي الآية الكريمة في توصيف مجتمع المؤمنين: وأمرهم شورى بينهم.

بهذه الأفكار المثلى، على مر العصور، ذكر الأنبياء، إليها ندب الحكماْء، عليها قامت الحضارات، وبهديها جرى تطور الإنسان، وعيا ومكنة، عبر تعاقب العصور. هي أفكار مشخصة في حضارتنا العربية الإسلامية، وفي الفكر الإنساني النير بسواء. هي أفكار تنشد تحقيق العدل والإحسان والصلاح والنماء في الحراك الإنساني في كل مكان. وهي أفكار تتسق مع ما يطمح ملتقاكم إلى تحقيقه، إحياءً لكل أثر حميد، ومعاصرةً لكل تطور رشيد. هي لذلك أفكار جديرة بأن يتمحور اهتمام العالم حولها، ويتركز سعي الأمم والشعوب على تفعيلها: في دساتيرها، في تشريعاتها، وفي مناهجها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. ذلك أنها هي التي في المؤدى الأخير تضمن الحريات والحقوق وبها تتحقق وترتقي إنسانية الإنسان، وعيا ووجدانا، وطنيا وعالميا، جيلا إثر جيل.

ورقة جرى تقديمها إلى ندوة حرية الفكر: الأربعاء والخميس 23 و24 نوفمبر 2016
مجلة: عالم الفكر - المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، دولة الكويت

**صادق جواد سليمان: مفكر وكاتب عُماني، سفير سابق في واشنطن وطهران.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى