القدم التاريخي لمصطلح
إن ما يميز الحضارة العربية الإسلامية انفتاحها على العالم بأسره، ومد جسور التواصل مع كل الحضارات ونتج عن هذا التواصل تلاقح في المعرفة، ولد حضارة أظهرت ما كان سيندثر من علوم من سبقها من الأمم، ولم تكن الأمة قاصرة على النقل دون الإسهام في توسيع العلم و تفريعه إلى فروع، أفادت الإنسانية جمعاء، وإن أجمع تعريف للعلم هو: أن يتم به نفع الإنسان فكريا ورحيا واقتصاديًا واجتماعيًا، وهذا ما تحقق في الحضارة الإسلامية، وسأقف في هذه الأسطر على علم، أو على مصطلح علمي ظهر في الحضارة الإسلامية، وامتد إلى العصر العثماني تقريبًا، هذا العلم هو: حساب الجمَّل.
وقد عرف حساب الجمل عند اليهود و العرب قبل الإسلام ووظفه المسلمون في تثبيت التاريخ ... لقد اطلع العرب على حساب الهنود فأخذوا عنه ... و هو نظام الترقيم على حساب الجمل ، و كان العرب قديماً قد أستخدموا نظاماً عددياً مرتبطاً بالحروف الأبجدية العربية سموه:بنظام الترقيم على حساب الجمل.حيث وضع لكل حرف أبجدى عدد يدل عليه، فكانت الحروف الأبجدية تمثل أرقاماً.فكانوا من تشكيلة هذه الحروف ومجموعها يصلون الى ما تعنيه من تاريخ مقصود وبالعكس كانوا يستخدمون الأرقام للوصول الى النصوص1.
وقد وقفت على هذا المصطلح في أهم الكتب الجامعة، وخصصت منها معجمًا يعد أول معجم عرف في البيئة العربية هو: معجم العين للخليل بن أحمد الفراهيدي ، وكتابين يعدان من أهم كتب تصنيف العلوم ومصطلحاتها هما: مفاتيح العلوم للخوارزمي ت 385هـ ، و كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم للتهانوي ت تقريبا 1160هـ، ينتمي الأول إلى عصر تدوين العلوم العربية، وينتمي الثاني إلى عصر الكتابات الموسوعية، وكان الهدف هو: إظهار قدم ظهور هذا العلم في البيئة العربية، والتغير الدلالي الذي طرا عليه.
وأشير إلى أن هذه الوقفة تحتاج إلى مزيد من التوسع ، بحيث يذكر ورود المصطلح في أكثر من كتاب؛ حتى تتحق الدراسة التأريخية بشكل وافٍ لهذا المصطلح. ولكنها وقفة موجزة تعد نقطة انطلاق لبحث أوسع.
فقد وجدت أنه علم قديم قدم تدوين العلوم العربية؛ إذ إن الخليل بن أحمد الفراهيدي صاحب أول معجم في تاريخ التدوين المعجمي العربي ذكره فقد قال في معجم العين: (( الضاد مع الصاد لم تدخلا معا في كلمة من كلام العرب إلا في كلمة وضعت مثالا لبعض حساب الجمل وهي (صعفض ) هكذا تأسيسها وبيان ذلك أنها تفسر في الحساب على أن الضاد ستون والعين سبعون والفاء ثمانون والضاد تسعون فلما قبحت في اللفظ حولت الضاد إلى الصاد فقيل صعفص2)).
ثم وجدت أحد مصنفي العلوم والذي يعد الرائد في تصنيف العلوم العربية وهو( الخوارزمي الكاتب، أبو عبد الله محمد بن أحمد بن يوسف تـ 385 هـ، وهو غير محمد بن موسى الخوارزمي الرياضي) قد ذكر هذا الفن ضمن مقالة (الأرثماطيقي / علم العدد/ – الفصل الخامس- في وجوه الحسابات- بين صفحات كتابه مفاتيح العلوم) حيث قال: (( حروف حساب الجمل وهي أبجد هوز، حطي كلمن ، سعفص قرشت، ثخذ ضظغ. هذا على ما يستعمله المنجمون والحسّاب، فأمّا على ما تعرفه العرب فهي: أبو جاد – هواز - حطيّ –كلمون - سعفص- قرشات - ويزعمون أنها: أسماء ملوك العرب العاربة3)).
ثم يضع الخوارزمي جدولا بين فيه طريقة استخدام المنجمين للقيمة العددية للحروف على الشكل التالي4:
آحـاد أ ب ج د هـ
1 2 3 4 5
و ز ح ط
6 7 8 9
عشرات ي ك ل م ن
10 20 30 40 50
س ع ف ص
60 70 80 90
مئون ق ر ش ت ث
100 200 300 400 500
خ ذ ض ظ غ
600 700 800 900 1000
ثم نأتي إلى مصنف يماثل في تصنيفه تصنيف الخوارزمي إلا أنه متأخر عنه أكثر من سبعمئة سنة، هذا المصنف هو: محمد بن علي التهانوي تـ بعد 1158هـ صاحب معجم، أو موسوعة : كشاف اصطلاحات الفنون. يذكر هذا المصطلح في كتابه معرفًا إياه بقوله: (( الجمَّل الكبير: عبارة عن أعداد الحروف بالحساب الأبجدي، هكذا يفهم من بعض رسائل الجفر. وفي الأقاليم السبعة لأحمد الرازي ورد قوله: والمراد من الجمّل الصغير الحساب الأبجدي، والمراد من الجمّل الكبير هو: أن يكون للحروف اعتبار ملفوظ؛ لأنه عبارة عن إسقاط الحرف الأول، وما بقي فيراعى في حسابها الجمّل الصغير. ......... وفي النتخب: الجمّل بضم الجيم وتشديد الميم المفتوحة هو حساب أبجد، وورد أيضًا بالتخفيف5 )) ( حساب الجُمَل ).
من خلال العرض السابق والذي أوجزت فيه وحصرته بكتب تعد من أمهات الكتب العربية التي جمعت ألفاظ العربية العامة والخاصة، فكان الأول من المعاجم اللغوية العامة( معجم العين) والاثنان التاليان من معاجم المصطلحات العلمية أو اللغة الخاصة بالعلماء( مفاتيح العلوم، وكشاف اصطلاحات الفنون) وكان هذا الاقتصار للدلالة على قدم هذا المصطلح الذي ظهر مع بداية تدوين المعاجم العربية، وكذلك للتدليل على التطور الدلالي لاستخدامه، وهذا التطور متعارف عليه في لغات العالم كلها، فقد ذكره الخليل دون الإشارة إلى العلم الذي يرتبط به ، ثم رأينا الخوارزمي يعدد المجالات التي يستخدم فيها وكان قد خصه بالسحر وهو الذي لا يعده العلماء المحققين علمًا وقد لا موا الخوارزمي على درجه لمصطلحات السحر ضمن صفحات كتابه، إذ إنه قائم على التخييل ولا مكان للتخييل في ساحة العلم.
أما التهانوي فقد جعله في حقل علم الجفر : وهو(( العلم الذي يبحث فيه عن الحروف من حيث هي بناء مستقل بالدلالة، ويسمى بعلم الحروف، وبعلم التكسير، .......... ورأيت أنا بالشام نظمًا أشير فيه بالرموز إلى أحوال ملوك مصر6)).
وهكذا يبدو لنا أن المصطلح لم يكن محصورًا بعلم محدد فقد تطورت دلالته بحسب الحقل العلمي الذي يستخدم فيه.
كما أنه استخدم كشيفرة في العصر العثماني حيث كان يكتب بيت من الشعر قائمًا على حساب الجمل فالبيت الشعري يمثل تأريخًا للحدث الذي تم، مثل بناء مسجد، أوغيره. وبهذا يكون قد دخل حقلا علميًا آخر هو علم البديع ويرى أحد الباحثيا ان اول من ادخله في هذا المجال هو: الشيخ عبد الغني النابلسي فتوهّم بعض الدارسين أنّه مخترعه ، على الرغم أنّه أقرّ في بديعيّته ( نفحات الأزهار ) أن هذا الفن اخترعه بعض المتأخرين ، وممّا قاله النابلسي : " وقد أدرجته في فنون البديع لعلوّ مراتبه ، وسموّ مناقبه ، ولطافة مسلكه وطلوع شمس البلاغة في أوج فلكه7"
وأخيرًا لا بد من الإشارة إلى أن أحد العلماء القدامى بين ان أصل هذا المصطلح ليس عربيًا وهو ابن دريد صاحب الجمهرة، وقد ذكر قوله ابن سيده في ( المحكم) حيث قال:
((وحساب الجمل الحروف المقطعة على أبي جاد قال ابن دريد لا احسبه عربيا وقال بعضهم هو حساب الجمل بالتخفيف8)).
أردت من هذا العرض الموجز إظهار القدم التاريخي لهذا المصطلح، والتغير الدلالي الذي طرأ عليه، وطبعًا يحتاج إلى مزيد من البحث والاستقصاء؛ حتى تكون صورته التارخية على أكمل وجه، ولكنه جهد المقل.
الهوامش
1 - ويكبديا العربية ar.wikipedia.org
2- العين ج7/ص 5 .
3- مفاتيح العلوم، ص 195- 196.
4 - السابق، ص 196.
5 - كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم، محمد علي التهانوي، ج1، ص 582.
6 - كشاف اصطلاحات الفنون، ج1، ص568.
7 - حساب الجمل في آثار مدينة حماة، الأستاذ رضوان الحزواني، مقال نشره في جريدة الفداء ، حماة ، سورية.
8 - المحكم والمحيط الأعظم، ج7، ص451