الأحد ٧ شباط (فبراير) ٢٠٢١
بقلم إبراهيم مشارة

المرأة في حياة العقاد وفي أدبه

قضية المرأة وموقف العقاد منها إحدى القضايا الكبرى التي اشتغل عليها العقاد والتي أثارت ضده موجة من النقد أو التأييد حتى لقب من قبل بعض الناس بعدو المرأة ، وتحضر المرأة في دواوين العقاد الكثيرة ك"يقظة الفجر" و"وهج الظهيرة" و"أعاصير مغرب" و"أشجان الليل"، كما كانت محور روايته اليتيمة سارة ، وهي الرواية التي كرست التحليل النفسي لشخصية البطلة، الفتاة اللعوب أليس داغر الشابة الغيداء التي عرفها العقاد في شبابه ثم اكتشف تلاعبها فهجرها، ولربما كانت هذه المرأة اللبنانية الأصل سبب حملة العقاد على المرأة متهما إياها بالخداع المتأصل في جبلتها فقال يوصي الرجل:

خل الملام فليس يثنيهـــا
حب الخداع طبيعة فيهــا
خنها ولا تخلص لها أبدا
تخلص إلى أغلى غواليها

في رواية سارة تطل أيضا شخصية مي زيادة أو هند كما هو اسمها في الرواية وهي المرأة الثانية التي أحبها العقاد وكانت مي ملهمة جيل من الأدباء وقد ذابوا صبابة في حضرتها ولزموا صالونها الأدبي يوم الثلاثاء حتى قال إسماعيل صبري:

روحي على دور بعض الحي حائمة
كظامئ الطير تواقا إلى المــــاء
إن لم أمتع بمي ناظري غـــــــــــدا
أنكرت صبحك يا يوم الثلاثــــاء!

كانت مي محبوبة جيل من الكتاب والشعراء كإسماعيل صبري وعباس العقاد ومصطفى صادق الرافعي وجبران خليل جبران في مهجره الأمريكي وتكشف الأبيات التي رثى بها العقاد مي زيادة مبلغ الحب الذي حمله لها، يتجلى ذلك في لوعة الفراق وحسرة الموت وتباريح الشوق والتهيام:

أين في المحفل مي يا صحاب؟
عودتنا هاهنا فصل الخطـــاب
عرشها المنبر مرفوع الجناب
مستجاب، مستجيب حين يدعى
أين في المحفل مي يا صحاب؟

وفي المرحلة العمرية المتقدمة للعقاد عرف العقاد في صالونه الذي كان يعقده يوم الجمعة بشارع السلطان سليم بمصر الجديدة الممثلة المصرية "مديحة يسري" الخمرية التقاسيم، الحلوة الشمائل التي تهيمن بجاذبية شبابها وأنوثتها الصارخة على المجلس وخصها العقاد بكثير من قصائد الحب والشوق بالرغم من كونه شيخا تقدم به العمر وكانت هي في مقتبل مسارها الفني والعمري وقد كانت تجامله دون أن تثير أحزانه وتحرك لواعجه كما وثق ذلك أنيس منصور في كتابه" في صالون العقاد كانت لنا أيام".

ثلاث نساء يحضرن بقوة في دواوين العقاد الشعرية وفي مقالاته. كما خص العقاد المرأة بكتب كاملة تشرح نفسية المرأة وجسمانيتها وتتناول تاريخها الاجتماعي والإنساني والثقافي والنفسي وتصور القرآن الكريم لها خاصة في مؤلفيه "هذه الشجرة" أهم مؤلف للعقاد عن المرأة و"المرأة في القرآن الكريم ".

في البداية ظل العقاد ينفي التهمة التي ألصقها به خصومه وألصقتها به المرأة كما ألصقت بتوفيق الحكيم وهي كونه عدو المرأة فقد ظل العقاد ينفي ذلك و أنه يريد وضع المرأة في مكانها الطبيعي الذي وضعتها فيه الطبيعة حسب تركيبتها النفسية والبيولوجية ووظيفتها الإنسانية والاجتماعية في الحياة ،دافع العقاد عن حق المرأة في التعليم ودافع بحرارة عن قاسم أمين وكتابه المرأة الجديدة وسأل المرأة أن تطرز منديلا فيه صورة قاسم أمين عرفانا بفضله عليها لأنه دافع عن حق المرأة في التعليم ودافع عن سائر حقوقها الطبيعية بل كانت إحدى نابغات مصر هي تلميذته نعمات أحمد فؤاد . لم يجار الكاتب الجمعيات النسوية التي كانت رائجة في مصر أيامئذ بل دعا إلى حياة يقتسم فيها العمل بين الرجل والمرأة - وهذا الموقف عد رجعيا من العقاد من قبل خصومه من النساء والرجال- فشغل المرأة في البيت لإعداد وتربية الجيل واعتبر هذه الوظيفة أقدس وظيفة ورسالة للمرأة في الحياة ولا يعني ذلك رفضه لعمل المرأة بتاتا بل حصره في زوايا ضيقة لعل أهمها تداعيات الجانب الاقتصادي أو حاجة المجتمع إلى تخصص أنثوي لا يمكن للرجل القيام به ، كما رفض بشدة دعاوى الجمعيات وبعض الكتاب القائلين بالمساواة المطلقة بين الجنسين وسخر منها فمعروف تحيز العقاد للذكورة كحاملة لواء العلم والفن والثقافة والدين وهذا في رأيه لا يقدح في المرأة فتشريح الدماغ للرجل مثلا يكشف اختلافه عن دماغ المرأة وهذا السبب هو الذي جعل الرجل حسب رأيه يتفوق على المرأة حتى في مجال اختصاصها كالطبخ والأزياء فكبار الطهاة ومصممي الأزياء هم رجال بل الرثاء حيث تعتبر العواطف من اختصاص المرأة نجد قصائد الرثاء البديعة والشجية والعظيمة هي قصائد رجالية وليست نسائية ويستشهد لذلك بقصيدة أبي العلاء "غير مجد في ملتي واعتقادي" فهي في رأيه أبلغ من ديوان الخنساء برمته التي قضت عمرا في البكاء والأحزان .مبدأ الاختلاف بين الرجل والمرأة يتجلي في الجانب التشريحي فالعقاد يرى أن الاختلاف بين الذكر والأنثى يكاد يتلاشى في الكائنات البسيطة ويتعقد ويكثر في الكائنات الحية صعودا إلى الإنسان حيث يكثر ويترسخ ويبرز بشكل كبير وما هذا الاختلاف حسب رأيه إلا لاختصاص المرأة بتربية النشء وإعداد الجيل وأداء الرسالة الاجتماعية والإنسانية الموكلة بها وهي تدبير عمل المنزل، الخلية الأولى في بناء المجتمع . وفي كتابه المرأة في القرآن الكريم خاض العقاد في تفاصيل الأحكام المتعلقة بالمرأة كقوله تعالى "وللرجال عليهن درجة " و"الرجال قوامون على النساء "وهي يرى أنها لا تعني أفضلية بقدر ما تعني وظيفة في الحياة اعتمادا على التشريح والفيزيولوجيا الأنثوية والتركيبة النفسية للمرأة.

لكن الأراء التي أثارتها المرأة ضد العقاد وأثارها الكثيرون ضده كذلك فهي رميه للمرأة بالخداع المتأصل في جبلتها ولم يكن العقاد يرى في ذلك انحرافا للمرأة عن تركيبتها نظرا لكونها تمثل الجانب الغريزي في الحياة وهي عملية الإغراء والانتظار والكيد والتكاثر و عاطفة الأمومة وهي حكمة الحياة ذاتها في الحفاظ على النوع فالمرأة تتجمل وتتزين وتبرز وتنتظر من يظفر بها بل كتب أن نساء المجتمعات القديمة المحاربة كن يجلسن على أسوار المدن ينتظرن نتيجة المعركة فإذا انتصر الأعداء ارتمت النساء في أحضان الفاتحين وهم قتلة الآباء والأبناء والأزواج، وكان يحلو له التهكم من فكرة الوفاء عند المرأة فيروي نكتة عن أوسكار وايلد في حضرة مريديه من أمثال زكي نجيب محمود وأنيس منصور وعبد الرحمن صدقي وطاهر الطناحي وصلاح طاهر وفحواها أن امرأة من شدة الوفاء لزوجها الراحل احمرت شفتاها ولا شك في هذه النكتة المروية عن وايلد مرارة كان يداريها العقاد بالتهكم فقد تعرض لمأساة أولى في علاقته ب أليس داغر وتكاثر العشاق على مي وادعاء كل واحد أنها تحبه لوحده ثم عاطفة الإشفاق عند مديحة يسري -لا عاطفة الحب- إنها نوع من البركان العقادي ينفث حممه ليعالج جراحه.

تحضر كثيرا مصطلحات خاصة في كتابات العقاد عن المرأة كالإغراء، والكيد والاحتجاز الجنسي، العناد ،التناقض وهي بلا شك لا ترضي من يتحمس لقضايا المرأة بشكل متعجل وربما سطحي.

انتصر العقاد في قضايا المرأة لموقف الإسلام منها وتصوره لها ودورها الريادي في الإعداد والتربية والتكوين مناقشا ومفندا الرأسمالية التي جعلتها مجرد سلعة والاشتراكية التي انتهت بها إلى مشاعية - حسب رأيه- بينما الإسلام ساوى بين الرجل والمرأة في المنشأ وفي الجزاء والمصير وفي الدور في الحياة على اختلاف في المهام وفند الأطروحات التي وصمت موقف الإسلام بالرجعية في قضية المرأة كقضايا التعدد، القوامة، عمل المرأة.

وعلى الرغم من أن أراء العقاد ليست يقينا ولا نتائج نهائية إلا أن بعضا منها ليس مجرد أراء بل أفكارا تستند إلى علوم التشريح والنفس والأنثروبولوجيا والتاريخ.

وإن اتهم العقاد بمهاجمة المرأة فقد كان شاعرا رقيقا ونفسا ضعيفة أمام تباريح الشوق والصبابة:

ظمآن لا صوب الغمــــــام ولا
عذب المدام ولا الأنداء ترويني
أصاحب الدهر لا قلب فيسعدني
على الزمان ولا خل فيأسـوني
يديك فامح ضنى يا موت في كبدي
فلست تمحوه إلا حين تمحوني

وقد ظلت المرأة ملهمته وحاضنة إبداعه على الرغم من الجهامة التي يبدو بها والقسوة التي يعامل بها معارضيه السياسيين والمفكرين وهي إضافة مهمة إلى حقل الدراسات الفكرية عن المرأة وقضاياها، فمازالت قضية المرأة إحدى أهم قضايا الإنسانية برمتها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى