السبت ٢٩ آب (أغسطس) ٢٠٢٠
بقلم شعبان أحمد بدير

«المرايا المتقابلة» قراءة في شعر محمد سعيد شحاتة

الشاعر الدكتور محمد سعيد شحاتة، شاعر صاحب رؤية فنية وفكرية عميقة، يكتب الشعر بوجدان المفكر، وخيال الفيلسوف، وريشة فنان مرهف الحس، يمتاح ألفاظه من معجم لغوي موح ومتجدد، فيضيف إليها ذاته الشاعرة الحالمة المتطلعة نحو المثالية.

عندما تقرأ له فإذا بك تقرأ عن الذات الحائرة المعذبة التي فقدت جزءا من اتزانها مع الواقع الممزق المهترئ، ولكن الشاعر لا يفقد الأمل، فيأخذ ما تبقى من أحلامه الدفينة، وإشراقات روحه التي تضيء له قبسا من عتمة النفس ويلقيها على حروف القصيدة لعلها تفتح له باب الأمل نحو الحياة.

ويمتاز شعر محمد سعيد بتداخل الشعري بالسردي، وانفتاح النص على آفاق فنية متعددة، تتماهى فيها الحداثة مع التراث، والحدث مع الحوار والرغبة في الحكي الذي يكشف علاقته بالعالم من حوله، سعيا نحو التطهير، فالشعر عنده يحمل رسالة تطهيرية أرسطية من خلال الكشف والبوح وإعادة صياغة العالم من جديد في لغة مجازية مكثفة وبنصّية تفعيلية حرة منحت القصيدة بنية نصية تفتح أفق الخلق على مداه اللانهائي.

ونقتطف من شعره نموذجا ديوان (نهر وحقول مقفرة)، يقول محمد شحاتة:

يا التي جئتِ مسكونةً بالسنين
وممهورةً بالحنين
المرايا التي تتبخترُ في مقلتيْها القصيدةُ
صلصالُها الغيمُ
والقلبُ ربوتُها
صافحتْها يداكِ فغنَّتْ
والمرايا التي تتعانقُ في مقلتيها الجراحُ القديمةُ
تاريخُها العمرُ
والقلبُ صفحتُها
لمستْها يداكِ
فأنَّتْ
والعيونُ التي تستبيحُ القصيدةَ
كيما تُرَمِّمَ قلبًا تآكلَ
بين الجراحِ وبين الموانئِ
مسكونةُ بالمدى
كحصانٍ جموحٍ
يُلَمْلِمُ عمرًا تبعثرَ بين الرياحِ
وبين المدائنِ
تختزلين المدى والمدائنَ
والزمهرير
مُكَلَّلةً بالغيومِ تجيئين يا جبهةَ الغيمِ
عند احتراقِ المواسمِ
مغمورةً بالندى

قصيدة تحمل فيها الذات الشاعرة صراع الزمن الأبدي في المرايا المتقابلة، بين واقع نعيشه على الوهم، وماض جراحه ساكنة في اللاشعور، ورمز (المرايا) حاضر في الكثير من دواوين الشاعر وقصائده، وهو رمز من التراث الصوفي العربي الذي تقترن فيه رمزية المرآة بأحوال الشهود، حيث يرى فيها العارف الحقائق التي تنزاح عنها الحجب، كما لو كان يتطلع إلى مرآة.

قول ابن الفارض:

أنظر في مرآة حسني كي
أرى جمال وجودي في شهودي طلعتي
رفعت حجاب النفس عنها بكشفي
النقاب فكانت عن سؤالي مجيبتي

وقريبة منها الرمزية ذاتها مع الشاعر الحداثي كأدونيس خاصة في ديوانه (المسرح و المرايا) وغيره من الشعراء أصحاب الرؤى العميقة الذين يحاولون الغوص في المعاني والكشف عن أسرار العالم بحثنه وقبحه، بحثا عن الجمال، ولذلك توظف المرايا في شعر محمد شحاتة بصورة متقابلة، يقول:

المرايا التي تتبخترُ في مقلتيْها القصيدةُ
صلصالُها الغيمُ

وفي المقابل، تعكس له المرايا الجراح التي تزف داخل الذات:

والمرايا التي تتعانقُ في مقلتيها الجراحُ القديمةُ
تاريخُها العمرُ

وبين الفعلين: (غنت وأنت) -بما فيهما من جناس موسيقي- تتلخص الحياة ببريق واقعها وجراح ماضيها التي تتلمس في حروف القصيدة ما يرمم كسور القلب ويعيد للروح الأمل، ويلملم أشلاء الذات.

والعيونُ التي تستبيحُ القصيدةَ

كيما تُرَمِّمَ قلبًا تآكلَ
...
كحصانٍ جموحٍ
يُلَمْلِمُ عمرًا تبعثرَ بين الرياحِ
وبين المدائنِ

قصيدة تتلبس فيها اللغة ذات الشاعر ويتماهى فيها الخيال بالزمن على أبعاده المختلفة، فتنتج صورا مغمورة بالندى، وتتقابل فيها الصور العكسية على المرايا المتقابلة، ويعتمل خلالها ديالكتيك الخير والشر، سعيا نحو التطهير، فتنتصر الذات، وتطفي الغيوم حرارة الزمهرير.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى