المنفى، بين وهم المباهج وحسرات الواقع!
قراءة في الإصدار الجديد للمترجمة الفلسطينية، سوسن كردوش قسيس، الترجمة العربية لرواية "خيرة أولاد الله"، للكاتب الدنماركي، مورتن بابي
يعتقد البعض أنّ للمنفى في بلاد الغرب، مباهج ينعم بها كل من "حالفه الحظّ" ووصل إلى إحدى تلك الدول. ولكنّ الكاتب الدنماركي، مورتن بابي، في روايته الأخيرة، "خيرة أولاد الله"، يرى غير ذلك. فالرواية تقدّم صورة قاسية للحسرات التي يعيشها هؤلاء المنفيّون بعيدا عن أوطانهم. وقد أتيحت لنا فرصة الاطّلاع على تلك الرواية بعد أن صدرت مؤخّرا، عن دار "سند" للترجمة والنشر، ترجمتها العربية التي قامت بها المترجمة الفلسطينية، سوسن كردوش قسيس.
تقع الرواية بترجمتها العربية في 454 صفحة، وقد اعتمد الكاتب تقسيمها إلى مقدّمة وأربعة فصول وخاتمة. طُبع من الرواية في طبعتها الأصلية (الدنماركية) الأولى، عشرة آلاف نسخة، الأمر الذي لا يجرؤ على فعله أكبر الروائيين أو الناشرين العرب، بسبب ضيق مساحة القراءة في العالم العربي.
المترجمة:
السيّدة سوسن كردوش قسيس، كاتبة فلسطينية من مواليد الناصرة، تعيش منذ أكثر من ثلاثة عقود مغتربة في العاصمة الدنماركية، كوبنهاغن. تعمل بشكل عام في حقل الترجمة بفروعها المختلفة، من اللغتين الدنماركية والإنجليزية إلى العربية. وجدير بالذكر أنّها في مسيرتها الطويلة مع الترجمة، اهتمّت أيضا بتعريف القارئ العربي على الأدب الدنماركي، فترجمت حتى الآن، أربعة أعمال روائية وقصّة لأطفال، لكتّاب دنماركيّين قد لا يعرف القارئ العربي عنهم شيئا، رغم أنّ بعضهم من الكتّاب المعروفين في الدنمارك وخارجها. وقد صدرت الترجمة العربية كما يلي: رواية "زيارة طبيب صاحب الجلالة"، للكاتب السويدي، بير أولوف إينكويست، الذي عاش في الدنمارك، صدرت عام 2015. رواية "مجرّد أنثى"، للكاتبة الدنماركية، ليزا نورغورد، صدرت عام 2017. رواية "العربية السعيدة"، للكاتب ثُوركل هانسِن، صدرت عام 2018. قصة للأطفال بعنوان "الغيلم الذي أراد أن يتسلق جبل إيفرست"، للكاتبة لينا ليونهارت، صدرت عام 2019.
ومؤخّرا، هذا العام، 2021، صدرت لها الترجمة العربية لرواية "خيرة أولاد الله"، للكاتب الدنماركي، مورتِن بابي.
الترجمة العربية لرواية "خيرة أولا الله":
أثناء قراءتي للرواية، وبعض ما قرأته حولها، شعرت بمدى الجهد الذي بذلته المترجمة للحفاظ على أمرين أساسيّين: الأول، الأمانة في نقل الرواية من الدنماركية إلى العربية مع الحفاظ على روح النصّ كما جاءت في الأصل الدنماركي. والثاني، الاهتمام بأن تكون لغة النصّ العربية، ملائمة لطبيعة الشخصيّات كما جاءت في النصّ الأصلي. ولم يكن الأمر سهلا، خاصة وأنّ معظم شخصيات الرواية، جاءت من قاع المجتمع، من أحياء الفقر والتّفكّك الاجتماعي المشحونة بالجهل والكراهية والعنصرية، فلغتها هي لغة سوقية، لغة الشارع، وتنطوي على كثير من المفردات البذيئة. وقد تمكّنت المترجمة من الالتفاف بشكل حاذق على بعض المفردات والعبارات البذيئة التي لم تشأ ذكرها نصّاً، لما فيها من خدش للحياء قد تتقبّله الذّائقة الدنماركية وترفضه الذّائقة العربية.
في رواية "خيرة أولاد الله" التي نحن بصدد الحديث عنها، يبدو لي أنّ الدافع إلى ترجمتها، قد يكون هو نفسه دافع الكاتب إلى كتابتها. وهو أولا، إثبات أنّ الجريمة التي تُشكّل الحدث المركزي في الرواية، حدثت بدوافع الكراهية والعنصرية ضد المغتربين الذين لجأوا إلى الدنمارك من الشرق أو من أفريقيا، وعدد لا بأس به منهم جاء من العالم العربي. وثانيا، فضح السلطة التي لا تتواطأ مع العنصريين فحسب، بل تُحرّضهم على ذلك أيضا. فالسلطة، ممثّلة بالشرطة والنيابة العامّة ورئيس الوزراء، هي نفسها موبوءة بالعنصريّة، فقد اجتهدت من منطلقات عنصرية وسياسية، على أن تنفي أنّ تلك الجريمة حدثت بدوافع عنصريّة، لا بل تغاضت عن تلك الدوافع ولم تُعرها أيّ اهتمام، واكتفت بالتصريح أنّها، أي الجريمة، "غير مبرّرة".
الكاتب:
مورتن بابي هو كاتب دنماركي ولد عام 1986 في حيّ "أماير" في العاصمة الدنماركية، كوبنهاغن، في بيئة تميّزت بالعنف والتّفكّك الأسري والاجتماعي. لكنّه نجح في تخطّي تلك الصعوبات وشقّ طريقه في كتابة الروايات وسيناريوهات الأفلام. صدرت روايته الأولى، "الخطّة"، عام 2015، وقد حازت على جوائز عديدة. وهي عبارة عن سيرة ذاتيّة له، قال عنها إنّها رواية محكومة بالخوف الذي يُسيطر علينا جميعا، فكلّ شخصياتها، الرئيسية وغير الرئيسيّة، تخاف من شيء ما، من المتنمّرين أو الوحوش أو البلدية أو العنصريّين أو المهاجرين (المسلمين عادة). الكلّ يخاف ويسمح لمخاوفه أن تُسيطر عليه. ويُمكن اعتبارها في الوقت نفسه، رواية تاريخيّة يمتدّ زمنها على مدى عشرين عاما، نجحت في نقل المضمون بعدّة طرق تُلائم تعقيدات البيئة التي عاش فيها. فموضوع الاندماج في البيئة مثلا، يشغل مساحة كبيرة في رواية "الخطّة". وككلّ روايات السيرة الذّاتية، بطل الرواية وراويها وكاتبها، وجوه لشخصيّة واحدة. وقد قام الكاتب في روايته، "الخطّة"، بما يُسمّيه نوعا من "التّكامل العكسي"، وأظنّه قصد بذلك، البحث عن القواسم المشتركة مع الآخر، بينه وبين أصدقائه من المهاجرين (المغتربين) الذين ليس لديهم أيّ شيء مشترك مع المجتمع والبيئة التي يعيشون فيها (المجتمع الدنماركي)، إلّا ذلك الشعور الذي يتقاسمه البطل (الكاتب) معهم، الشعور بالاغتراب عن مجتمعه وبيئته.
الكاتب مورتن بابي، كاتب متنوّر، قد يكون اهتمامه الإنساني بالمغتربين في مجتمعه، وبأنماط معيشتهم المحكومة بالجهل والفقر وكلّ ما من شأنه أن يُؤدّي إلى الانحراف والفشل، واهتمامه كذلك بسياسة السلطة المحكومة بالإهمال من منطلق عنصري تجاههم، هي أقوى الدوافع لكتابة روايته الثانية، "خيرة أولاد الله" (2018). وقد أظهر الكاتب في روايته هذه، معرفة عميقة بأحوال السكّان الأصليّين وكذلك أحوال المغتربين، وخاصّة الشباب من الفريقين، الشباب المهملين الذين تعدّت معرفته بأحوالهم وظروف معيشتهم، إلى المعرفة الدقيقة باللغة التي يتعاملون بها، وهي لغة الشارع المحمّلة بالعنف والعنصريّة والكراهيّة. وقد حافظ الكاتب على أصالتها بشكل لافت. وهو أمر اجتهدت المترجمة أيضا في الحفاظ عليه حين نقلت الرواية إلى العربية.
بهذه الرواية، وهي الثانية للكاتب، يرى بعض النقّاد أنّ مورتن بابي رسّخ موقعه في الساحة الأدبيّة في الدنمارك وخارجها، ففي فترة قصيرة جدّا، حصدت الرواية العديد من الجوائز، وتُرجمت كذلك لأكثر من خمس وعشرين لغة، من بينها مؤخّرا، اللغة العربية، على يد الكاتبة والمترجمة سوسن كردوش قسيس.
الرواية:
الرواية، "خيرة أولاد الله"، كما توافقت حولها آراء بعض النقّاد الدنماركيين مع رأي الكاتب، هي رواية مناسبة بشكل خاصّ للمكتبات والمؤسّسات الثقافية والتعليمية والاجتماعية، ذلك لأنّها تُعالج مشكلة الشباب الذين خذلهم المجتمع وأهملتهم السلطة، وساهم إهمالها لهم في انحرافهم وفشلهم، لينحدروا إلى الهاوية، وليُواجهوا مصيرهم المحكوم بالانحراف والفشل والخراب، في بيئة موبوءة ينهشهم فيها العديد من الآفات الاجتماعية. وقد لا يكون العنف والمخدّرات أخطر تلك الآفات التي تُساهم في تدمير حياتهم الاجتماعية والنفسيّة، وبالتالي، حياة المجتمع بأسره. قد يكون الأخطر هو إهمال السلطة لهؤلاء الشباب وتغاضيها عن كلّ ما لديهم من طاقات واستعداد لفعل شيء نافع. وقد ساهم إهمال السلطة في فشل المجتمع في توجيههم واستثمار قدراتهم. وعليه فإنّ اختيار المترجمة لهذه الرواية بالذّات، يُعبّر عن حرصها على سلامة مجتمعنا العربي وسلامة شبابنا الذين تخاف عليهم من الانحدار إلى هاوية تلك الآفات.
من حيث المبنى، تدور أحداث الرواية في أواخر العقد الأول من القرن الحالي، في حيّ "أماير" (Amager)، وهو من المناطق التي تحتوي على مجموعة من أحياء الفقر في تخوم العاصمة الدنماركيّة، كوبنهاغن. وقد أوكل الكاتب مهمّة السرد إلى الراوي كلّي المعرفة، إلّا أنّه لم يُغفل منظور بعض شخصيّات الرواية، فكان كثيرا ما ينقل مهمّة السرد إلى إحداها، لتقوم بالسرد من منظورها الخاصّ، منظور الأنا الشاهد المشارك، ما دفع عنصر التشويق في الرواية وأعطاها الكثير من المصداقية. وقد برز ذلك بشكل خاصّ لدى ميكي، سيمون وجميل، وثلاثتهم من الشخصيّات المركزية في الرواية، وذلك ما جعل الرواية بوليفونية بامتياز، تتعدّد فيها الأصوات ووجهات النظر. وظنّي أنّ الكاتب جعلها كذلك ليس من منطلق ديمقراطيّة النصّ ودعوته للحريّة فقط، بل ليُسمِع الناس تلك الأصوات المستغيثة، وليصرخ في وجه السلطة ويُنبّهها إلى ضرورة إصغائها هي أيضا لتلك الأصوات.
من خلال سرد الشخصيّات، أطلعنا الكاتب على دواخلها، وخاصة ميكي، أحد السكّان الأصليّين، وهو القاتل، مرتكب الجريمة. فقد تكشّف بوح ميكي عن مونولوج محموم ينضح كراهية وعنصريّة وميْلا لصرف طاقاته في العنف، وبوحشيّة أفقدته كلّ مشاعره الإنسانية. يظهر ذلك في الرواية في مواقع كثيرة، ولكن برز بشكل خاصّ، في بوح ميكي الذي فضح مدى عنفه ووحشيّته، حين سرد لنا كيف تمثّل أمامه ذلك الثور الضخم، "البيسون"، وكيف تماهى معه لدرجة أنّه شعر أنّهما شيء واحد (ص 303 وما بعدها).
أمّا جميل، مغترب من أصل عربي عراقي، فهو جار المغدور، زكي، المغترب من أصل تركيّ، وكانا صديقين وزميلين في العمل، فقد اجتاحته بعد وقوع الجريمة وموت زكي، حالة نفسية صعبة، حالة من الشعور بالذنب والمسؤوليّة عن موت زكي، يُرافقها شعور بالخزي والعار، لعجزه عن حماية صديقه أو الدفاع عنه. بسبب تلك الحالة، دخل جميل مستشفى الأمراض النفسيّة لتلقّي العلاج، وبعد خروجه منه، عاد إلى الحيّ، "أماير"، ليبدأ حياة جديدة ظنّ أنّه يستطيع أن يُرمّمها ويُعيدها إلى مسارها الصحيح حين قال: "عليّ أن أعتاد على حياتي من جديد" (ص 363)، إلّا أنّه لم ينجح في ذلك، فقد ألحّت عليه فكرة الانتقام من المجرميْن، ميكي وسيمون، اللذين قتلا بدافع العنصريّة والكراهيّة، زكي، أفضل صديق له. "سوف أنال منهم واحدا تلو الآخر وأسحق رؤوسهم بالأرض" (ص 366)، هكذا صرّح بنوع من التهديد، إلّا أنّه لم يُنفّذ تهديداته، فالمجرم في السجن، وعلى ما يبدو لم يُطق هو انتظار خروجه، ولذلك، دفعه شعوره بالعجز إلى اليأس ثم إلى الموت غرقا في البحر، ربّما لأنّه في لحظة ما، كان أسير هواجسه ولم يكن يعي ما يقوم به، أو، وهذا الأرجح، أنّه انتحر نتيجة عجزه ويأسه والضغط النفسيّ الذي كان ينتابه.
شخصيات الرواية كلّها مأخوذة من الواقع كما هو في حيّ "أماير" أو في أحياء الفقر التي يعيش فيها خليط من المغتربين والسكّان الأصليين، في بيئة ينتشر فيها العنف وتعاطي المخدّرات والاتّجار بها. وبعض الشخصيّات مأخوذة من المؤسّسات المختلفة التي تُمثّل السلطة، والتي تتعامل مع المنحرفين، مثل الشرطة والمدارس ومؤسّسات العمل الاجتماعي وغيرها.
يظلّ مضمون الرواية هو أكثر ما يهمّنا فيها، لأنّه يُشكّل الدافع الحقيقي لاهتمام المترجمة بها وبنقلها إلى العربيّة والقارئ العربي.
في روايته الأولى، "الخطّة، (2015)، نقل الكاتب بجرأة لافتة، الواقع الذي عاشه، بكل ما فيه من خوف وآفات ومآس اجتماعية يعيشها سكان حيّ "أماير" من دنماركيين ومغتربين. ولم يبتعد عن ذلك الواقع في روايته الثانية، "خيرة أولاد الله"، رغم أنّه في إبداعه لها، انتقل من الواقع إلى الخيال. فالرواية وكلّ أحداثها وشخصيّاتها من نسج خيال الكاتب، إلّا أنّها تنطلق من الواقع ذاته، فدافع كتابتها وحامل السرد فيها انطلق من حادثة وقعت بالفعل في حيّ "أماير" المذكور، وفي السنة نفسها، 2008، التي تنطلق منها أحداث الرواية في الحيّ الذي عاش فيه الكاتب. والحادثة عبارة عن جريمة قتل بشعة نفّذها ثلاثة فتية دنماركيّين ضدّ صبيّ تركيّ مغترب، بوحشيّة أملتها دوافع الكراهيّة والعنصريّة والعنف، التي أقلقت الكاتب ودفعته لكتابة الرواية.
إذن، "خيرة أولاد الله" رواية واقعيّة انطلق فيها الكاتب إلى تخييل الواقع المعيش، لا لينقل لنا فقط تلك الجريمة البشعة التي اقترفها القاتل، والجريمة التي ارتكبتها السلطة كما يلائمها، بغض الطرف عن الجريمة ومرتكبيها، بل لينقل لنا تلك المأساة وغيرها الكثير من المآسي التي يعيشها الفرد والجماعة في قاع المجتمع الدنماركي بكل مركّباته، متّخذا من "أماير" الفضاء الذي تنطلق منه أحداث الرواية، لتصل إلى أحياء أخرى قريبة منه أو بعيدة عنه، قد يلجأ إليها الشباب هروبا من واقعهم، أو حين تُبعدهم السلطة.
الجريمة والبيئة
سيمون وميكي، أولاد الأختين (الخالتين)، البالغان من العمر 17 و15 عاما، يقومان بقتل زكي أمام ناظري جميل، جاره وصديقه وزميله في العمل، وقد اشتغل جميل مع زكي ليُشجّعه على تسديد الغرامة التي فُرضت عليه بعد مشاغبة قام بها في المدرسة. كان جميل مجتهدا ينكبّ على الدراسة والمطالعة، ولهذا كان مطّلعا على الكثير من جوانب الأدب الدنماركي. أمّا عمله في توزيع الجرائد، فقد كان عملا إضافيّا ادّخر النقود التي جناها منه لمساعدة زكي وليس لنفسه.
كان سيمون وميكي يتجوّلان بسارتهما في شوارع الحيّ، ويبحثان عن ضحيّة تُخفّف ضغط الكراهيّة الذي يشعران به ضدّ المغتربين، بينما كان زكي وجميل، المغتربان اللذان يعملان بتوزيع الجرائد، جالسين يستريحان من التوزيع ويأكلان البيتزا. بعد عدّة حركات عنيفة بالسيارة، اقترب سيمون وميكي من زكي وجميل واتّهماهما بالتحديق فيهما. "هل ترغب بتذوّق العصا أيّها الباكي الخنزير؟". هذا ما قاله السمين (ميكي) قبل أن يهوي بالعصا على رأس زكي، وقد كانت عيناه "لا يشعّ منهما إلّا بريق التمتّع بكراهية الغير". وبعد الضربة، وبلامبالاة تامّة، قال الأطول من بينهما (سيمون): "أتت الضربة في المكان الصحيح" (ص 8).
الـ "باكي"، (Paki) بالإنجليزية، و(Perke) بالدنماركية، هي مفردة ظهرت أولا في إنجلترا، استعملها العنصريّون للحطّ من قيمة الباكستانيين والأجانب من شرق أسيا، وبعد ذلك اتسعت وعبرت الحدود لتشمل العرب وكل الأجانب من ذوي البشرة القمحيّة والسمراء (الهامش ص 8). وهذا يكشف أنّ العنصرية وكراهية المغتربين، كانتا منتشرتين في أوروبا، وكثيرا ما أدّت إلى ارتكاب الجرائم. وهذا هو الدافع الحقيقي وراء القتل في الرواية، العنصرية والكراهية على خلفية عرقيّة، ممزوجة بالجهل وبتراكم العنف المنزلي. يُؤكّد ذلك كون الجاني من أصحاب السوابق في هذا المجال، وكان معروفا للشرطة وللمؤسّسات الاجتماعية التي تتعامل مع أمثاله، فبدا كأنّه طفلها المدلّل للسلطة، رغم انّها لم تقصد معاملته كذلك، وإنّما اتبعت معه النهج التربوي الذي تسلكه عادة، فمثلاً في المدرسة منذ أن كان في الحضانة، وردت تقارير عن معاناته من الحركة المفرطة وقلّة التركيز، ثم في المدرسة سرق من الأستاذ السكين وسخر من الأطفال، وحاول الاعتداء جنسياً على المشرفة الاجتماعية، وجنّن المشرف، كلاوس، الذي كان يرافقه، وكذلك تصرّف مع أصحاب مكان سباق السيارات، وكان عنيفاً مع أمّه ومع كريستيانيا، الفتاة التي تعرّف إليها، فقد شوّه لها وجهها، وخان الشخص الدنماركي الوحيد الذي صادقه في السجن، وتركه مُلقى على الأرض، ربما ميتاً، كما ضرب المعلّم في الإصلاحية، وحين سمع الصيحات من خلفه، ذكره ذلك بمقتل زكي. وقد هدّد ابن خالته نفسه. هذا وغيره الكثير، يُؤكّد أنّ ميكي حالة مرضيّة، وضعها الجهل في إطار الكراهية والعنصرية.
المؤسف حقّا، أنّ الشرطة والسياسيّين، استغلوا القضية والتعتيم عليها، لمصلحتهم. وفي النهاية، وبعد بلوغ ميكي السنّ التي تجوز فيها محاكمته، وبعد احتضانه في مؤسّسات اجتماعية مختلفة، ورغم الأعمال الوحشية التي ارتكبها أثناء وجوده في تلك المؤسّسات، بالإضافة إلى محاولاته العديدة للهرب منها، جاء الحكم ضدّه، السجن أربع سنوات، مخفّفا لا يليق بمجرم فاسد دفعته كراهيّته وعنصريّته لارتكاب أبشع الجرائم، بحقّ أناس لا ذنب لهم إلّا فقرهم ولون بشرتهم.
من خلال سرد الأحداث، استطاع الكاتب نقل صورة صادقة وقاسية قد تُزعزع القارئ، للمجتمع الدنماركي في أحياء الفقر، بمركّباته من سكان أصليين وآخرين مغتربين لجأوا إلى الدنمارك وغيرها من دول الغرب، من الشرق وأفريقيا، هربا من الظلم أو الفقر في بلادهم، أو من كليهما. وقد ركّز الكاتب في نقله للصورة، على حياة الشباب المهملين المتروكين للعنف والمخدّرات وغيرها من الآفات الاجتماعية والاقتصادية. ولهذا، كان لفضح السلطة دور أساسيّ في الرواية. ولم يَغفل الكاتب عن العنصرية التي كانت عند الأجانب أنفسهم وبين بعض البعض، فمثلاً، أم جميل حين ذهبت لتسأل عن سارق دراجة ابنها، وحين فتحت لها الباب امرأة صومالية، عادت أدراجها وهي تقول لابنها: "لا فائدة من الصوماليين" (ص 35).
مورتن بابي يفضح السلطة
ذكرنا سابقا أنّ الدافع الأساسي وراء كتابة الرواية، هو الدوافع العنصرية للقتل، والتي عمل المسؤولون عن التحقيق في ظروف الجريمة، ومعهم السلطة، عملوا بسرعة على حجبها من منطلقات سياسية وعنصرية أيضا. وقد استند الكاتب في ذلك إلى تصريحات اقتبسها من أقوال رئيس قسم التحقيق في شرطة كوبنهاغن. وقد أبرز ذلك في أقوال جميل: "السيّدة التي حقّقت معي قالت لي إنّ الموضوع (ارتكاب الجريمة) لا علاقة له بالعنصرية" (ص 388)، وأكّد ذلك على لسان فيليب، وهو طالب يهتمّ بحالة القتل هذه، ويُريد كتابة دراسة حولها. ففي محادثة بينه وبين جميل قال فيليب: "أشمّ رائحة فساد ما في معالجة قضيّة زكي برمّتها ... رجال الشرطة لم يُكلّفوا أنفسهم عناء الاستماع إلى ما تفوّه به الجناة من كلمات تشي بالعنصريّة ... كيف استطاعت الشرطة أن تتغاضى عن الدوافع العنصريّة وتنفيها كلّيا، بل هذا العامل لم يأخذ أيّ حيّز في القضيّة نفسها" (ص 428- 429). واستند الكاتب أيضا إلى أقوال رئيس الوزراء الدنماركي آنذاك، والذي تدخّل لأسباب سياسية أيضا، فقد نفى الصبغة العنصرية عن الجريمة ليتجنّب الاصطدام مع السلطة التركيّة، لحاجته لصوتها (تركيا البلد الأصلي للقتيل) لدعم انتخابه كأمين عام للـ "ناتو"، حلف شمال الأطلسي (ص429-431).
وعليه فإنّ الكاتب، بكل جرأة ووضوح ، قصد إلى فضح السلطة، من جهة في إهمالها للشباب في أحياء الفقر والتّفكّك الأسري، ومن جهة أخرى فضح سياستها العنصرية ضد المغتربين، ومن جهة ثالثة، فضح كذبها وتقديم مصالحها على مصلحة المواطن، من أجل تحقيق مكاسب سياسية. ولهذا، ليس غريبا أنّ "خيرة أولاد الله" أثارت اهتماما واسعا وضجّة كبيرة كتلك التي أثارتها الجريمة، وربما لهذا لاقت إقبالا وتجاوبا مذهليْن من القرّاء في الدنمارك وخارجها. وها هي أخيرا بين يدي القارئ العربي، وما من شكّ أنّها أثارت اهتمامي وإعجابي، ما يُؤكّد أنّ الجهد الذي بذلته المترجمة يستحقّ التقدير.
خلاصة:
في اعتقادي أنّ خلاصة القول في الترجمة العربية لرواية "خيرة أولاد الله"، هي أنّ المترجمة، الكاتبة سوسن كردوش قسيس، قدّمت للمثقّف العربي عملا إبداعيا يستحق القراءة والتقدير لأكثر من سبب. الرواية كُتبت بفنّية عالية، ونُقلت إلى العربية بأمانة مهنيّة وترجمة فنّية عالية أيضا، إذ استطاعت المترجمة أن تُحافظ على روح النصّ وأصالة لغته. هذا بالإضافة إلى أنّ مضمون الرواية، قد يهمّ القارئ العربي من جهتين على الأقلّ: أوّلا الجهة الإنسانية، وذلك لاهتمام القارئ العربي بأحوال المغتربين، العرب وغيرهم، الذين تركوا بلادهم وضاعوا في منافي الغرب، وثانيا، من جهة معرفية وثقافية لاهتمام المثقّف العربي بالاطّلاع على الثقافة والآداب الأجنبية ومن ضمنها الأدب الدنماركي.
قرأت الروايات الأربع التي ترجمتها الكاتبة سوسن كردوش قسيس، وسبق لي أن كتبت مقالا حول إحداها، رواية "العربية السعيدة"، ولكن جدير بالذكر أنّني قبل قراءتي الترجمة العربية لتلك الروايات الأربع، ورغم زيارتي لكوبنهاغن وتعرّفي على بعض معالمها السياحية والثقافية، ومروري في حيّ "أماير" ربّما أكثر من مرّة، لم تكن لديّ أيّة فكرة حول الأدب الدنماركي. وبفضل تلك الترجمات فقط، سنحت لي الفرصة للتعرّف على بعض النتاج الروائي في ذلك الأدب، ووجدت فيه أدبا إنسانيا يستحقّ القراءة. وقد انتبهت خلال قراءاتي، أنّ السيّدة سوسن في ترجماتها الروائية، وخاصة في العملين الأخيرين، لا تختار بشكل عشوائي الأعمال الروائيّة الدنماركية التي تنوي ترجمتها، بل تختار أعمالا تهتمّ بالشرق بشكل ما، ومن شأنها أن تُثير اهتمام القارئ العربي وتقاسمه بعض همومه.