المواقف.. تكشف خبايا المشاعر وتُسقط الأقنعة
المفاهيم والقيم والقواعد الأخلاقية ليست فقط مجرد كلام عابر وتنظير وحسب، بل هي مواقف ترسخها أفعالنا بشكل مباشر، كونها حقيقية فعلية في حياتنا اليومية وليست مجرد أقوال وحكم نتغنى بها سواء أكانت كتابياً على مواقع التواصل الاجتماعي أم نرددها بأفواهنا، فهذه المفاهيم تُعد بمثابة الضابط الداخلي الأساسي الذي لا يكفي لوحده، والناس ليسوا كلهم أسوياء وواعون بما يفعلونه، لذا تعين أيضا استحضار القوانين سواء التي سنها لنا الخالق عزوجل أو التي وضعها البشر باعتبارها ضابطاً خارجياً ملازماً لتصرفات الفرد والمجتمع، ومما لا يدعوا للشك فيه أن المفاهيم والقواعد الأخلاقية تنحط بتجاوز القانون الإلهي و البشري وعدم إعطائه أي اعتبار لردعه وزجره لكل مخالف لما نص عليه.
فمهما كانت هذه المفاهيم جميلية ومثالية فإنها تبقى بلا جدوى أمام تلك المواقف التي نراها في التصرفات العملية والتي بدورها توجز طريق التعرف عن حقيقة ما يقال وما يتم التغني به بالعلن أمام المجتمع، يحاول الكثير من الأشخاص أن يتصرفوا على عكس سجيتهم، ويبدون ما يعارض باطنهم، وأن يتصنعوا الأخلاق و يتغنوا بالقيم والقواعد الأخلاقية ولكن سرعان ما تكشف المواقف هؤلاء الأشخاص وتٌسقط أقنعتهم وتظهر وجوههم الحقيقية لأنه مهما كانوا على قدر من التمثيل والتكلف ستأتي لحظة ينزعون فيها قناع السلام واللطف ويظهرون فيها على حقيقتهم من دون أقنعة، فالمواقف هي التي تصنع الحب وتكشف خبايا المشاعر والجانب المظلم فيها فموقف واحد يُغني عن آلاف الكلمات.
والتصرفات وحقيقتها تظهر بالمواقف الصعبة، فالإنسان دائما محاط بأشخاص كثيرين الأمر الذي يجعله يعتقد أن لديه صداقات متينة وعلاقات كثيرة غير أنه المواقف والمحن قد تبدد وجود هؤلاء الاشخاص، وكأنهم اختفوا جميعا، وربما الأشخاص الذين لم يتوقع منهم الشخص اي مساندة، كانوا قريبين منه أكثر فأكثر، مبيناً أن ذلك نتاج الشخصية الانسانية التي نشأت ضمن تجارب محدودة، لا تمتلك الأدوات التي تستطيع من خلالها معرفة الناس من حولها وعلى الانسان أن تكون لديه قاعدة أساسية ينطلق من خلالها في علاقاته وكثير من الأمور لا تقترن بالصدق والمصداقية لمجرد وصفها بذلك، فلا يمكنها أن تصيب عين الحقيقة سوى بالمواقف، ولا أبالغ إن قلت أن صدق ما يقال لك لا يثبت إلا بها لا بغيرها، فمعرفة حقيقة تلك الأشياء لا تبرزها إلا المواقف، وإيمانك بها لوحدها هو الذي سيجعل منك إنسانا لا يترك أي مجال لأحد بأن يراوده ويدغدغ مشاعره بالكلام المنمق أو بالوعود المغرية ولا تجعلك تصطدم بعدها بجدار الواقع والتوقعات (فلا يوجد في المواقف نفسها ما يجلب الإرهاق والإجهاد، فهي تحدث ببساطة ، لكن الإجهاد ينتج عن طريقة استجابتنا لتلك المواقف) المؤرخ البريطاني روبرت أشتون.
والأشخاص المخلصون لا يمكن للقرابة ولا الصدفة ولا حتى الأيام أن تنشئهم بل تلدهم لك المواقف، ففي هذه الحياة يلزمك أن تلتفت لها لا لشيء آخر، فمعظم الصادقون هم أصحاب المواقف الذين يتبنون القيم الإنسانية قولاً وفعلاً وبصدق وإخلاص، فالمواقف كفيلة بإظهار معادن الأشخاص لنكتشف فيما بعد بأن المظهر والكلام المنمق ليس كل شيء.
لهذا فأوجع الطعنات هي التي تأتيك ممن أعلنوا حبهم وإخلاصهم وأمانتهم وعدلهم بالكلام وخانوا كل ذلك بالأفعال، وبذلك سقطت عنهم القيم الإنسانية التي كانوا يتبجحون بها، واختفى نبلهم وتجلى شرهم الذي لا يمكنه المرور من مرآة المواقف دون أن يُرى بوضوح وأختتم مادتي بكلمات تختصر كل المعاني للإمام الشافعي:
جَزَى اللهُ الشَّدَائِدَ كُلَّ خَيْرٍ
وَإنْ كانت تُغصّصُنِي بِرِيقِي
وَمَا شُكْرِي لهَا حمْداً وَلَكِن
عرفتُ بها عدوّي من صديقي.
فالمواقف.. تكشف خبايا المشاعر وتُسقط الأقنعة.